“……كنت مشغولة فحسب.”
لقد كان سؤالاً سبق أن أُجيب عنه من قبل.
الخادمة التي كنتُ أرسلها إليه، دافين، أخبرت ميل دائمًا أنني بخير، وأن الأمر لا يتعدى انشغالي.
استحضرتُ تلك الذكرى وأجبتُه، لكن ميل ارتسمت على فمه المرتجف ابتسامة باهتة.
لقد كان يحاول جاهدًا أن يسخر، غير أن وجهه بدا وكأنه يتألم أكثر من غيره.
“مشغولة…؟ اجعلي كذبتكِ أكثر إقناعًا، على الأقل. أعلم تمامًا أنك لستِ مشغولة إلى حدٍّ لا يسمح لك بكتابة رسالة واحدة. لقد مللتِ مني، أليس كذلك؟”
وحين لم أنطق بشيء، صاح ميل بانفعال
“لقد قالت دافين ذلك! أنكِ قد مللتِ مني! لذلك لم تعودي تأتين لرؤيتي، وحتى الرسائل توقفتِ عن كتابتها كما من قبل! فلا تتظاهري بأنكِ فعلتِ ذلك من أجلي!”
اشتدت قبضتي على طرف القماش حتى انغلقت أصابعي. حتى في هذه اللحظة، سماع اسم تلك الخادمة يثير في نفسي غضبًا.
وربما لذلك السبب قررتُ. لم أعد أريد أن أجرحه بالكلمات أو أن أضيّق عليه الخناق.
لكنني اندفعت فجأة وتفوهت
“……صحيح. لم يكن ذلك من أجلك. لقد مللتُ منك، وأردتُ أن أتركك في البحيرة حتى يبدو الأمر مختلفًا بعض الشيء.”
“ماذا……؟”
“أنت…”
فكرتُ.
كم كنتُ سأرتاح لو لم أكن أحبك.
لو كان باستطاعتي حقًّا أن أنظر إليك كما يُنظر إلى مجرد زينة، أو كحيوان أليف، كم كان سيكون الأمر سهلاً.
كان من حسن حظي أنني بارعة في إخفاء حقيقتي.
“في الحقيقة، كما قلتَ من قبل… نعم. ربما لم تكن سوى زينة أو حيوان أليف. لقد كنتُ أنا المخطئة في اعتقادي.”
لو كان الأمر كذلك فعلاً، لما كان عندي سبب لأهدم العهد الذي قطعته على نفسي.
لما كنتُ سأخشى من أن أصبح في يوم مثل أبي.
ولما…
لما كنتُ سأمضي الليالي ساهرة قَلِقة عليك.
ولما كنتُ سأرتجف خوفًا من أن يكون اليوم آخر يوم أراك فيه.
ولما كنتُ سأقود هذا الجسد المنهك حتى الموت لأتسلل وأنظر إليك وأنت نائم لمرة أخيرة.
“حتى لو أتلفتَ جسدك داخل ذاك الحوض الضيق، محاولاً إرضائي، فلن أُعيدك إلى البحر. لذا اذهب إلى البحيرة. فهذا أفضل لك أيضًا.”
لم أعد أملك القدرة على الكذب وأنا أحدّق مباشرة في وجه ميل، فأحكمتُ لفّ القماش حتى حجبته عن ناظري.
وربما لأن رؤيتي قد حُجبت، جاء صوته منخفضًا، عميقًا ومظلمًا.
“……انزعي هذا.”
“ادخلوا، وخذوه.”
“انتظري! لم أنتهِ بعد من كلامي!”
صرخ ميل، لكنني تجاهلته.
دخل الخدم وبدؤوا برفع الحوض.
كنتُ قد أمرتُهم سلفًا ألا يُصغوا لأي كلمة يقولها، لذا ظلّوا صامتين.
لكن لو كان الأمر متوقفًا عند هذا الحد فقط، لما بدوا متوترين إلى هذه الدرجة.
خشيتُ أن يعصوا أوامري، فأرسلتُ معهم حرّاسًا لمراقبتهم.
وخشيتُ أن يغضّ الحرّاس الطرف عن أي مخالفة، فأمرتُ الخادمات بمرافقتهم أيضًا.
أعلنتُ أن من يشهد ويقول الحقيقة سينال جائزة، ومن يخالف أو يتغاضى فسيتعرض للعقوبة.
كنت أعلم أن هذا سلوك ارتيابي.
لكن من أجل سلامة ميل، كنتُ مستعدة لأن أفعل ما هو أكثر من ذلك.
“إذن أرسِليني مباشرة إلى البحر! إذا كنتِ قد مللتِ مني، فالمنطق أن تعيديني إلى البحر!”
