6
كان اليوم الأول في الوظيفة الجديدة مرهقًا بما يكفي، لكن اضطراب “جونغ-أوه” لم يكن مردّه ضغط المهام أو غرابة الوجوه، بل أمرٌ آخر لم تكن قادرة على تسميته.
وبحلول المساء، كانت قد بدأت تلتقط أنفاسها بين أفراد الفريق، إذ تسرّبت إليها بعض الألفة، فخفّ وطء التوتر شيئًا فشيئًا.
“عند إرسال الملفات، فقط اسحبيها إلى المجلد المشترك. لا حاجة لتلك الخطوات المزعجة المعتادة، الأمر هنا بسيط.”
كان أصغر أعضاء الفريق، “سونغ كيهون”، يشرح لها نظام الشركة بصبرٍ يشبه دفء النوافذ في الشتاء.
“في عملي السابق كنا نعتمد التخزين السحابي، لكن يبدو أن لديكم هنا نظامًا خاصًا بالمجلدات. لا شك أن هذا أكثر أمنًا.”
“يُسجَّل كل رفع أو تنزيل تلقائيًا. لم نواجه مشكلات أمنية، لكن إن تأخر أحد في مراجعة الملفات، يُفضَّل حينها وضع كلمة مرور.”
“شكرًا لك، كيهون. تعلمت منك اليوم أكثر مما كنت أظن.”
“أنا نفسي لم يمضِ على وجودي هنا سوى ثلاثة أشهر، لذا هذا كل ما لدي الآن.” قالها وهو يبتسم بخجل.
ابتسامته تلك كانت من النوع الذي لا يولد إلا في قلوبٍ بيضاء لم تخدشها المرارة بعد.
كان النهار يوشك على الانسحاب، وكانت قائدة الفريق قد وعدت ألّا تُثقل كاهلها بساعات إضافية في أول أيامها، ولهذا بدا لها أن باب المغادرة بات وشيكًا.
في طريق عودتها، كانت تنوي أن تُفكر: هل هذا المكان يستحق البقاء، أم أن الرحيل أكثر حكمة؟
لكن فجأة، عادت “سونغ مي-ران”، التي كانت قد خرجت للحظات، تحمل في صوتها صاعقة:
“جونغ-أوه، المدير “جونغ جي-هون” يطلب مقابلتك قليلاً.”
“…عذرًا؟”
تجمدت قسمات وجهها. توقفت أنفاسها عند حافة الاسم.
“اذهبي إلى مكتبه الآن.”
“…”
“لا، سآتي معك.”
رأت “مي-ران” الشحوب يكسو ملامحها في لحظة، فعدلت عن الجلوس وأشارت لها أن تتبعها، ظنًا منها أن “جونغ-أوه” تعاني فقط من رهبة البدايات.
لم يكن أمام “جونغ-أوه” خيار. سارت خلفها وقلبها كطبول حرب لا تهدأ.
لماذا الآن…؟
تجاهلني في الصباح وكأنني ظل، والآن يريد مقابلتي؟ لماذا؟ هل سيطلب مني أن أرحل؟ هل يريد إقصائي بصمت حتى لا أعكر صفو حياته؟
كل خطوة كانت تسحب خلفها سيلًا من الأسئلة المؤرقة.
وكأن في الأمر خطة خفية، ناعمة، لإجبارها على الاستقالة.
لكنّ وجود “مي-ران” يربك هذا السيناريو، فهي تُصر على مرافقتها.
“قائدة الفريق، لا بأس… يمكنني الذهاب وحدي.”
رغبتها الخفية كانت أن تبقى “مي-ران” معها، لتحميها بصمت، لتكون جدارًا يعيق تهجّم “جي-هون”، لكنها اختارت أن تبدو هادئة.
أرادت أن تعرف ما الذي سيقوله حين تلتقيه بمفردها. كانت خائفة، نعم، لكنها كانت تعرف أن وجودها في هذا المكان مرهون بمواجهته، مهما أخّرت ذلك.
“كلا، سأرافقك.” قالتها “مي-ران” بنبرة لا تقبل الرفض.
ثم أضافت، كمن يلقي تنبيهًا ثقيلًا:
“كوني حذرة. مزاجه… ليس على ما يرام.”
“ماذا؟”
“المدير “جونغ جي-هون”… مزاجه سيء جدًا اليوم.”
زفرت “مي-ران” تنهيدة حادة، ثم زمّت شفتيها بامتعاض، كأنها تحادث نفسها:
“كل ما قلته إنه وسيم! كيف يكون ذلك إساءة؟”
“عذرًا؟”
“كانت مجرد مجاملة، لا أكثر.”
