الطبيبة كانت تحدّق بي بصمت.
كانت طويلة القامة، وبما أنّها كانت تقف وتنظر إليّ من علٍ، كان وجهها بعيدًا جدًا.
ضعف بصري الآن إلى درجة أنّي لم أعد أرى ملامح وجهها بوضوح.
“…….”
ولأنها لم تُجبني لبرهةٍ من الوقت، تملكني شيءٌ من القلق.
حقًا، يبدو مضحكًا أن أقوم بمثل هذه الأفعال في آخر أيامي بعد حياةٍ قضيتها في التجبّر. أو ربما أبدو مثيرة للشفقة.
كان يجب أن أمتنع حتى النهاية عن فعل ما لم أعتده من قبل.
وبينما كان قلبي يخفق بعنف، والحرارة ترتفع داخلي من الخزي، سمعت صوتًا هادئًا وباردًا كالبحيرة.
كان صوته كما عهدته من قبل، فشعرت ببعض الطمأنينة.
“بالمي هيكسابايم. يمكنك أن تناديني بالمي، أو هيكسابايم، كلاهما صحيح.”
كان جوابها رسميًا، لكني اكتفيت به وأغمضت عينيّ.
لقد فات الأوان حقًا لأتقرّب من أحد الآن.
بل إنّي وجدت أنّ هذه المسافة الموحشة أكثر راحة.
فمن غير اللائق أن يُكوّن من شارف على الموت علاقةً حميمة مع أحد. ألا يكون ذلك جرحًا للطرف الآخر بلا داعٍ؟
“حسنًا. شكرًا لكِ، هيكسابايم.”
وهكذا وصلتُ إلى قراري. سواء أكانت هذه الطبيبة، أم أيّ شخص آخر… حتى ميل أيضًا.
يجب ألا أقترب أكثر. سأبدأ بقطع الصلات تدريجيًا.
فهم جميعًا، في النهاية، ليسوا إلا كخَدَم هذا المنزل.
أناس ارتبطوا بي بعقدٍ مالي، أو حيواناتٌ أقتنيها.
وبينما كنت أتنفس بصعوبة في الظلام، لامست يديها الباردتان وجهي.
فتحتُ عينيّ فزعًا، فإذا بوجه بلميه هيكسابايم قريبٌ جدًا.
وحين رأتني أفتح عينيّ، سحبت يدها وقالت:
“كنتُ أتوقع جوابًا آخر حين سألتي عن اسمي. أهذا كل شيء؟”
ثم تابعت، دون أن يبدو على وجهها أي أثر للخيبة:
“هل توقفتِ عن ذلك لأنكِ ستفارقين الحياة قريبًا، أم أن تلك فكرةٌ بائسةٌ أخرى؟”
أصابت كبد الحقيقة. كانت عيناها الرماديتان تحدّقان في عينيّ بهدوء ثم ابتعدتا.
ارتدت بالمي معطفًا فوق ردائها الأبيض وقالت:
“أخبرتك من قبل، سأبذل قصارى جهدي.”
“……نعم، قلتِ ذلك.”
“لن أدعكِ تموتين. لذا–”
لم أعد أراها جيدًا وهي تبتعد عن نطاق بصري، لكنّي تخيّلت أن وجهها يبتسم. كانت تلك أول مرة.
“فكري بما تريدين فعله بعد شفائك.”
طَقّ.
خرجت بالمي دون أن تنتظر إجابتي.
أغمضتُ بصري الغائم. على أي حال، لم أعد أستطيع رؤية الأشياء البعيدة بوضوح.
ومع ذلك، قد أعيش فعلاً.
كانت ثمة ثقة مختلفة في كلماتها، على عكس الأطباء الآخرين الذين كانوا يرددون لي: “ستتعافين يا آنسة”، فبدت لي كلماتهم حينها مجرد بيعٍ للوهم.
رغم أنّها الجملة نفسها تقريبًا، شعرتُ هذه المرة بشيء مختلف.
“……عليّ أن أقتني نظارة.”
ثم سآتي لرؤيتك، يا ميل.
***
في الماضي، كان أبي لا يأتي لرؤيتي إلا حين يجلب لي الهدايا.
أما هذه الأيام، فصار يقف طويلاً ينظر إلى وجهي النائم قبل أن يغادر.
كأنه يستعدّ للوداع.
وهكذا بدأت أيامي المعتادة تتكرر من جديد.
كتبتُ رسائل، لكن ميل لم يُجبني.
حتى الخدم الذين أوصلوا رسائلي تغيّروا كثيرًا، كالعادة.