سمعتُ صوته حادًّا على نحو لم أسمعه من قبل، ممتزجًا بالبكاء.
التفت الخدم نحوي يستطلعون رد فعلي، لكنني ظللت بلا تعبير، بلا أي انفعال. عندها أسرعوا في حركتهم.
طَق.
انغلق الباب.
ومع ذلك، ظل صوته يجلجل من الخارج، ممزقًا.
“كنتُ أعلم! قلتُ لكِ بوضوح أن مشاعركِ محض كذب!”
بقيتُ واقفة، متيبّسة، أسمع كلماته وكأنه يقف أمامي مباشرة.
“……ليس صحيحًا.”
وحين توارى الحوض تمامًا خلف الأشجار، بحيث لم أعد أراه حتى من النافذة، هويتُ جالسة على الأرض.
تدفقت عليّ الندامة متأخرة.
“آسفة، آسفة لك…”
لم أرغب أبدًا أن أُرسلك إلى البحيرة بهذه الطريقة.
لو نظرنا بشكل عقلاني، فإن نقلك إلى البحيرة يعني أننا قد لا نلتقي مجددًا.
لذلك لم أُرِد أن يكون آخر يوم لنا معًا بهذا الشكل القاسي.
بدأت قطرات الدم تنزل من أنفي، واحدة تلو الأخرى، على الأرض. وضعتُ يدي عليها كي لا أسقط.
“لم يكن في كلامي ذرة صدق، يا ميل……”
لكن ذراعي خارت فجأة، وانهار جسدي نحو الأرض.
لم أستطع التنفس.
***
“ها نحن نلتقي من جديد.”
حين فتحتُ عيني، كان الشخص بجانبي طبيبتي الخاص.
أو لأكون دقيقة: آخر طبيب أشرف عليّ قبل أن يبدأ الأطباء بالتغير كل ثلاثة أيام.
تلك الطبيبة ذات الشعر الرمادي.
حيتني بنبرة فاترة، بينما لم يكن لدي قوة لأجيبها.
وبصوت خالٍ من الروح تمتمت بكلمة: “يا للعجب.”
ثم قلبت في سجلات العلاج، وسألت الخادمة بجانبها:
“هل هذع كل ما تم تدوينه حتى الآن؟”
“نعم.”
“……حتى الأطباء المشهورون، لا يملكون شيئًا يُذكر إذن.”
ارتسمت على شفتي ابتسامة ساخرة سرعان ما تلاشت، ثم راقبت الطبيبة وجهي.
كان في تلك الملامح الجافة أثرٌ ضئيل من القلق.
حدّقت لوهلةٍ إلى ناحية من الغرفة؛ حيث حوضٌ فارغ يحتل مكانه، خالٍ من ميل.
قالت وهي تعقد ما بين حاجبيها قليلاً، وقد بدا أنها لا تستطيع الفهم حقًا:
“لقد كنتِ تحرصين عليه حتى إنك كنتِ تكرهين أن يراه الآخرون، فلماذا أطلقتِ سراحه؟”
لم أستطع الإجابة، وانحصرت أنفاسي في صدري، فتابعت الطبيبة وهي تنظر إليّ من أعلى بنبرة هادئة
“كنتِ تكرَهين وصفاتي حدَّ التطرف، لكنني كنتُ أرى أنها فعّالة إلى حدٍّ كبير. حقًا لا أفهم سبب إطلاقكِ له.”
“لم يكن… مجرد حيوانٍ أليف…بالنسبة لي…….”
انتزعت صوتي بصعوبة وأجبتها.
لكن الطبيبة ظلّت بلا تعبير، كما لو أنها تسمع هذيان مريضٍ ضعيف. راحت تنقر بقلمها على سجلّها الطبي ثم التفتت نحو الخادمة وسألتها:
“ألا يمكن استرجاع ذلك الحيوان الأليف مرةً أخرى؟”
“ممكنٌ من حيث المبدأ، لكن على الأرجح لن يُفلح الأمر. آنستي لا ترغب في ذلك…”
“أمرٌ مزعج حقًا.”
قالتها بنبرة رتيبة، لكنها هزّت كتفيها.
ارتدّت عيناها الرماديتان القاتمتان، الأشدّ قتامة من شعرها الرمادي، إليّ.
“آنستي، أود أن أطرح عليكِ سؤالًا واحدًا.”
انساب شعرها الرمادي على وجهي حين انحنت لتهمس في أذني. حتى في هذه اللحظة ظل صوتها خاليًا من الانفعال
“هل ما زلتِ ترغبين في الموت؟”
بعد أن سألتني، ابتعدت عني قليلاً. هززتُ رأسي واهنة.
فجاءني ردّها سريعًا
“إذن كان عليكِ أن تتشبثي به مهما كان الثمن.”