“…”
“لم أكن أغازله أو أتصرف بطريقة غير لائقة. أردت فقط أن أظهر الود، لكنه بدا وكأنني طعنته. هل هذا يستحق التوبيخ؟”
جي-هون المجنون…
تمتمت “مي-ران” في سرّها، وكأنها تعيد ما جرى:
“وهو أصغر مني بكثير…”
أما “جونغ-أوه”، فقد عجزت عن السؤال. شيء ما في حديث “مي-ران” عن تقلب مزاجه جعلها تشعر بأنها تقترب من فوهة بركان.
كل ما أرادته فجأة… هو الفرار.
هل أستدير بهدوء، أجمع حقيبتي، وأمضي نحو الباب دون وداع؟
هل عليّ أن أعود إلى عملي القديم، أن أطرق بابه خجلة، مستجدية؟
أفكار كثيرة وثقيلة سكنت كتفيها، حتى وصلت إلى باب مكتبه.
دق دق.
“تفضل.”
جاء صوته من الداخل، هادئًا، حاسمًا، كأنه لا ينتمي لهذا العالم.
ردّ “جي-هون” على طرق “مي-ران”، بينما كانت “جونغ-أوه” تقف خلفها، تتقلّب معدتها بعنف كأنها غرقت في بحر من القلق لا قاع له.
انفتح الباب ببطء، بلا اكتراث، كأن المكان نفسه لا يعترف بحضورها.
وهكذا، وجدت نفسها واقفة أمامه… من جديد.
كأن سبع آعوام لم تمر، وكأن كل شيء يعود للوراء، لكن بملامح أقل دفئًا، أكثر قسوة.
استدعاها، نعم، لكنه لم ينظر إليها، أو لعل نظره اجتازها دون أن يراها.
اللا مبالاة في عينيه كانت قاسية… كالسُخام فوق وجه طفل كان يعرف النور.
“المدير، لقد أتيت بنائبة المدير… لي جونغ-أوه.”
قالتها “مي-ران”، وصوتها يملأ الفراغ الرسميّ الذي تركه الصمت.
كرر اسمها، وكأنه يحاول تذوقه على لسانه بعد طول غياب:
“نائبة المدير… لي جونغ-أوه.”
لكن سماعه ينطق اسمها لم يكن كما اعتادت.
لم يكن كما تتذكّر…
كان باردًا، متغرّبًا، غريبًا عنها، غريبًا حتى عن الاسم نفسه.
كأنها سارت إلى أقصى الأرض، حيث لا دفء ولا شمس، فقط شتاء صامت لا يُنطق فيه اسمٌ بمحبة.
حين كان ينطق اسمي في الماضي، كنت أحب اسمي لأن صوته كان يسكنه.
كان يزرع فيه حياةً تُزهر داخلي.
أما الآن، فاسمي على لسانه مجرّد صقيع.
“نعم.”
خرجت منها الكلمة بصعوبة.
صوتها بالكاد سُمع.
لكن سؤاله التالي كان مفاجئًا:
“هل أنتِ بخير؟”
“عذرًا؟”
“بدوتِ متعبة عندما مررت بجانبك قبل قليل.”
اتسعت عيناها بدهشةٍ مأهولةٍ بالذهول. ما الذي يعنيه؟ ما الذي يريده؟
هل يتلاعب بها؟ هل يختبئ خلف قناع اهتمام مزيف؟
في لحظة، أدركت أن مجيئها مع “مي-ران” ربما كان خطأً.
لو جاءت وحدها، لربما كشفت نواياه دون قناع.
أما الآن، فقد اختبأ خلف المجاملات والأسئلة الباردة.
فهمت مقصد سؤاله، وفكّرت أن ترد، لكن “جي-هون” لم يمنحها الفرصة.
“غادرتِ سانغ-آه بلانينغ لتنضمي إلى ماكس بلانينغ.”
“…”
“آمل ألا تكوني قد شعرتِ بخيبة، لأنها ليست الشركة التي تقدّمتِ إليها. لكن “ماكس” أفضل، من جميع النواحي.”
كلماته جاءت مغلفة باللباقة، لكنها حادّة من الداخل.
كأنها خنجر مغطّى بورق حرير.
كان يقول دون أن يقول: “كوني ممتنة، وجودك هنا نعمة”.
وكأن صوته حمل تهكمًا غير منطوق، لكن واضحًا كجرحٍ مفتوح.
“هل تظنين أنكِ قادرة على تحمّل عبء العمل؟”
“…نعم.”
“كنت أتوقع من كاتبة إعلانات إجابة أذكى من هذه.”
