دلك!
صدر من مقبض الباب صوتًا مسموعًا عند تدويره.
كنت أتعمد أن أمسكه ببطء، لكن ربما لأن الحقيقة انكشفت، لم يعد ميل يطرق على جدار الحوض حتى أدرت المقبض تمامًا.
من المؤكد، إن التفتُ، سأراك تبكي.
تماسكتُ بقلبي وفتحت الباب، وفجأة سمعت صوتًا لم يكن ينبغي أن يُسمع.
“سيرڤين.”
كان صوتًا ناعمًا و جميلاً بشكل لا يُصدق.
وكأن صوته لم يتصدّع أو يَخْشُن يومًا، عاد صوت ميل إلى حالته السابقة، نقيًا ورقيقًا كما كان.
أسرعتُ بإغلاق الباب، واستدرتُ أنظر إليه.
في الحقيقة، قبل أيام قليلة فقط، عندما أيقظني صوت ذيله وهو يرتطم بجدار الحوض، كنت قد سمعت أنينًا منه.
لكنه كان قصيرًا للغاية، فاعتبرته مجرّد وهمٍ جعلني أظن أنّه صوته القديم.
لكن الآن أيقنت.
لقد كان قادرًا على الكلام منذ ذلك الحين.
وبمجرّد أن أدركت ذلك، اجتاحني شعورٌ عميق بالخذلان.
ينبغي أن أفرح لأنه استعاد صوته…
في عقلي فكّرت أن أهنئه، لكن ما خرج من فمي كان نقيض ذلك تمامًا:
”……لماذا خدعتني؟”
كنتُ بطبيعتي إنسانة أنانية، متمحورة حول ذاتي.
ولذلك كان ما أثار حنقي ليس عودته للكلام، بل سبب خداعه لي.
ماذا كان يريد أن يكسب من وراء تلك التمثيلية؟
إن كنتُ أنا في موقف ميل، فبأي دافع كنت سأفعل الأمر ذاته؟
وحين أوغلتُ في التفكير، لم أجد سوى سبب واحد:
“هل كنتَ تأمل أن تستدرّ مزيدًا من شفقـتي كي أُرسلك إلى البحر؟”
“ليس ذلك! آسف لأنّي أخفيت الأمر، ولكن-.”
انهمرت دموع ميل وهو يتابع:
“أنتِ كنتِ تفكرين بالتخلّي عني لأنني لم أعد ذا قيمة، أليس كذلك؟ لكنني أستطيع الكلام! إذن……”
”……أنا سألتك فقط، لماذا خدعتني.”
تعمّدت أن أجيبه ببرود حتى لا تضعف نفسي أمام توسّلاته.
في الحقيقة، وددتُ لو احتضنته للتو وأخبرته أنّ السبب لم يكن أبدًا لعدم قدرته على الكلام.
أردت أن أقول: لا يهمني شيء من ذلك، المهم أنك بخير وتستطيع التحدث مجددًا.
لكن في الوقت نفسه، لم أستطع أن أنكر شعوري بالاستياء من أنه حاول استغلال عاطفتي لمسايرته.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي أشعر فيها بمثل هذا.
“أنا…… أنا……”
رفع ميل رأسه نحوي متردّدًا.
……أجل، لا شك أن قول الحقيقة بلسانه كان عسيرًا عليه.
فقررت أن أُظهر بعض الرحمة. بدلاً من أن أُضيّق عليه الخناق أكثر، اخترت أن أدير وجهي بعيدًا.
“لا. لست مضطرًا لأن تقولها.”
“لـ-لا، انتظري! سأقول! فقط امنحيني لحظة!”
“إن كنتَ تخشى أن أؤذيك لذلك تخفي الحقيقة، فلا تقلق.”
عدتُ وأمسكت بمقبض الباب.
في المرة السابقة حين أرسلته إلى البحيرة، رافقته بنفسي.
لكن هذه المرة، لا أظن أنّي سأتمكّن من ذلك.
ليس فقط لأسباب عاطفية، بل لأن جسدي لم يعد قادرًا على تحمّل المسافة.
……على أي حال، كان لا بدّ يومًا أن أرسله إلى البحيرة.
لم يكن الأمر مقتصرًا على أنّ الحوض ضيّق إلى درجة أنه لا يكاد يجد مكانًا ليحرّك ذيله، بل هناك سبب آخر أيضًا.
