ظهرت بارقة أمل.
حتى لو لم تكن قادرًا على الكلام، بدا وكأن هناك وسيلة للتغلب على الموقف حين تُلقى فجأة في عالم البشر.
“إذا تعلمتَ القراءة والكتابة، فسيُحل الأمر، أليس كذلك؟”
نظرتُ إلى ميل كما لو كنتُ شخصًا اكتشف شيئًا عظيمًا، مرتقبة أن يمدحني.
حتى تلك اللحظة، كان ميل ملتصق بحوض الماء يحدق بي بصمت.
ما كان يثير الشفقة حقًا هو أنه بدا وكأنه يشفق عليّ، رغم أن من يستحق الشفقة هو ذاته.
“… لا تريد؟”
نظرتُ إلى ميل كما ينظر كلب رُفضت مشاعره من صاحبه.
في تلك اللحظة لم يخطر ببالي تعبير آخر يعبر عن ذلك.
أومأ ميل برأسه ببطء نافيًا، محرّكا شفتيه. كان تعبير وجهه معقداً.
“سأفعل ذلك.”
كنتُ قد اقترحت ذلك لأجله، لكن ملامح وجهه بدت وكأنه يشفق عليّ.
***
كنت أشعر بالأسف لميل، لكن الأيام التي قضيتها في تعليمه القراءة والكتابة كانت سعيدة بالنسبة إليّ.
في البداية لم يكن هدفي مطلقاً أن أُشبع رغبتي الشخصية، لكن النتيجة كانت أنني أنا من استفدت أكثر من غيري.
لو طُلب مني أن أختار أسعد لحظات حياتي، لاخترت هذه اللحظة بلا تردد.
“آه…”
كنت أتجاهل أحياناً إحساس جسدي بالتيبّس، والرؤية المتمايلة، والحمّى المتصاعدة.
لم أُرِد أن أُظهر لميل أنني أتألم.
“ميل، سأعلق هنا ما تعلمناه اليوم.”
ألصقتُ الورقة على خارج الحوض حتى يتمكن ميل من رؤية ما كتبه أثناء الدرس.
لو وضعتُ الورقة داخل الحوض لانتشر الحبر، لذا كان هذا هو الحل الأفضل.
“حين تشعر بالملل سيكون من الممتع أن تراجع الدرس. سأعلّق أيضاً ما ستتعلمه غداً مسبقاً حتى تتمكن من الاستعداد له.”
للحظة بدا وكأن ميل يرمقني بوجه مستغرب، لكني اعتبرت ذلك وهمًا وتجاوزت الأمر.
انتهى الدرس لكنني بقيت أتنقّل قرب الحوض بلا سبب، وكأن في نفسي شيئًا من الحنين.
“هل نُكمل الدرس قليلاً بعد…؟”
ما إن فتحت فمي حتى هز ميل رأسه بسرعة، وفي تلك اللحظة سُمع صوت طرق على الباب.
طَرق… طَرق.
“آنستي، حان الوقت.”
كان صوت الخادمة من خلف الباب.
تحدثت الخادمة بعبارات مبهمة، كما أوصيتها مسبقاً.
كادت ملامحي تتصلب للحظة، لكني تماسكت أمام ميل وحافظت على هدوئي.
“حان وقت درسي الآن. كنتُ سأكمل الدرس لكن عليّ أن أؤجل الجزء القادم للغد.”
عند كلامي هذا، تحرك طرف ذيل ميل بخفة، واهتزت زعانفه.
بدا وكأنه سعيد قليلاً.
مستحيل… هل يعقل…؟
أومأ ميل بجسده مشجعاً لي على أن أدرس جيداً وأعود.
ابتسمتُ ابتسامة خافتة وسحبتُ الستائر. لم يكن ذلك لحجب ميل عن الداخلين فحسب، بل أيضاً حتى لا يراني ميل أنا نفسي.
“تفضل بالدخول.”
طَق.
عند أمري فُتح الباب ودخلت الطبيبة ذات الشعر الرمادي.
في الواقع، كنت معتادة على زيارتها. حتى حين كان وعيي يغيب ويعود باستمرار، كانت تأتي دائماً لرؤيتي.
في الماضي كنت أكره هذه الطبيبة، لأنها هي من نصحتني بتربية حيوان أليف.
عندما أتذكر كيف كان والدي يجلب شتى أنواع الحيوانات بعد ذلك، ما زلت أشعر بغليان الدم في عروقي… بالطبع، لولا ذلك لما التقيت بميل.
