2
الفصل الثاني : سأتولى الأمر !
حين همّت رينا بإعادة إغلاق الباب، عاجلها رون من شدة استعجاله وأمسك بذراعها.
“ما الذي تفعله؟!”
صرخت به بصوت مرتفع.
“آه! عذرًا… لكن الموقف بالغ الخطورة. الدوق قد يفارق الحياة في أي لحظة. أرجوكِ، ساعدينا!”
تجعد وجه رينا بغضب وهي تصغي إلى توسله.
“حقًا… إلى هذا الحد؟ سيد معاون، هل تعلم كم مرة كنا على حافة الموت خلال السنوات الخمس الماضية؟ الحرب انتهت، ومع ذلك لم يكلّف الدوق نفسه حتى بالظهور، ولم نتلقَّ منه حبة طعام واحدة. وما زلنا نصمد وحدنا!”
لم ينبس رون ببنت شفة.
“تقول إنه أصيب بهجوم وهو في حالٍ حرجة؟ هنا أيضًا، الأرض تغصّ بالجرحى الذين لا تقل إصاباتهم خطورة عن إصابته!”
كانت أنفاس رينا تتسارع، وكتفاها يهتزان من شدة الانفعال. أما رون، فبقي ساكنًا يحدّق فيها، لا يتحرك سوى رمشَي عينيه.
عندها، تدخلت يانيكا التي كانت تراقب بصمت، وهزّت رأسها نافية وقالت بصوت هادئ:
“كفى، يا صغيرة. اذهبي وأحضري كوب شاي للضيف. لا يليق أن نصدّ أحدًا عند بابنا، خصوصًا في ليلة ماطرة كهذه. تفضل، يا بُني، اجلس قليلًا.”
ابتسمت ابتسامة وادعة، مشيرة إلى المقعد المقابل.
تأرجح رون بين الدهشة والحرج، وهو يتابع رينا التي كانت تغلي غيظًا وهي تذهب لتغلي الماء. أحس بقطرات عرق بارد تنحدر على ظهره.
طوال خمس سنوات من معارك كراتيه، ما من مكان تردّد اسمه بين الجنود كما تردّد اسم صيدلية يانيكا.
كانت تُعرف بأنها قادرة على علاج ما يعجز عنه الأطباء، حتى لو كانت مجرد عجوز تمتهن العلاج بالأعشاب والسحر.
تردد رون قليلًا، ثم حسم أمره وجلس، وقد عقد العزم أن يُلين قلب العجوز بكل السبل.
مالت يانيكا برأسها قليلًا وقالت:
“لا تأخذ على خاطرِك. ابنتي رينا طباعها نارية بعض الشيء. أعتذر.”
“لا بأس.”
أجاب رون مقتضبًا. كان في صدره الكثير مما يود قوله، والكثير من التظلمات، لكنه ابتلعها جميعًا. بدلاً من ذلك، مد يده إلى جيبه الداخلي وأخرج ورقة مختومة.
“هذا عقد توظيف. بموجبه تصبحين تابعة لأسرة غرانت، والراتب يُدفع شهريًا.”
“قلت لك، لن نفعل.”
وضعت رينا كوب الشاي على الطاولة بعنف حتى كاد الخشب يتشقق.
ارتفعت كلمات إلى حلق رون ـــ (لستُ أخاطبكِ أنتِ!) ـــ لكنه بلعها بصعوبة، ومد الورقة بهدوء إلى يانيكا التي ارتشفت شايها غير عابئة.
“إن أردتِ، يمكننا دفع أجر الشهر الأول مقدمًا. الرقم المكتوب يكفيك أكثر مما قد تكسبينه خلال عشر سنوات من العلاج.”
“قلت لك لا نريد… ها؟!”
كان صوت رينا مليئًا بالضيق، لكنها لم تتمالك نفسها حين خطفت الورقة من بين يدي رون وبدأت تقرأ.
وما إن وقعت عيناها على المبلغ المدوَّن حتى اتسعتا دهشة.
“ه- هذا… كم؟!”