لقد بتُّ أعجز عن التظاهر أمامه بأني لست مريضة.
”…….”
لكن يدي التي أمسكت بالمقبض لم تتحرك فجأة.
كأن تصلب الموت قد اجتاح أطراف جسدي الحي.
فبدلاً من تدوير المقبض بمعصمي، ضغطتُ بذراعي بأكملها لتدويره.
كريييك.
وقبل أن أغادر، التفتُّ أنظر إلى ميل للمرة الأخيرة.
حتى في هذه اللحظة، ما زلتُ أقلق من أن يظلّ مرتعبًا.
خشيت أن يسيء فهمي، فيظن أني سأفعل به ما ليس في الحسبان.
“كنتُ أنوي أن أرسلك إلى البحيرة من أجلك. لقد رأيتُ كيف ارتطم ذيلك بجدار الحوض حتى تكسّرت حراشفك وامتلأت كدمات.”
”…….”
“هل ظننتَ حقًا أنني أردت التخلّص منك لأنك لم تستطع الكلام؟”
ارتجف بؤبؤا ميل. كانت إشارة واضحة على الموافقة.
رغم أن نظراته جَرحتني، أخفيتُ ذلك وتحدّثتُ ببرود:
“ألم أقل لك من قبل؟ لم أفكر بك يومًا كزينة أو كحيوان أليف.”
“لا! ليس هذا السبب! أنا-.”
“أنتَ لم تثق بي يومًا حتى النهاية، أليس كذلك؟”
“سيرڤين!”
دلك.
أغلقتُ الباب، وتوقفتُ لحظة أمامه.
حين خرجت، لمحَتني خادمة كانت تمر في الممر، فتقدّمت نحوي وسألت عن السبب.
“آنستي؟ ما الذي أخرجكِ؟”
“لحظة فقط……”
رفعت يدي فأوقفتها، ثم أغمضت عيني وأسندت ظهري إلى الباب.
بسبب التوتر المفاجئ، اجتاحتني دوخة.
“هُق… ههق……”
وراء الباب، بدا لي وكأنني أسمع هدير البحر كهلوسة.
لقد كان صوت بكائك. عندها فتحتُ عيني.
“……أعدِّي لنقل الحوري إلى البحيرة.”
تماسكي. لا ينبغي أن أنهار الآن.
إلى أن يحين موعد ذهابه إلى البحيرة، لا يجب أن أفقد وعيي أو أُضطر لاستدعاء الطبيب.
“نعم، متى نُنقله إذن؟”
“اليوم، قبل أن ينتهي.”
“حسنًا. ولكن، آنستي، هل أنتِ أيضًا……”
ترددت الخادمة وهي تراقبني بتمعّن.
من الواضح أنها اعتقدت أنني سأرافقه حين يُنقل إلى البحيرة.
كانوا يظنون أنني صرتُ أكثر صحة مما مضى، ومع ذلك ازدادت مخاوفهم عليّ أكثر من ذي قبل.
بمعنى آخر، كانوا يرغبون في منعي من الذهاب.
“لا تقلقي. لن أذهب.”
“آه، نعم! سنحرص نحن على نقل السيد الحوري بعناية اليوم.”
أجابت الخادمة بابتسامة مشرقة. أما أنا فابتسمت ابتسامة بالكاد تُسمَّى ابتسامة على وجهي الشاحب.
لكن صوته الباكي ظلّ يتردّد بوضوح في أذني.
ويبدو أن الخادمة لم تسمعه، إذ ظلّت على حالها، هادئة مطمئنة.
وكأنني أنا وحدي من يسمع ذاك الصوت ويعاني منه. لم أعد أطيق احتماله.
أمسكتُ بذراع الخادمة التي همّت بالانصراف مسرعة، وقلت:
“……غيرت رأيي. انقليه حالاً، في هذه اللحظة.”
***
ما إن خمد بكاؤه، حتى فتحتُ الباب ودخلت.
وكأنه كان ينتظر قدومي، إذ هتف على عجل:
“سيرڤين!”
كم بكى يا ترى؟ لقد احمرّت عيناه وطرف أنفه.
وبذلك الوجه، وهو ملتصق بجدار الحوض يصيح خوفًا من أن أغادر ثانية، بدا صوته صادقًا تمامًا.