“يقول الفرسان إنهم رأوا شخصًا يتجه إلى البحيرة وحده في منتصف الليل، فأوقفوه.”
“هل حوري البحر بخير؟”
“نعم. هذه المرة أمسكوا به قبل أن يصل إلى السيد الحوري.”
“أفهم.”
الجنس لم يكن له علاقة بمن يفتن ميل على ما يبدو.
حتى حين أوصيتُ بأن يكتفوا بتسليم الرسائل دون أن يقرؤوها، وقعت هذه الحوادث.
بات من المشكوك فيه حتى أن ميل يقرأ رسائلي بهذه الطريقة.
“……عليّ أن أذهب لرؤيته بنفسي.”
انعكس وجهي في النافذة شاحبًا كما لم أره من قبل.
حاولتُ عبثًا أن أعيش حياتي السابقة على أملٍ كاذبٍ بأن أشفى قريبًا، لكن الأمر لم ينجح.
لم أعد أستطيع هضم الطعام جيدًا، فكنت أكتفي بشرب الحساء المهروس بصعوبة.
حتى النظارة التي صنعتها مؤخرًا لم تنفعني.
كان بصري يضعف، ثم يتحسن قليلاً، ثم يقفز ضغط عينيّ بشكل غير منتظم.
قررتُ أن أشكر الرب فقط لأنني لم أفقد بصري بعد.
طَقّ.
“…….”
كان أبي يطلّ كل فجر على وجهي النائم ثم يغادر.
كنت أمرض كل يوم، ولم يتبلّد الألم أبدًا. ولم أستطع الذهاب لرؤية ميل.
كلما رأيتُ وجه بالمي هيكسابايم، رغبت أن أطلب منها مسكّنات للألم، لكني لم أفعل. كان لذلك سبب.
“في هذه الحالة، أدخلي الحوري إلى هنا مجددًا.”
“لا. الحوض هنا…… ليس جيدًا للحوري.”
“وأنا لا أوافق أيضًا. لن أسمح لك بالخروج وأنتِ على هذه الحال.”
“إذن…… حين تتحسّن حالتي قليلاً…… هل أستطيع الخروج؟”
“……نعم.”
لو طلبتُ مسكّنات الألم، لانهار كل ما حاولتُ إخفاءه عنها من أنّي لستُ متوجعة حقًا.
كنتُ أتمنى أن تُصدق بالمي أنني أصبحتُ بصحة جيدة، فتخبر أبي أنّه يمكنني الخروج.
حتى ذلك الحين كنتُ ما أزال أمتلك الأمل بأن أتعافى قريبًا وأذهب لرؤية ميل.
لأنها قالت إنها ستبذل جهدها من أجلي.
“أوه…!”
قَرَق!
كانت الكثير من لياليَّ تنتهي بي وحيدةً أتحمّل الألم أخربش بلا ترتيب في دفتر يومياتي.
أصبح دفتري منذ توقفتُ عن الذهاب لرؤية ميل أشبه برسائل أكتبها له.
لكن المفارقة أنّ الرسائل الحقيقية التي كنت أرسلها إلى ميل لم تتضمن أبدًا تلك الكلمات التي كنتُ أكتبها هنا.
“أنا أتألم كثيرا. إلى متى سيستمر الألم؟ عندما أتألم أشتاق إليك. لكنني أعرف. أنت–”
الكلمات التي لم أستطع قولها لأنني كنتُ أتظاهر بأنني بخير، وأتظاهر بأني لست أتألم، وأتظاهر بأن حياتي تسير طبيعيًا… تلك الكلمات كانت تخرج على الورق بلا أي تصفية.
لكنني كنت أعرف. أنك لا ترغب في رؤيتي.
“…….”
شَقّ!
لكنني كنت أعرف. أنكِ لا ترغب في رؤيتي.
خططتُ خطًا فوق الجملة التي كتبتها.
كنت لا أريد الاعتراف بها، لكنني كنت أعرف أنها الحقيقة.
أرسلتُ رسائل كثيرة إلى ميل، لكنه لم يُجب ولو مرة واحدة. ربما يكرهني حد الموت.
الخدم كانوا ينقلون دائمًا أنّ ميل لم يقل شيئًا.
حتى حين أعطوه ورقًا وأقلامًا ليكتب، لم يأتِني ولو ردٌّ من جملة واحدة.
لو كان هذا في الماضي، لربما سعيتُ للموت أسرع.
أن أكون مريضة. أن أرغب بالموت بسرعة.
لم أستطع أن أنطق بهذه الأشياء بصوتٍ عالٍ.
لو سمعها أحد فلن يسمحوا لي بالذهاب لرؤية ميل.