“…….”
“حتى لو أدخل الشفقة إلى قلبكِ، كان يجب أن تحتفظي به، مفكّرةً فقط في سعادتكِ أنتِ. صراحةً، لا بأس أن تعتبري أنه لا شيء أستطيع فعله لكِ بالطرق المادية.”
“سيّدتي!”
صرخت الخادمة بجانبي مذهولة، ثم أرسلت نظرة قلقة نحو الباب، وكأنها تخشى أن يدخل الدوق في أي لحظة، وقالت بخفوت:
“مهما يكن……! حتى لو أن أسرة الدوق لم تثق فيكِ للحظات فاستأجرت غيركِ…… لا ينبغي لكِ أن تقولي هذا الكلام……! بسبب أولئك الدجّالين ساءت صحة الآنسة، والدوق يندم أشدّ الندم!”
حقًا؟ هل يندم أبي؟
أدرتُ بصري عن الخادمة وفي قلبي سخرية باردة.
كان أبي إنسانًا نصفه فرحٌ لكوني حيّة، ونصفه الآخر أسفٌ لأنني لم أمت.
وثمة أمرٌ آخر لم تدركه الخادمة: ليس بسبب الأطباء المحتالين ساءت صحتي.
وبدت الطبيبة وكأنها تدرك ذلك أيضًا، فلم ترد على كلامها وتجاهلته.
“على أي حال، ما دمتِ لأول مرة تعبّرين لطبيبٍ عن رغبتكِ في الحياة، فسأبذل جهدي أنا أيضًا.”
“…….”
“فالموقف الذهني هو الأهم.”
بهذه الكلمات أنهت الطبيبة حديثها وأعطتني وصفتها المعتادة، ثم بدأت ترتب أدواتها.
في تلك اللحظة، بينما كنتُ أحدّق في أصابعها المنضبطة، أدركت أنني حتى الآن لا أعرف اسمها.
تأملت الأمر فوجدته درجة مذهلة من اللامبالاة.
إلى أي حد كنتُ أكره تلك المرأة في الماضي حتى أنني، رغم معرفتي بها لسنوات، لم أسألها عن اسمها مرةً واحدة؟
قالت الخادمة:
“سأذهب لاستدعاء العربة.”
وخرجت.
نظرت الطبيبة إلى الجهة التي خرجت منها الخادمة، ثم راحت ببطء تجمع حقيبتها وتلبس معطفها فوق رداءها الأبيض.
دون أن أشعر، أمسكتُ بكمّها.
قبضت عليه بإحكام.
“هل لديكِ ما تقولينه لي؟”
سألتني وهي تميل برأسها قليلاً.
راودني خاطرٌ عابر بأن الرداء الأبيض يليق بها كثيرًا.
“موضوعيًّا، أنتِ لستِ شخصًا سيئًا.”
هي أكبر مني سنًّا، لكننا من جيلٍ واحد تقريبًا.
أنا البائسة التي مرضت حتى عجزت عن تلقّي دروس الوريثة في بيت الدوق، وهي الطبيبة في هذا العمر نفسه.
بينما غالبًا ما تكرّس بنات النبلاء في مثل هذا السنّ وقتهنّ للبحث عن أزواج، فتتعرّض هي للسخرية في المجتمع الأرستقراطي لأنها تمارس عملاً يُعَدّ وضيعًا، غير أنها في عيني بدت عظيمة.
“…… اسمعي.”
قبل أن أصل إلى هذه الحالة، كان يجدر بي أن أحاول التقرّب من الآخرين قليلاً.
ربما لو فعلتُ كما قال أبي، وذهبتُ إلى القصر الملكي رغم مرضي لأتعرّف على أبناء الملك، لما كان ذلك سيئًا.
صحيح أنهم كانوا سينظرون إليّ كأداة لاستعمال نفوذ بيت الدوق نوكسيريل، لكن ربما كنتُ سأصبح صديقةً حقيقية لأحدهم.
“ما اسمكِ؟”
أجل، خطر لي فجأة، أنا كنتُ أفتقر إلى الناس.
كنتُ أعيش في هذا القصر وكأنني محبوسة فيه، ولم أحاول حتى أن أقترب من أحد.
لو أنني في سنٍّ أصغر التقيتُ أناسًا أكثر وتربّيت على تبادل مشاعر طبيعية معهم، ربما لم أكن سأصبح هكذا.
“أعتقد أنني… لم أسمعه منكِ ولو مرةً واحدة…”
وربما أيضًا كان ذلك سببًا في أنني أنقذتُ ميل عندما اتخذ شكل إنسان.
لم أرد أن أكون وحيدة.
اعترفت بذلك، في لحظة اقتراب الموت.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"