“لقد فعلتُ ذلك فقط لأنني أردت أن أبقى معك! فقط لأنني رغبت في أن أمضي وقتًا أطول بجانبك!”
نظرت إليه بذهول.
تلك النظرات، وذلك الوجه الملهوف، كانا يبدوان وكأنهما يصدحان بالحقيقة.
لكنني سرعان ما استعدت رباطة جأشي.
مستحيل أن يرغب في البقاء معي. إذن فالأمر هو…
“ما الذي تريده حقًّا…؟ لماذا تقول لي مثل هذا الكلام؟”
“سيرڤين…؟”
“الخلاصة واضحة. تريد أن أُرسلك إلى البحر. ولهذا تُحاول أن تترك في نفسي أثرًا حسنًا، أليس كذلك؟”
مددتُ يدي إلى زجاج الحوض، ومسحتُ ظهر كفي عليه كما لو كنت ألمس وجهه.
تكلّمتُ بنبرة دافئة، لكن ملامحه بدت متألمة إلى حد بعيد.
غير أنّي لم أسمح لنفسي أن أنخدع بتلك الملامح، فكل ما قاله كان مبالغًا فيه، غير واقعي، ولا عقلاني.
“تقول إنك فعلتَ ذلك لأنك تريد أن تبقى معي؟ هل تعني أنك ترضى بأن تمضي حياتك كلّها حبيس هذا الحوض؟”
“…….”
“ميل، على الأقل اجعل كذبتك أكثر إقناعًا. أعرف جيدًا أنه لا يوجد سبب واحد يدعوك لقول هذا، فكيف تريد مني أن أصدّقه؟”
نزعتُ يدي عن الزجاج.
وعند كلماتي تلك، لم يعُد ميل يتشبث بي باكيًا.
بل أرسل إليّ نظرة حافلة باللوم. نظرة من شخص جريح، مطعون بالخيانة.
“……لا تنظر إليّ بتلك النظرة أرجوك. لم أُرِد أن أقول لك مثل هذا الكلام.”
حتى وأنا أعلم أنّه كذب، إلا أن دفعي له إلى هذا الحد ربما كان تجاوزًا للحدود بيننا.
بعد أن أُعيد إلى الحوض، بذلتُ جهدًا داخليًّا كي لا أثير غضبه.
وغالبًا ما كنتُ أسدل الستائر، ليس فقط كي لا يراه الخدم، بل أيضًا لأمنحه بعض الوقت الخاص به.
كان رابطنا هشًّا للغاية، يكفيه جدال واحد كي يتحطّم.
ففي نظر الآخرين، أنا لستُ محبّة لك، بل مالكة لك.
وأنت أيضًا لا بد أن ترى الأمر كذلك. حتى لو رغبتُ بخلاف ذلك، فلن يكون بيننا تكافؤ ما حيينا.
طرق… طرق…
“ادخلوا.”
وصل الخدم المكلفون بأخذ ميل.
قدّموا لي قطعة قماش طويلة، ثم خرجوا ينتظرون خارج الغرفة.
لففتُ الحوض بقطعة قماش حمراء. لم تكن سميكة، لذا لم تكن ثقيلة، لكن تغطية ذاك الحوض الكبير بالقماش كانت مرهقة عليّ.
ومع ذلك، فعلتُها بنفسي كي لا يراه أحد.
كنتُ أعلم. إنّه جنون محض. هذا القدر من التعلق مرض بحد ذاته.
وقبل أن أنتهي من لفّ القماش، سألني ميل بعينين محمرّتين.
وربما خُيّل إليّ ذلك فقط بسبب لون القماش الأحمر.
فقد كان صوته رتيبًا أكثر من أن يطابق وجهًا على وشك البكاء.
“قبل أن أذهب، سؤال واحد فقط.”
“تفضل.”
“لماذا لم تأتِ لرؤيتي طوال ذلك الوقت؟”
شعرتُ وكأن نفسي انقطع فجأة.
فهمتُ مباشرة أنه يتحدث عن تلك الأيام حين كان في البحيرة.
“……لقد أرسلتُ لك رسائل بدلاً من ذلك.”
لفقتُ عذرًا واهيًا.
لكن ما إن أنهيت كلامي، حتى علقت بي شبهة أخرى.
“ولماذا إذن توقفتِ عن إرسال الرسائل لفترة؟”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"