“ترين الآن؟”
قال رون مرفوع الرأس، وقد عاد له شيء من الاعتداد.
لكن رينا لم تكن تصغي. كانت غارقة في تفاصيل العقد، وكأنها تلتهم السطور. ومع ذلك، فإن كل كلمة مقاطعة منها كانت تثير غيظ رون أكثر، إذ حالت بينه وبين تفاوضه مع يانيكا.
“يانيكا! هل ترين هذا الرقم؟ عشرة آلاف قطعة ذهبية!”
“أجل، هكذا مكتوب.”
أجابت العجوز ببرود، كأن الأمر لا يعنيها.
توهجت عينا رينا للحظة، لكنها سرعان ما تداركت نفسها، سعلت مرتين، ثم دفعت العقد من جديد أمام رون.
“لن نفعل.”
“آنسة، اسمعي…”
“اسمي رينا ويند.”
“حسنًا، آنسة ويند. لكنني أتحدث الآن مع المعالجة يانيكا.”
نظر إليها نظرة جافة تحمل معنى “كفي عن التدخل”، لكن رينا لم تبالِ. عقدت ذراعيها ونظرت إليه بصلابة.
في تلك اللحظة، قفزت إلى ذهن رون ذكريات كان قد نسيها.
“تلك الصيدلية فيها فتاة شابة… لا يُستهان بها!”
“رأيتها أنا أيضًا! تظاهرت بالمرض فضربتني ضربًا مبرحًا!”
“صدقني، حتى زوجتي لم تضربني بهذه القوة!”
“أما أنا، فذهبت لعلاج ظهري وعدت خفيفًا كأن لم يمسني وجع… لكن يا إلهي، طباعها!”
كان هذا ما كان يتداوله الجنود فيما بينهم. والآن، أدرك رون فجأة أن تلك الفتاة لم تكن سوى هذه المرأة التي تتحداه بعينيها. لم يتمالك نفسه عن إطلاق أنين خافت.
أما يانيكا، فبدا أنها لا تنوي التدخل بينهما. فاستغلت رينا الفرصة وأخذت الكلام من جديد، لكن نبرتها هذه المرة جاءت أهدأ وأكثر تماسكًا.
“سنغادر هذا المكان قريبًا. الأمر يتعلّق أيضًا بمشكلة صحية لدى يانيكا. ففن الشفاء ليس نبعًا أبديًا يتدفق كالبحر بلا نهاية، بل له حدوده. وكما ترى، لقد عالجت من الناس ما يفوق طاقتها طوال السنوات الخمس الماضية.”
“…….”
“اللورد بويل، أعذرنا. لقد قطعت طريقًا طويلًا وجئت إلى هنا، لكن الأفضل أن تستريح قليلًا وتبحث عن شخص آخر.”
يانيكا أومأت موافقةً على رأي رينا. أمّا رون، فقد أحسّ بجفاف في حلقه.
(يجب أن أحضر الشافية سريعًا لعلاج الدوق…)
وبينما يغمض عينيه ويفتحهما، خطر له آخر اقتراح يمكن أن يطرحه.
“لا شك أنك تعرف دوقية إسماعيل في الجنوب. سمعت أنهم يقبلون الشافيات هناك مقابل مبالغ ضخمة تُدفع للمملكة. لكن المشكلة أن العائلات الموسومة بالخيانة لا يُسمح لها بالدخول. أليس كذلك، الآنسة نِكا من بيت بورْدن؟”
قال رون ذلك وهو يحدّق في يانيكا.
“أيّ كلام جارح هذا!” انفجرت رينا غاضبة، وقد ارتفع صوتها بلا شعور. لكن يانيكا أمسكت بيدها وربّتت عليها لتهدئتها.
“دعكِ، فهو لم يقل باطلًا. لنستمع لما عنده، تفضّل يا لورد بويل.”
رطّب شفتيه الجافتين قليلًا وتابع:
“أعتذر لإثارتي ماضيكِ، يا سيدتي. إنما أردت القول… أنني مستعد لتغيير هويتك. سأدفع تكاليف الإقامة في دوقية إسماعيل، بل وسأضمن أن تعيشي هناك كابنة بارون. لكن بشرطٍ واحد: أن يُشفى الدوق كاليـس شفاءً كاملًا.”