ابتسم باهتًا، كمن يلوّح بسيف ساخر، حادٍّ، لا يرى سوى ضعفها.
شعرت أن كلماته تُسقِطها شيئًا فشيئًا من مكان كانت تظن أنها تملكه.
كأنها لم تكن هناك إلا كظلٍّ عليه أن يتلاشى.
ما الذي يريده مني؟
أن أقول له إني لا أبالي؟ أن أؤكّد أن الماضي لا يهمني؟
أن أعده أنني سأعمل دون أن يرمش لي قلب؟
راقبت “مي-ران” التوتر العالق بينهما، فمدّت يدها تمسك بذراع “جونغ-أوه”، في إشارة للانسحاب.
تنفست “جونغ-أوه” بعمق، كأنها تحاول استدعاء ما تبقى من ثباتها، ثم قالت:
“حين أبدأ العمل بالفعل… سأبذل كل جهدي.”
“افعلي. سأراقبك.”
عبارته تلك… “سأراقبك”، جعلت شيئًا باردًا يزحف في عمودها الفقري.
هل يعني مراقبة عملها؟ أم مراقبة قلبها؟ خطواتها؟ روحها؟
تدخّلت “مي-ران”، كمن يُحاول كسر الثقل بكلمة:
“نائبة المدير “لي” ستكون ضمن الفريق المكلّف بمشروع العروض التقديمية التنافسي، كما تعلم. وسأدعمها لتحقيق نتائج جيّدة.”
“سأنتظر النتائج.”
ردّ “جي-هون” وكأنه يُنهي الحديث قبل أن يبدأ.
وبعد أن خرجت “جونغ-أوه” مع “مي-ران”، تنهدت في داخلها تنهيدةً لا صوت لها، لكنها ثقيلة كالحجر.
هو لم يعد “جي-هون” الذي عرفته.
أو لعل “جي-هون” الذي عرفته… لم يكن يومًا حقيقيًا.
شعرت بشيء يتكسّر داخلها.
ظنت أنها شُفيت من جراحها القديمة، لكن الألم عاد، حيًّا، حارقًا، كما كان أول مرة.
—
بعد مغادرتهما، جلس “جي-هون” في صمتٍ ثقيل.
أصابعه لا تتحرك، وجبهته مشدودة، وعيناه تسبحان في مكان بعيد.
لي جونغ-أوه… كاتبة الإعلانات.
رغم أنها أجابت بأدب، كان في عينيها ارتجافٌ خفيّ، عنادٌ صامت،
كأن جناحي يعسوب يهتزان تحت عاصفة.
شعر أنها لا تريد التحدث إليه، ولا حتى أن تراه.
هل أصبحتُ في عينيها شيئًا مشوّهًا؟
زومبي؟ مصيبة؟ مرضًا معديًا؟
لا شك أن كثيرين يجدونه ثقيل الظل.
ومع ذلك، لم يستطع طرد التفكير بها.
دق دق.
وبينما كان غارقًا في شروده، جاء طرق آخر على الباب.
ردّ بجملة قصيرة، فانفتح الباب.
“مدير؟”
الرأس الذي أطلّ على استحياء من باب المكتب كان لرجلٍ يعرفه جيدًا… “بارك سونغ-غيو”، نائب المدير في قسم الموارد البشرية.
صديق المرحلة الثانوية والجامعة، والرقيب الأعلى زمن الخدمة العسكرية—”بارك سونغ-غيو”.
وجه “جيهون”، الذي تجمّد طويلاً في صمتٍ ثقيل، انفرج قليلًا حين رآه.
لم يجمعهما فصل دراسي منذ عامهما الأول في المدرسة، وحتى حين درسا في الجامعة ذاتها، كان حضورهما متوازيًا لا يلتقي. سمع كلٌّ عن الآخر من بعيد، ولكن لم يتجاورا.
حتى جاءت الخدمة العسكرية، حين نُقل “جيهون” إلى السرية التي كان “سونغ-غيو” يخدم فيها.
هناك، تكشّفت الرعاية في يد “سونغ-غيو”، وبدا له “جي-هون” طفلًا صامتًا في حاجة إلى ظلّ آمن، فوجده فيه.
وإن كان “جي-هون” اليوم لا يتذكّر شيئًا من تلك الأيام، فقد ابتلعتها فجوة في ذاكرته تمتد ثلاث سنوات…
إلا أن الصداقة، رغم النسيان، بقيت نابضة. و”سونغ-غيو”، ببساطته وتسامحه، كان من أولئك الذين لا يفقدون مكانهم في حياة “جي-هون”، مهما اشتدّ الضياع.
وحين دخل عليه، قال له “جي-هون”:
“نحن فقط هنا، فلا تتصنّع الرسمية. تكلم كما تشاء.”