لكنني الآن، حتى لو كنتُ أتألم بشدة، أريد أن أعيش. أريد أن أبقى معك أطول.
كنتُ أريد أن أفعل أشياء كثيرة مع ميل…الكثير حقاً.
أخبرتني بالمي أن أكتب ما أريد فعله وأنا حيّة.
لذلك بدأتُ أكتب في الصفحة الأخيرة من دفتر اليوميات الأشياء التي أريد أن أفعلها:
1. أن أغادر القصر.
2. أن أصنع صداقة (هل أستطيع أن أصبح قريبة من بالمي؟).
أشياء لم أجربها قط.
لكن في الحقيقة، هذه الأمور جيدة، إلا أنّ هناك ما كنت أريده أكثر.
كتبتُ تحت ذلك بضعة جمل أخرى
في الواقع، أكثر من هذه الأمور، أريد أن أرى النرجس مع ميل. في قصر نوكسيريل، بعد أن ينتهي الشتاء، تتفتح أزهار النرجس الصفراء بكثرة. الشتاء أوشك أن ينتهي، لذا ربما أستطيع رؤيتها بعد قليل.
أتمنى أن يأتي يوم نجلس فيه أنا وميل أمام المدفأة ونقرأ كتابًا. أنت لا تستطيع الخروج من الماء، لذا قد يكون من الجيد أن نشعل نارًا صغيرة عند ضفة البحيرة. لكن علينا أن نحرص ألا تمتد النار إلى الغابة.
حتى لو لم أخرج من القصر طيلة حياتي فلا بأس. لم أصنع صديقة من قبل، لذا أظن أنني سأعيش دون صديقة أيضًا. أريد فقط أن أجرب أشياء أكثر معك.
أريد أن أحبك في العالم نفسه، في المكان نفسه، وعلى قدم المساواة.
لكن ما كتبته في النهاية أمرٌ مستحيل حتى لو أصبحتُ بصحة جيدة.
أغلقتُ الصفحة الأخيرة وعدتُ إلى كتابة اليوميّات.
كانت هناك جملة لم أكتبها بعد:
“اليوم أيضًا، أحبك.”
أغمضتُ عينيّ وقرّبتُ شفتيّ برفق إلى تلك الجملة.
شعرتُ ببرودة شفاه.
كانت تلك درجة حرارة جسدك. كنت كأنك بحرٌ في دفئه وبرودته.
بدأتُ أختتم يومياتي دائمًا بالجملة نفسها، وأؤدي الطقس نفسه قبل أن أغلق الدفتر.
في اليوم التالي. تكرّر اليوم نفسه مجددًا.
أيامٌ مليئة بالألم، والألم، والألم، والألم.
وبعد عامين، عاد عمّي إلى القصر.
***
كان عمّي الشخص الوحيد الطبيعي بين قلّة علاقاتي البشرية.
كان الفارق في العمر بينه وبين أبي كبيرًا، لذلك كان من الطبيعي أن يُربط اسمي معه ضمن فئة الجيل نفسه.
العمّ الذي أتذكره كان على عكس أجواء بيت الدوق، إنسانًا مشرقًا.
“تولّى العائلة كما تشاء يا أخي. اعتبرني غير موجود. أنا أفضل أن أطوف العالم على أن أبقى في القصر.”
قبل بضع سنوات قال عمي هذه الكلمات وغادر بيت الدوق.
لكن في الحقيقة، لم يكن هذا هو السبب الحقيقي لرحيله.
“يا آنسة. ربما لا يكون من الجيد أن تقتربي كثيرًا من السيّد رايهين. إن كان يطمح لوراثة المنصب…”
“……أليس العمّ أحق بوراثة منصب الدوق؟”
حينها كانت صحتي سيئة جدًا، لذا كان من الطبيعي أكثر أن يصبح هو الدوق.
كنتُ فتاة، صغيرة السن، ضعيفة الصحة، ولم أتمكّن حتى من إنهاء التدريب الطبيعي الذي يجب أن يتلقاه الوريث.
حتى لو أصبحتُ دوقة، كان الناس بالتأكيد سيستخفون بي.
في ذلك الوقت كان عمّي رجلاً شابًا بالكاد بلغ الرشد، ولم يتلقّ تدريب الوريث لكنه كان مشهورًا سرًا بذكائه.
“لكن هو…”
ومع ذلك، كان السبب الحقيقي لرحيل عمي أنه كان ابنًا غير شرعي.
—
الفصول القادمة ستُنشر أولًا وحصريًا على قناة التلجرام 💌 لا تفوّتوا الأحداث! الرابط في التعليقات
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"