لا بد أن لميل عائلة أيضًا. ولا يستطيع لقاءها بسببي.
أعرف كم هو مؤلم ألّا تستطيع لقاء عائلتك، ووالدتك خاصةً.
ومع ذلك أنا أكرر مع ميل نفس ما فعله أبي.
“الكلمة التي تعني الأم تُكتب هكذا.”
كتبتُ الكلمة بخط كبير على الورقة بيد مرتجفة.
ربما بسبب جسدي الذي بدأ يصاب بالشلل، أو بسبب تأنيب الضمير، استغرقت وقتًا طويلاً في كتابة تلك الكلمة السهلة.
يدي التي علّقت الورقة على الحوض ليراها ميل راحت ترتجف.
ميل لم ينظر إلى الورقة، بل كان يحدق في يدي.
“ميل… اسمع.”
حاولتُ أن أقول أي شيء لتشتيت نظره.
كأن أقول مثلاً إن الطقس اليوم جميل، أو أي حديث تقليدي آخر.
لكن نظام تفكيري، المُعطّل بسبب الألم المتكرر وغير المنتظم، خرج منه كلام مختلف فجأة:
“هل تشتاق إلى عائلتك؟”
بالطبع يشتاق. وهل هذا سؤال؟
وبينما كنت ألوم نفسي على حماقتي وأوشك على التظاهر بأنني لم أقل شيئًا، أشار ميل إلى كلمة ما على جدار الحوض.
طَق، طَق.
“هل تقصد… أنك تريد الذهاب إلى البحر؟”
حاولتُ أن أُبقي ابتسامة مصطنعة على وجهي وسألته.
عند كلامي هذا، أبدى ميل تعبيرًا غامضًا ثم حرّك رأسه نافيًا ببطء وأشار مُجددًا إلى كلمة “البحر”.
يبدو أنه يريد الذهاب إلى البحر، لكن هذا لم يكن ما يحاول قوله.
طَق، طَق.
“هل تقصد أن عائلتك في البحر؟”
هز ميل رأسه ثانية.
قلتُ، وأنا أفكر أن ما لا يعقل بالنسبة للبشر قد يكون مختلفًا في عالم مخلوقات البحر:
“……هل تقول إن عائلتك هي البحر نفسه؟”
حينها فقط أشرق وجه ميل وبدأ يومئ برأسه.
ذلك الوجه الذي أضاء بابتسامة وكأنه سعيد لمجرد التفكير في البحر جعلني أشعر بشيء من الارتباك.
***
“هاه… هاه!”
في تلك الليلة، استيقظتُ من نومي متشنجةً من الألم.
لحسن الحظ أن الستائر كانت مسدلة، فلا بد أن ميل لم يرَ جسدي وهو يتلوى.
شعرتُ بدوار بسبب نبض قلبي الذي كان يبطؤ فجأة ثم يقفز بجنون في أوقات أخرى.
“هل هو بسبب حلم البحر؟ أم أنني أشعر الآن فجأة بالذنب؟”
ضحكتُ بسخرية من نفسي.
كنتُ منكمشة مثل حيوان صغير، أتنفس بصعوبة.
دُون!
حينها سمعتُ صوت ارتطام شيء ثقيل بالجدار.
هل أسقط أحد الخدم شيئًا في الممر؟
وبينما أفكر في ذلك، سمعتُ أنينًا قصيرًا.
“آه!”
كان ذلك الصوت العذب الجميل هو صوت ميل.
أنساني التشاؤم حتى الألم. أسرعتُ بالنهوض من السرير وسحبت الستارة.
شَرررر!
“……ميل؟”
لمجرد أنني تحركت هذه المسافة القصيرة داخل الغرفة، بدأ العرق البارد يتصبب مني.
حدّقتُ في المشهد داخل الحوض مذهولة.
دُون!
كان ميل وهو نائم يرتطم ذيله بزجاج الحوض كلما تحرك لا إراديًا.
كان ذلك طبيعيًا. فحتى لو بدا الحوض، من وجهة نظر بشرية، ضخمًا بشكل لم يُرَ من قبل، إلا أنه كان ضيقًا جدًا على فتى في مثل سني ليعيش فيه.
“آه…”
ربما شعر ميل بالألم حتى وهو نائم، فقد كان يلف ذيله لا إراديًا.
