كان الوقت لا يزال مبكّرًا للنّوم ، لكن لم يجرؤ أحد على الإشارة إلى ذلك. ففي قصر الأمير الثّاني ، كان هو القاعدة و القانون.
عندما يفتح عينيه ، يحلّ الصّباح. و عندما يُغمضهما ، يأتي اللّيل.
“لا يدخل أحد. أحتاج إلى إراحة عينيّ”
“نعم، سموّ الأمير.”
انحنى لوشيوس باحترام وتفقّد الموقد.
وبعد أن تأكّد من أنّه ممتلئ بالحطب، غادر الغرفة.
حدّق فرانز نحو الباب، والإرهاق مرسوم بوضوح على وجهه.
بدا و كأنّه سينهار في أيّة لحظة ، و مع ذلك لم يستلقِ على السّرير مباشرة.
بل غاص في الأريكة الموضوعة عند طرف السّرير، وأغمض عينيه مطلقًا تنهيدةً بطيئة وواهنة.
مرّت بضع دقائق.
وسط صوت احتراق الحطب، ملأ صوت تنفّسٍ ناعمٍ وثابت أرجاء الغرفة.
فرانز، الّذي بدا كأنّه نائم، رفع جفنيه ببطء.
رموشه الطّويلة أرخت ظلالًا على وجنتيه الشّاحبتين.
وبعينَيْن نصف مغمضتين، حدّق في الموقد.
وأثناء تأمّله اللّهب القرمزيّ، ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة … كانت تحمل شجنًا دفينًا.
وبينما ظلّ بصره معلّقًا باللهب المتراقص، ظهر ظلّ خلفه.
لقد ارتفع ذلك الشّبح الأسود الّذي كان مُسطّحًا على البساط بصمت.
وما إن اتّخذ شكلًا بشريًّا كاملًا، حتّى خفَّ صوتُ قماشٍ يتطاير، واختفى الظّل.
وفي لحظة، تحوّل إلى هيئة رجل يرتدي عباءة.
“ما الّذي يُثقل قلبك هكذا؟”
“… هارون”
أدار فرانز بصره ببطء نحو الرّجل الّذي ظهر بجانبه.
ورغم ظهوره المفاجئ من العدم، لم يُبدِ فرانز أيّ دهشة.
انحنى الرّجل، الّذي دُعي هارون، انحناءة قصيرة احترامًا، ثمّ سحب قلنسوته إلى الخلف.
اهتزّ شعره الأخضر النّضر، وتألّقت عيناه الرّماديّتان.
رغم دخوله المُريب، كانت ملامحه تمنح انطباعًا نقيًّا على نحوٍ غريب.
“لقد استُدعيت على عجلٍ شديد، ظننتُ أنّ أمرًا جللًا قد حدث. وإذا بك تحدّق في النّار فقط؟”
عقد هارون ذراعيه و رفع حاجبًا واحدًا. تصرّفه قد يبدو وقحًا تجاه فردٍ من العائلة المالكة ، لكنّه لم يكن مُهينًا.
فانفرجت شفتا فرانز قليلًا عند رؤيته لودّ مألوف.
“أهذا تذمُّر؟”
“ومن أكون أنا لأتذمّر، يا مولاي؟”
وضع هارون يده على صدره، وانحنى بانحناءةٍ مبالغٍ فيها، كأنّه يدعو فرانز إلى رقصة. فضحك فرانز بهدوء.
“سيّد كبير السّحرة—يا له من شرف”
“وإن بدا هذا كثيرًا، فهل أناديك بسيّد شركة دايك التّجاريّة بدلًا من ذلك؟”
هزّ هارون كتفيه بمزاح.
فأشار له فرانز بالجلوس، وتكلّم بشفاهٍ يابسة:
“نادِني بكليهما إن شئت. لكن في هذه اللّحظة، أُفضّل أن أكون سيّد مُخبرك.”
“إذًا سأجيبك كمُخبر.”
و عند نبرة فرانز الرّقيقة ، حكّ هارون مؤخرة رأسه ، ثمّ أصبح جادًّا.
“تحقّقت من كلّ شيء طلبته. وكما قلتَ، لم يظهر شيءٌ غير معتاد.”
اعتدل فرانز في جلسته، وحدّق بحدّة.
فبادلَه هارون الجدّيّة.
“يبدو أنّ الآنسة تعرّضت للكثير من الإساءة. من في بيت أمبروز يقولون إنّ صيرورتها أميرة تُعدّ معجزة. لولا ذلك، لكانت قد زُوّجت من الماركيز باركين كزوجةٍ ثانية.”
“أليس باركين في السّتّين من عمره؟”
تقلّص وجه فرانز باشمئزاز.
فزَمّ هارون شفتيه و هزّ كتفيه مجدّدًا.
“البارونة كانت ترى ذلك حظًّا جيّدًا. من الواضح أنّها كانت حريصة على التّخلّص منها بعد وفاة البارون السّابق”
“وماذا بعد؟”
“أرسلت رسالة بعد دخول الآنسة إلى القصر.”
“أيّ نوع من الرّسائل؟”
قطّب هارون جبينه وهو يسترجع محتواها.
“من ذلك النّوع المعتاد. كانت البارونة تبدو متلهّفة لاستغلالها—أمرتها بإغواء الأمير، وطالبت بالمهر الملكيّ، و طلبت منح البارون لقب كونت … كانت مليئة بأحقر الطّلبات”
“وكيف ردّت إليزيا؟”
حدّق فرانز بشدّة، لكنّ وجه هارون أضاء.
