“هذا ليس سهلًا كما يبدو”
 
قطّب إيليان حاجبَيْه ، مستذكرًا سلوك الأمير فرانز في لقائهما الأخير.
 
“الأمير الثّاني لم يُبدِ أيّ اهتمام بلقاء السّيّدة روشاناك.”
 
بل قال أشياء تُوحي بأنّه يُريد حماية السّيّدة أمبروز ، مُذلًّا إيليان بذلك.
 
“كما تعلمين ، روابط الأرواح لا تنكسر بسهولة”
 
“أجل، صحيح. لكنّني واثقة أنّه سيغيّر رأيه حالما يرى نايريس.”
 
ابتسمت غلينا ابتسامة آسرة، لكن إيليان ظلّ متشكّكًا.
 
كان الأمير الثّاني يُعاني من آلام المانا.
 
بالنّسبة لشخصٍ مثله، فإنّ ‘رابطة الرّوح’ تُشبه طوق النّجاة.
اختياره لنبيلةٍ من منطقةٍ نائية كخطيبةٍ له كان يعني الكثير.
 
بل ودعوتها لحفل تقديم حجر المانا الخاصّ به أظهرت يأس العائلة الإمبراطوريّة.
 
ففي الإمبراطوريّة ، لم تكن الزّيجات الملكيّة تُبنى على أساسٍ سياسيّ فقط ، بل كانت أولويّتها التّوافق في المانا.
 
ومع ذلك، كان يُختار المرشّحون عادةً من العائلات النّبيلة العريقة. لا يُمكن لأيّ شخصٍ أن يدخل الأسرة الإمبراطوريّة.
 
فقط النّبلاء رفيعو المستوى والمقيمون في العاصمة كاليبيس كان بإمكانهم الوصول إلى أحجار المانا الملكيّة. 
 
أمّا دعوةٌ جماعيّة كتلك الّتي قام بها الأمير الثّاني ، فلم يكن لها سابقة.
 
‘ظننتُ أنّ الأمر كان مجرّد استعجال …’
 
كشر إيليان و هو يحتسي الشّاي.
 
ما زال منزعجًا من ردّة فعل فرانز عندما ذكر له اسم نايريس.
 
لم يُقِما حفل الزّفاف بعد ، و مع ذلك بدا الأمير مقيّدًا تمامًا بالسّيّدة أمبروز.
 
‘سمعتُ أنّ وجهها جميل. أهذا كلّ ما في الأمر؟’
 
قيل إنّ السّيّدة أمبروز لا تملك شيئًا سوى جمالها. 
و لم تكن حتّى من دم البارون أمبروز الحاليّ.
 
لذلك، من غير المرجّح أن تحظى بأيّ دعمٍ من العائلة.
 
ممّا علمه إيليان ، فإنّ الأرملة البارونة كانت تحاول تزويجها لنبيلٍ عجوز غنيّ كزوجةٍ ثانية.
 
كانت مجرّد قطعة مهملة ، يُراد التخلّص منها. 
لذا، لا ينبغي للأمير الثّاني أن يكون متعلّقًا بها لهذا الحدّ.
 
‘فهل الأمر بسبب رابطة الرّوح إذًا؟’
 
مال إيليان برأسه في حيرة.
 
لكنّ هذا لم يُقنعه أيضًا.
 
فرُوابط الأرواح غالبًا ما كانت تُحافَظ عليها شكليًّا فحسب.
 
كان كثير من النّبلاء يحتفظون بشريكة رابطتهم فقط لأجل استقرار المانا، بينما يتّخذون عشيقة إلى جانبها.
 
ولم يكن اتخاذ العشيقات أمرًا مُستنكرًا في الأسرة الإمبراطوريّة. بل إذا نالت العشيقة حظوة ، فقد تُعامَل أفضل من الزّوجة الرّسميّة.
 
“الأمر غريب فعلًا.”
 