لكن في تلك الحركة أيضًا ارتطم بالحوض مرة أخرى.
طَق!
انزلقت قشور فضية مزرقة من ذيل ميل إلى قاع الحوض.
عندها انتبهتُ إلى أن هناك الكثير من القشور متراكمة في زاوية قاع الحوض.
“كنتَ تخفيها تحت الرمال، أليس كذلك.”
تحت الرمل المرفوع قليلاً تجمعت القشور.
كانت زاوية لا أراها عادةً لأن ميل يحجبها عني.
“…….”
عندها فكرتُ: لا يجوز أن يعيش ميل في الحوض بعد الآن.
إن لم أستطع أن أرسله إلى البحر، فعلى الأقل عليّ أن أرسله إلى بحيرة.
***
“كيف حال الغابة الآن؟”
بعد أيام قليلة، وبعد طول تفكير، سألتُ الخادمة التي كانت تضع لي الطعام على السرير.
كنتُ قد اعتدتُ على تناول الطعام على السرير بسبب جسدي المريض.
“لقد احترق الكثير من الأشجار… لقد زرعوا شتلات جديدة، لكن عالم النبات قال إن الأمر سيستغرق قرابة مئة عام حتى تستعيد شكلها السابق.”
مئة عام.
لو كانت عشرات السنين لشعرت بالأسف، لكن عندما سمعت مئة عام لم أشعر حتى بالأسى.
فلا أحد مهما كان قوي البنية من البشر الحاليين يمكن أن يعيش بعد مئة عام.
كنت أحب تلك الغابة. لم أزرها إلا مرات قليلة، لكنني كنت أحب البحيرة التي فيها.
شعرتُ بالأسف لأنني لن أستطيع رؤية المنظر السابق من جديد.
“……حسناً. والبحيرة؟ هل تضررت أيضًا؟”
“يبدو أن البحيرة بخير الآن.”
الشكر للرب. طالما البحيرة بخير فلا بأس.
أومأت برأسي ثم تابعت تناول طعامي.
رغم أنّها كانت وجبة الغداء، لم يكن أمامي سوى حساء وسلطة وقطعة صغيرة من اللحم لتأمين الحد الأدنى من البروتين.
شخصيًا، كنت أفضل المأكولات البحرية على لحم البقر، لكن منذ عدت أعيش في المكان نفسه مع ميل، لم أتناول أي مأكولات بحرية.
“لن أتناول المزيد.”
“ألا ترغبين في أن تتناولي قليلاً بعد…؟”
“أشعر أنّ معدتي لا تتحمل، سيكون الأمر صعبًا.”
“حسنًا، مفهوم.”
أزالت الخادمة الطعام، وجلستُ على السرير أقرأ كتابًا.
طَق… طَق…
في تلك اللحظة، سمعت صوت ميل وهو يطرق جدار الحوض خلف الستار.
كنت أظنه يحظى بقيلولة، لكنه كان مستيقظًا فيما يبدو.
منذ أن فقد ميل صوته، كان يطرق على الحوض أحيانًا إذا احتاج إلى مناداتي.
صادف أن لدي ما أقوله له أيضًا.
ابتسمت ابتسامة مريرة ونزلت من السرير متوجهة إلى الحوض.
ششش…
رفعت الستار، فرأيت ميل ينظر إليّ بعينين مضطربتين.
لم يكن لدى ميل الآن سوى كدمات على ذيله وقشور متساقطة عنه، بلا جروح خارجية أخرى.
لكن صوته ظلّ مفقودًا.
“ميل؟ ما الأمر؟”
“…….”
بدا أن ميل يريد قول شيء لا يسهل التعبير عنه بإيماءات بسيطة أو حركة شفاه.
بدأ يكتب بسرعة على الرمل المفروش في قاع الحوض.
في الواقع، كان ميل يتقن أي شيء يُعلَّم له من المرة الأولى.
لكن الغريب أنّه حتى الأمس فقط كان لا يزال يشير إلى كلمات مفردة ليكمل الحوار، وكأن تركيب الجمل كان صعبًا عليه.
فوجئت قليلاً بهذه المهارة المفاجئة، لكنّي لزمت الصمت وقرأت الجملة التي خطّها.
“لماذا سألتِ عن البحيرة؟”
كنت سأطرح ذلك الموضوع بنفسي حتى من دون أن يحثّني عليه.