ابتسم على وسعه.
“أحبّ هذه السّيّدة—سموّ الأميرة الثّانية. لديها عزيمة”
ارتبك فرانز قليلًا. و واصل هارون مبتسمًا: “لقد أحرقت الرّسالة.”
غمز هارون ورفع إبهامه، وكأنّ إليزيا أمامه.
“وأمرت الخدم برمي أيّ رسالة مستقبليّة من البارونة. لا بُدّ أنّ بيت أمبروز في حالة جنون الآن.”
“إن أدركوا أنّ الرّسائل لا تنفع ، قد يُحاولون شيئًا آخر. راقبهم عن كثب.”
“بالطّبع.”
أجاب هارون فورًا، ثمّ حوّل بصره إلى النّافذة الّتي كان فرانز ينظر نحوها.
قطّب حاجبيه في حيرة.
“لكن لِمَ طلب سموّك فجأة تركيب نافورة؟ ليست جوهرة مثلًا.”
لم يُجب فرانز. بل اكتفى بالنّظر بصمت إلى النّافورة في الخارج، ثمّ صرف بصره عنها.
وبدا أنّ هارون اعتاد على صمته، فواصل حديثه بطبيعته:
“على أيّة حال، لقد دَعَت اليوم دوقة شويلر و ابنتها. لم تتحدّث كثيرًا—فقط ناقشتَ تنسيق الزّهور في الحفل”
“لكن لِمَ دعوت الفتاة الصّغيرة؟ إنّها صغيرة جدًّا، ولا يمكنها حتّى إجراء حديثٍ حقيقيّ معها.”
“وكيف لي أن أعلم؟ لستُ قارئ أفكار. أنا فقط أجمع المعلومات.”
حكّ هارون رأسه و تمتم.
“ربّما فقط تحبّ الأطفال.”
“… ربّما.”
“لقد أهدتها سلّة بسكويت عند المغادرة ، أليس كذلك؟ هذا ما سمعته.”
أظلم وجه فرانز عند ذلك. خفّض بصره وتنهد بعمق.
“إنّها تبلغ من العمر أربع سنوات، أليس كذلك؟”
“نعم، تقريبًا. العمر الّذي تكون فيه الطّفولة ساحرة بلا حدود.”
“أجل.”
غطّى فرانز عينيه بيده. وبقي على تلك الحال برهة، كأنّه يُحاول كبح شيءٍ في داخله.
راقبه هارون بصمت، ثمّ تكلّم بنبرة خافتة: “اعذرني ، و لكن … أما كنتَ تنوي إنجاب وريثٍ من سموّ الأميرة؟”
كان سؤالًا حذرًا.
أنزل فرانز يده ببطء.
حدّق في النّار وعيناه تعجّان بالألم، وانكمشت شفتاه.
“لستُ متأكّدًا حتّى إن كان ينبغي لي ذلك”
كانت كلماته غامضة.
رمش هارون عدّة مرّات ، ثمّ لاذ بالصّمت. في الآونة الأخيرة ، بات سيّده يقول أشياء يصعب فهمها أكثر فأكثر.
لكنّ تفسيرها ليس من شأنه. فدوره الوحيد هو أن يكون يدَي الأمير و قدميه داخل القصر.
سيحلون الأمر بأنفسهم.
أسكت هارون فضوله ، و استرجع صورة السّيّدة أمبروز.
كانت تبدو لطيفة و ودودة و هي تُودّع والدة ناتاليا و ابنتها.
ولم تصبح نظراتها باردة إلّا عندما نظرت إلى فرانز—كان أمرًا غريبًا، لكن ليس من واجبه القلق حياله.
***
“سيّدتي …”
كانت إليزيا تراجع قائمة المدعوّين لحفل الزّفاف عندما نادتها سارا بتردّد.
كانت سارا تحمل رسالة في يدها ، و يبدو عليها التّردّد.
تصرّفها الغريب جعل إليزيا تتوقّف.
“ما الأمر، سارة؟”
“أنا … لم أكن متأكّدة إن كان عليّ أن أُعطيكِ هذه”
عندها فقط انتبهت إليزيا إلى الظّرف في يدها، مختوم بوردةٍ حمراء.
فما إن رأته حتّى تجمّد وجهها.
سألت بهدوء ، و عيناها تحدّقان في الختم:
“أهو من بيت أمبروز؟”
“نعم … و لكن …”
فركت سارا زاوية الظّرف ونظرت إلى وجه إليزيا بتوتّر.
“إنّه ليس من البارونة. بل من شخصٍ آخر.”
“من؟”
أمالت إليزيا رأسها في حيرة.
لم يكن هناك أحد في بيت أمبروز تفكّر فيه سوى باتريشيا.
لم يخطر ببالها غيرها.
عند سؤالها، مدّت سارا الظّرف نحوها.
أخذته إليزيا دون تفكير كبير—حتّى اتّسعت عيناها فجأة من الدّهشة.
كان المُرسِل شخصًا لم تكن تتوقّع أبدًا أن يُراسلها.
الشّخص الوحيد من عائلة أمبروز الّذي كان يومًا إلى جانبها.
“… كاليب؟”
كاليب. لقد أرسل لها رسالة.
لم يفعل ذلك من قبل.
خفق قلب إليزيا بشدّة و هي تفتح الظّرف و تفرد الورقة المطويّة بعناية داخله.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 18"