“ليس بهذا التّعقيد. إذا وجد الأمير الثّاني امرأة أخرى ، فستُستبعَد السّيّدة أمبروز”
 
“أتظنّين أنّ هذا سينجح حقًّا؟”
 
“لِمَ هذا التّردّد المفاجئ، يا أبي؟ أتشُكّ في كفاءة نايريس؟”
 
“لستُ متأكّدًا. حتّى لو لم تكن السّيّدة روشاناك ، فلا أعلم إن كان الأمير الثّاني سيقبل بأخرى. كان عليكِ أن تري بنفسكِ كيف رفع صوته عليّ حين ذكرتُ له اسم نايريس ، قائلًا إنّ لديه خطيبة بالفعل.”
 
“… همم”
 
عَضّت غلينا شفتها وهي تنقُر على مسند الأريكة.
 
مسح كرايتون شعر غلينا برفق وهو يتأمّل وجهها وحدها.
 
كان إيليان يُراقب الأمير الأوّل و هو يُغدق الدّلال على ابنته ، فابتسم برضا.
 
كانا مرتبطَيْن برابطة روح، ويشكّلان زوجين مثاليّين.
 
وقع كرايتون في حبّ غلينا من النّظرة الأولى، ولم يتّخذ عشيقةً أبدًا.
 
ولولا هذا الإخلاص، لما سعى إيليان جاهدًا إلى رفع مكانته فوق وليّ العهد.
 
فمجد كرايتون هو مجد غلينا ، و بالتّالي هو مجد عائلة كورني.
 
و كان إيليان مستعدًّا لفعل أيّ شيء لتحقيق ذلك.
 
“لا بُدّ أنّ تلك الفتاة القرويّة أمبروز قد أسرت الأمير الثّاني جيّدًا.”
 
توقّفت غلينا عن النّقر، ولمعت عيناها. 
 
بابتسامةٍ ذات مغزى ، أضافت:
“نحن بحاجة إلى خطوة حاسمة”
 
“بسبب التّوافق في المانا، لن يكون من السّهل التّفوّق على السّيّدة أمبروز.”
 
“صحيح، يا غلينا. وإذا كان فرانز واقعًا في غرامها حقًّا، فقد لا يبقى أمامنا خيار آخر.”
 
“ثق بي ، يا كرايتون. و ثق بي ، يا أبي”
 
تكلّمت غلينا بنعومة، مُهدّئة الرّجلين القلقَيْن. ثمّ رمقت الصّالون الفارغ بنظرة سريعة و خفضت صوتها.
 
“أستطيع فعل أيّ شيء. ألم تنسوا كيف وجدتُ حجر المانا الخاصّ بجلالة الإمبراطور، أليس كذلك؟”
 
عند كلماتها الهادئة، أظلمت عينا الرّجلين. 
 
قبض كرايتون على يدها كما لو كانت جوهرة نادرة، وهمس:
“بالطّبع لا، يا حبّي.”
 
كان لدى كرايتون أسباب كثيرة ليُقدّر غلينا.
 
أوّلًا، قوّة عائلة كورنيّ كانت هائلة. 
و ثانيًا ، كانا مرتبطَيْن برابطة روح.
 
و جمالها لم يكن له مثيل في الإمبراطوريّة ، و حتّى قبل ظهورها رسميًّا ، كانت تُحدّد اتّجاهات الموضة في كاليبيس.
 
لكنّ السّبب الأهمّ كان دهاءها الشّديد.
 
كانت غلينا مستعدّة للسّير وسط النّار لتحصل على ما تريد.
و لم يكن القتل يُرعبها.
 
الإمبراطور أدرك قسوتها باكرًا. ففي إحدى مقابلاته معها ، أمرت بإعدام خادمة على الفور بسبب خطأ بسيط.
 
و لذلك ، كان قلقًا حين تزوّجت من كرايتون ، بل حذّره من الاقتراب منها أكثر من اللازم.
 
وفي وقتٍ لاحق، حاول إقصاء عائلة كورني من السّياسة كلّيًّا بسببها.
 
ومن هنا، بدأت غلينا ترى في الإمبراطور عدوًّا لها.
 
فطالما بقي حيًّا، لن تستطيع العيش كما تشاء. 
طموحاتها يُمكن أن تُدمَّر بكلمة واحدة منه.
 
لكنّ أحدًا لم ينجُ طويلًا و هو عدوٌّ للإمبراطور.
 