ولكي أتظاهر بعدم التعلّق وأتفادى الأذى، رسمت ابتسامة زائفة.
“… هذا؟ سألتُ لأني أريد أن أرسلك إلى البحيرة مجددًا.”
ما زلت أتذكر بوضوح اليوم الذي أرسلتُ فيه ميل أول مرة إلى البحيرة.
مع أنّه كان يتألم لأنه لم يعتد بعد على المياه العذبة، إلا أنه اختار البقاء هناك.
إلى ذلك الحدّ كان يكره الحوض، ويكره البقاء بقربي.
“الحوض ضيق وغير مريح جدًا. ثم إنك تكرهه، أليس هذا أفضل لك؟”
“…….”
“سيكون رائعًا إن تمكّنت من زيارتك هناك، وإن لم أستطع فسأكتب لك رسائل.”
على غير المتوقع، كان ميل يحدّق بي شاردًا لا أكثر.
لم أفهم السبب. لم يبدو عليه الفرح.
بل كان أقرب إلى الخيبة واللوم والخيانة… تلك المشاعر تحديدًا.
آه، إذًا هذا لأنّي لم أرسلك إلى البحر.
تظاهرتُ بالقلق عليك، وقلتُ إنّي سأضع عليك علامة من الدوق إذا أرسلتك إلى البحر، وإنّي علّمتك الكتابة حتى لا تقع في أيدي البشر الآخرين… وفي النهاية، ما حصلتَ عليه هو طريق إلى البحيرة.
“لماذا؟ هل خاب أملك لأنّه ليس البحر؟”
ارتجف ميل حين سمع نبرة البرود في صوتي، ثم هز رأسه بسرعة.
كنت أعلم أنّه لو أجاب بنعم سيظنّ أنّي سأبقيه حبيس الحوض غضبًا مني.
نظرتُ إلى الأوراق المعلّقة على الحوض، آثار الوقت الذي قضيناه معًا.
أوراق مكتوب عليها كلمات وقواعد واحدة تلو الأخرى.
كنت أظن أن هذه الأوقات قرّبتنا حقًا… لكني اكتشفت الآن أنّها مجرد أوهام أخرى.
كتب ميل مسرعًا:
“حقًا لم يكن الأمر بسبب الخيبة. لا تسيئي الظن بي.”
رأيتُه يكتب بعجلة، لكن عند الجملة التالية تباطأت حركته بشكل واضح:
“شكرًا… لأنكِ ترسلينني إلى البحيرة… من أجلي.”
“لا داعي للشكر.”
تعمّدت أن أبتسم ابتسامة ساخرة.
تأملتُ مظهر ميل الخارجي وقد شُفي، ومهارته في الكتابة تقدمت ولم يعد تعليمي ضروريًا له.
كنتُ قد استنفدت كل جدواي بالنسبة له.
عندها، لم أعد قادرة على الحفاظ على ابتسامتي.
خرج مني كلام لا أعنيه.
“الآن شُفيتَ من جراحك وتعرف الكتابة، هذا جيد.”
“…….”
“اليوم سأرسلك إلى البحيرة. سأستدعي الخدم فانتظر.”
بدأ ميل يكتب شيئًا آخر على الأرض، لكني أدرت ظهري لأني لم أرد أن أرى ما سيكتبه.
طَق طَق!
طرق ميل الحوض ليوقفني.
لكني تجاهلتُ ذلك عن عمد.
فجأة، بدأ يطرق الحوض بقوة لم يفعلها من قبل.
دَق دَق!
“…….”
هل هو إلى هذه الدرجة في عجلة من أمره؟
نعم، لا بدّ أن الأمر كذلك.
لقد قال إنّ البحر هو عائلته. البحر هو عائلتك، وأنت تخشى أن تُفصل عنه إلى الأبد.
لكن طالما أنا على قيد الحياة، لن تذهب إلى البحر.
لم أستعد بعدُ لإرسالك إليه.
أمسكت بمقبض الباب وما زلت لم ألتفت وقلت:
“ألم تكن دافين التي تحبها قد أخبرتك أنها سترسلك إلى البحر بعد موتي.”
“…….”
“هذا صحيح إلى حد ما. قبل أن أموت لن تتمكن من العودة. لذا، توقّف عن طرق الحوض.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"