المرأة التي كانت قبل قليل تردّ بعنف لم تنبس ببنت شفة، ورون اغتنم هذا الصمت ليشدد عرضه مرة أخرى:
“الأمر ليس هيّنًا عليّ كذلك، لذا أرجو أن تتخذي قرارك بسرعة.”
ابتلعت رينا ريقها بصعوبة.
“يانيكا… ما رأيك؟”
“إنه عرضٌ مغرٍ بلا شك. نِكا بوردن… حتى اسمي القديم تعرفونه، إذن قد تحرّيتم كثيرًا.”
(عرض مغرٍ؟ إنه أعجوبة! أن تحظى بمال وفير، وتغادر إلى دوقية إسمايل بهوية جديدة كابنة بارون؟ هذه فرصة لا تتكرر في العمر!)
رينا لم تتكلم، لكن عينيها كانتا تصرخان بوضوح وهي تحدق في يانيكا. غير أنّ الأخيرة، الصلبة كعادتها، لم تغيّر جوابها.
“العرض ممتاز، لكنني لم أعد أملك الطاقة اللازمة لمعالجة مريض يحتاج عناية عاجلة. أعذروني.”
“آه… لا، لا، ليس هكذا. أنا من سيتولى الأمر.”
التفتت يانيكا ورون معًا إلى رينا.
كانت عيناها البنفسجيتان وشعرها الأرجواني الفاتح يعلنان بجلاء أنها شافية هي الأخرى.
وفي داخلها، رأت رينا أن هذا العرض هو فرصة للنجاة: بعد شفاء الدوق ستتمكن من مغادرة هذا البلد البائس مع يانيكا، وتعيشا في مكان أفضل بطمأنينة أبدية. كان في قلبها امتنان عميق ليانيكا، وأرادت أن ترد الدين مهما كلّف الأمر.
“أستطيع أن أفعلها. بل أريد أن أفعلها. طوال خمس سنوات من الحرب، تعلمت الكثير من يانيكا. حان وقت رد الجميل.”
“لكن يا رينا… ليتك لا تفعلي. أنت لا تعرفين كم هو مُرهق…”
“دعيني أوفي دَيني. أرجوكِ.”
أمسكت رينا بكلتا يدي يانيكا، بينما قالت كلماتها بجدّية صادقة.
رون هزّ رأسه متنهّدًا وهو يراها تغيّر موقفها بهذه السرعة، بدافع المال وتبديل الهوية.
(حسنًا… يبدو أن رأيي غير محسوب أصلًا.)
رفع بصره إلى السقف وهو يتنفس بعمق، محاولًا إقناع نفسه أن أي شافية خدمت تحت يد يانيكا لخمسة أعوام، حتى ولو كان طبعها حادًّا، فلا بأس بها.
“فما قرارك إذن؟ لا أستطيع الانتظار أكثر.”
تناجت المرأتان همسًا لبعض الوقت، ثم بعد تردد قصير، أومأت يانيكا موافقة.
“سأذهب أنا. لكن بشرط: أن تدفع راتب شهر كامل مقدّمًا ليانيكا.”
“لا مفر من ذلك. موافق. أعطوني ورقة وقلم.”
وقّع رون على الورقة التي أُحضرت له، ثم سلّمها ليانيكا موضحًا أن ترسلها غدًا مع أحدهم لتستلم المبلغ.
ومن هنا جرت الأمور بسرعة مذهلة.
اختارت رينا حقيبة من بين الأمتعة الجاهزة في الطابق العلوي، ثم ودّعت يانيكا بكلمات قصيرة، واعدةً أن تعود بعد علاج الدوق.
وما إن أنهت وداعها، حتى أسرع رون في نقل الأمتعة ووضعها في العربة، ثم ساعدها على الصعود.
وانطلقت العربة تشق طريقها في عزّ المطر الغزير.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"