لذا حاولت استمالته بالبكاء والدّلال ، لكنّه بقي ناقمًا.
 
عندها قرّرت سلوك طريق آخر: التخلّص منه.
 
فكرة خيانة، لكنّها بالنسبة لغلينا كانت مجرّد إزالة عقبة في الطّريق.
 
وما إن قرّرت، حتّى شاركت الخطّة مع كرايتون و إيليان.
 
صُدم الاثنان من جرأتها.
 
لكنّ الأمر كان في مصلحتهما أيضًا، إذ كان كرايتون وإيليان يتواطآن حينها للتهرّب من الضّرائب.
 
كانت الضّرائب الّتي يجمعها إيليان من إقليمه تبلغ ثلاثة أضعاف المعدّل الإمبراطوريّ.
 
ولم يكن ذلك فحسب، فقد كان إيليان يتلاعب بالمجتمع عبر غلينا لرفع أسعار الملح.
 
فالآن بعد أن أصبحت غلينا زوجة الأميرة الأولى، باتت قادرة على التّأثير على المجتمع كما تشاء.
 
كلّ ما عليها فعله هو أن تلوّح بمروحتها المزخرفة و تُعلّق قائلة: “من الصّعب إيجاد الملح هذه الأيّام.”
 
وبمجرّد أن يُسرع النّاس للشراء، يكون إيليان قد اشترى أغلبه.
 
ثمّ يبيعه بعشرة أضعاف سعره.
 
ثمّ جاء دور الفحم. ثمّ الحرير من جبل باتاش.
 
لم يفهم النّاس سبب تقلّب الأسعار، لكنّهم استمرّوا بالشراء.
 
و هكذا نمت شركته التّجاريّة بسرعة.
 
لاحظ الإمبراطور هذه التّضخّمات غير الطّبيعيّة وبدأ تحقيقًا.
 
ولم يكن سوى مسألة وقت قبل انكشاف ألاعيب إيليان وكرايتون.
 
عندها تدخّلت غلينا. 
و اقترحت إيجاد حجر المانا الخاصّ بالإمبراطور.
 
كان إيليان و كرايتون مُتشكّكَيْن.
 
فحجر المانا المرتبط بروح ملكيّ يُخفى في مكان لا يعرفه إلّا صاحبه. و كسره قد يُنهي حياة المالك.
 
ومع ذلك، نجحت غلينا.
 
كسبت ولاء خدم الإمبراطور ورئيس البلاط.
 
وعثرت على حجر المانا—ثمّ حطّمته مستخدمة ماناها الخاصّ.
 
انهار الإمبراطور، وقد تضرّر قلبه بفعل التّمزّق.
 
وفيما غرقت الإمبراطوريّة في الهلع ، ظلّ قصر الأمير الأوّل هادئًا—فقد توقّعوا ذلك.
 
تسلّمت الإمبراطورة الزّمام بهدوء، وأعلنت أنّ وليّ العهد سيُعيَّن خلال عام.
 
تظاهر كرايتون بالحزن، لكنّه كان مبتهجًا في أعماقه.
 
وبفضل مكر غلينا، أصبح الإمبراطور الّذي كان لا يثق به عاجزًا الآن، وأصبح لقب وليّ العهد، الّذي كان بعيد المنال، قاب قوسين.
 
منذ تلك اللّحظة، أقسم كرايتون على حبٍّ أبديّ لغلينا.
 
فقد استطاع أن يُعرّي أمامها أكثر طموحاته ظلمة—فهي خُلِقت لتُحقّقها.
 
إن أرادت العقد الماسيّ ، ستحصل عليه.
و إن أرادت اختفاء تلك الفتاة القرويّة ، ستختفي.
 
‘وبينما نحن على هذا، ليت فرانز يختفي أيضًا.’
 
“لا تتعجّلي. لدينا الكثير من الوقت”
 
قبّل كرايتون جبهة غلينا بابتسامة ذات مغزى.
 
فهو قد تخلّى عن والده المريض ، و لن يكون تدمير أخيه غير الشّقيق أصعب—بل سيكون أكثر رغبة.
 
 
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 17"