على أي حال، كنتُ سابقًا أرجو الموت بأي وسيلة، فكنت أكره الطبيبة التي تحاول إطالة عمري. لكن بعد لقائي بميل أصبحت أستمع إلى كلامها بهدوء.
“سنبدأ الدرس الآن.”
ومع ذلك كنتُ حريصة على أن أوصي الخدم والطبيبة بتوخّي الحذر في الألفاظ أمام ميل، حتى لا يسمع شيئاً غير مرغوب.
كانت الطبيبة قد التقت ميل مصادفة في السابق. حينها قدّمتها لميل على أنها “المعلمة”.
ولحسن الحظ، كانت الطبيبة بلا حماسة، ووجهها الخالي من التعابير يوحي بأنها غير مهتمة بوجود حوري البحر.
على ما يبدو، ليس كل من يحمل صفة “الأنثى” يقع في فتنة حوريات البحر.
قاست الطبيبة نبضي وحرارتي، وأجرت فحص الدم أيضاً.
ثم وهي تتحقق من تفاعلات الأدوية المختلفة، سألتني كعادتها بوجه لا يظهر عليه أي قلق:
“هل أنتِ بخير حقاً؟”
“نعم. لم أعد أشعر بأي شيء سيئ.”
“الأرقام أسوأ من قبل، وهذا تصريح لا يمكن الوثوق به.”
كان استنتاجها بارداً.
تظاهرتُ بالجهل وحولتُ نظري عنها، لكن الخادمة القريبة منّي تصدت بدلاً مني وردّت عليها:
“ربما أخطأتِ في النظر، آنستي في الآونة الأخيرة بحالة جيدة جداً.”
كان خدم الدوقية منذ أن استيقظت مليئين بالحيوية.
قبل أن أنهار، كنتُ في نظر الجميع مريضة تحتضر.
لم أكن قادرة حتى على الجلوس في السرير، وكانت لحظات وعيي نادرة.
لكن في اليوم الذي ظنّوا أنني متُّ فيه ثم فتحتُ عيني من جديد، اعتقد الناس أن معجزة حدثت.
منذ ذلك اليوم وأنا أفتح عيني كل صباح وأغلقهما كل مساء.
كان ذلك وحده بالنسبة إليّ معجزة، بل وكان فعلاً حدثاً يستحق أن يُسمى معجزة.
***
غير أن كل ذلك لم يكن لأن جسدي حقاً لم يعد يتألم، بل كان أفعالاً أنفذها بإرادتي.
اكتفت الطبيبة بهز كتفيها تجاه كلام الخادمة، ثم التفتت إليّ قائلة:
“ليس غريباً إن انتهى الأمر في أي لحظة.”
“……هل انتهى الآن منهاج دروسي؟”
تعمدتُ تحويل مجرى الحديث وأعطيت الطبيبة إشارة بنظري.
رفعت الطبيبة نظارتها بهدوء وكأنها تنظر خلف الستارة، ثم فتحت فمها ببطء:
“آنستي، سأعطيكِ مادة دراسية جديدة.”
كان ذلك يعني أنها ستصف لي دواءً جديداً.
“صباحاً ومساءً، حتى لو غلبكِ النعاس عليكِ أن تتناوليها.”
أي أنه مهما غبتُ عن الوعي صباحاً ومساءً، فعليّ أن أتناول الدواء دون انقطاع.
الطبيبة كانت تعرف.
الخدم كانوا يصدقون أنني أقضي اليوم بوعي كامل، لكن وحدها الطبيبة كانت تعرف أن وعيي كان يختفي أحياناً حتى وأنا مفتوحة العينين.
وكأنني أعيش متمسكة بجسد كان ينبغي أن يموت في ذلك اليوم، في الحقيقة كان جسدي يعاني أقسى أشكال الألم التي لم أختبرها من قبل.
“انتهى درس اليوم.”
بدأت الطبيبة في ترتيب أدوات الفحص المختلفة.
اقتربت الخادمة التي كانت تنتظر في زاوية الغرفة لمساعدتها.
“الطبيبة، هل… هل أستدعي العربة الآن بما أن الدرس انتهى؟”
“قبل ذلك، يجب أن ألتقي بالدوق اليوم.”
عند ذلك حدقتُ في الطبيبة بعيني المتسعتين.
لكن الطبيبة الشابة ذات الشعر الرمادي المربوط بإحكام نظرت إليّ بجدية وقالت:
“مهما كان الأمر، يجب أن يعلم الدوق. إنه والدكِ في النهاية.”
سمعت أن هذه الطبيبة هي ابنة بارون، لكن بسبب فقر عائلتها اضطرت لمزاولة عمل الطب الشاق من أجل كسب المال.
وعلى الرغم من فقرها، فإنها لم تُبدِ خوفاً أو تردداً أمام ضغطي، ربما لأنها تحمل لقباً نبيلاً أيضاً.
“……افعلي ما تشائين.”
“أشكركِ.”
تصرف الطبيبة وفق قناعاتها جعلني عاجزة عن إيقافها بالقوة.
وكان لذلك الإصرار جانب إيجابي أيضاً.
فحين كان غيرها من الأطباء يرددون لي الأكاذيب مثل: “ستتعافين قريباً يا آنسة”، “حالتك أفضل من ذي قبل”، كانت هي الوحيدة التي تخبرني بحقيقة حالتي بوضوح.
لهذا السبب آثرتُ التغاضي عن تصرفها هذه المرة.
***
“مرحباً آنستي، سأجري الفحص. تحمّلي قليلاً فقط.”
“من أنتِ؟”
“أنا الطبيبة التي ستتولى فحصكِ بدءاً من اليوم.”
لكن في اليوم التالي، تغير وجه الطبيبة التي كانت تفحصني منذ مدة طويلة.
قالت لي الخادمات إنها استقالت بنفسها، لكنني كنت أعرف أن ذلك غير صحيح. كان والدي قد استبدلها بلا شك.
غير أن ذلك كان مجرد بداية.
***
“تشرفنا بلقائكِ، آنستي. سأكون طبيبك، أعني معلمكِ-”
منذ ذلك الحين، بدأ طبيبي الخاص يتغير تقريباً كل ثلاثة أيام.
كان الخدم يقدمونهم لي جميعاً باعتبارهم أطباء مشهورين، لكنني لم أعد أثق بأحد.
“تحمّلي قليلاً يا آنسة. سنبدأ الدرس الآن.”
“آنستي، حتى لو كانت الأنواع كثيرة عليكِ أن تطلعي على كل المواد.”
“هذه طريقة تدريس جديدة أُدخلت مؤخراً-”
كان من الفظيع أن هؤلاء الأطباء يستخدمون علاجات عشوائية وغير مُثبتة، لكن لكي أبدو وكأنني لا أتألم كان عليّ أن أتحمل.
مع ذلك، كنت أتساءل بصدق إن كانت هذه الطرق فعالة حقاً.
ألمي لم يتقلص ولو قليلاً، وكنت أحياناً أشعر وكأنني أُسلق حية.
ومع ذلك، ظل الأطباء يقولون نفس الكلام: ستتعافين قريباً، حالتك تحسنت كثيراً……
في البداية كنت أظنها أكاذيب وأبتسم بسخرية، لكن حين بدأ الألم الذي يُتلف أعصابي يزداد ويستنزفني، بدأت أصدق تلك الكلمات.
سيأتي يوم ينتهي فيه هذا الألم.
في الحقيقة، ذلك كان أيضاً ما أتمناه.
وسط هذا الروتين الرهيب الممل والمؤلم، كان أملي الوحيد هو ميل.
كنت أتحمل الألم منتظرةً الوقت الذي سأعلّمه فيه القراءة والكتابة.
“ميل، مرحباً.”
رشح الماء برفق.
“مرحباً.”
عندما ألقيت عليه التحية، حرّك ميل شفتيه محاكياً الكلمات. وحين تحرك، تموج ماء الحوض.
لقد شُفيت حروق ميل أسرع بكثير مما توقعت. لذا أُزيلت معظم الضمادات التي كانت تغطي جسده.
حتى الشاش الكبير الذي كان يغطي وجنته اختفى. لكن على ذيله بقيت أماكن متساقطة القشور وآثار كدمات.
أظن أنه لم تكن هناك كدمات في البداية.
هل كانت جروحاً لم أنتبه لها من قبل؟
ثبتُّ نظري على ذيل ميل الذي كان يتحرك بصلابة طفيفة، ثم فتحت فمي:
“الكلمة التي سنتعلمها اليوم هي…”
فتحتُ قاموس الأطفال. لم يتبقَّ فيه سوى وحدة واحدة.
في الحقيقة، كانت هذه الكلمة أول ما يجب أن أعلّمه له، لكنني أجّلتها مراراً ولم أدرّسه إياها.
“……إنها عن العائلة.”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"