مضى أسبوعٌ واحد فقط منذ انتقل “جي-هون” إلى قسم “ماكس بلانينغ”. وعلى الرغم من انتمائهما للمجموعة نفسها، لم تتقاطع طرقهما سابقًا بسبب عمل كل منهما في فرع مختلف.
لكنّ الآن، سيجدان أنفسهما في لقاءٍ يوميّ لا مفر منه.
تنفّس “سونغ-غيو” بارتياحٍ ممزوجٍ بشيءٍ من الحرج، ثم ترك صوته يفضح ما في قلبه:
“لا أزال غير معتاد على الأمر. أشعر وكأنك بعيد… سيدي المدير.”
“هل ترغب أن أنقل مكتبك إلى المبنى الملحق لتتأقلم أسرع؟”
“هل تمزح؟!”
شهق “سونغ-غيو”، فابتسم “جي-هون” بسخرية خافتة.
رفع “سونغ-غيو” صوته محتجًا:
“أوه، بحق! تصيبني بالقشعريرة. لا تلقِ مزاحك بهذه الطريقة. حين تتحدث، يبدو كل شيء وكأنه أمرٌ جاد!”
“هل تُخيفك كلماتي؟”
“نعم! حتى سؤالك هذا يُقلقني.”
“مخيف…؟”
ردّدها “جي-هون” بصوتٍ غائر، كأنه يختبر وقعها في روحه. كان شارد النظرة، متأمّلًا، كأن الكلمة حملت ثقلًا أكبر من المعنى.
راقبه “سونغ-غيو” بقلق وسأله:
“ما الأمر؟ هل هناك شيء؟”
سكن “جي-هون” لوهلة، ثم أجاب بصوتٍ منخفض:
“انضمت إلينا موظفة جديدة… كانت تعمل أولًا في شركة سانغ آه للتخطيط.”
“نعم، أعلم. نائبة مديرة، تعمل في كتابة النصوص، أليس كذلك؟ ما بها؟”
“حين رأتني، شحب وجهها.”
“أهذا غريب؟ وجهك يجعل الناس يشحبون دائمًا.”
ردّ “سونغ-غيو” مازحًا، ثم تجمّد فجأة.
…نظر إليها، إذن.
نادرٌ أن يلتفت “جونغ جي-هون” إلى وجه امرأة.
“…هل هي جميلة؟” سأل “سونغ-غيو” بعينين ضيّقتين وابتسامة ماكرة.
لكن “جي-هون” لم يُجبه، اكتفى بأن أشاح بوجهه، وراح يرتّب أوراق مكتبه بهدوءٍ متعمّد.
فغيّر “سونغ-غيو” الموضوع:
“هل تستعد للمغادرة؟”
“نعم.”
“هل لديك خطط للعشاء؟ إن لم يكن، هل تمرّ على منزلي؟”
“ولماذا أذهب؟”
“أمّك الفاضلة أمرتني. قالت إنها تريد أن تُريك ما تعنيه الحياة الأسرية السعيدة، علّك تتزوّج أسرع…”
“لا داعي لأن تأخذ كلامها على محمل الجد. فقط… تظاهر بالاستماع.”
قاطع “جي-هون” الحديث كأنه أغلق بابًا لا يريد فتحه.
فتراجع “سونغ-غيو” عن إكمال كلماته.
حياة لا يُطلب فيها منك إلا أن تُجيد التظاهر.
أن تعرف متى تتوقف، ومتى تُساوم، ومتى تُمثّل أنك حاضر…
حياة لا تحتاج منك إلا أن تبقى في الظل.
ذلك كان ماضي “جي-هون”، وحاضره، وما يبدو أنه مستقبله.
حتى بعد أن ابتلعت الذاكرة ثلاث آعوام من عمره، لم يشعر بأي ندم على تلك الحياة.
حياة… بلا ضوء. بلا لون. بلا اندفاع.
.*. *. *. *. *. *.
في مساءٍ كئيب، غادر “جي-هون” العمل باكرًا.
تجاهل وجبة العشاء، وابتلع دواءه بصمت.
استلقى ممددًا على الأريكة، يحدّق بصمت في زجاجة الدواء البيضاء التي وضعها على الطاولة، كأنّها تبتلعه لا هو يبتلعها.
ثم عادت ملامحها الشاحبة لتظهر في ذهنه، ترفرف على حواف الذاكرة كطيفٍ لا يُفارق.
“كان اسمها لي جونغ-أوه، أليس كذلك؟”
اسمٌ بدا غريبًا على فمه، لكن مألوفًا في صدره.
“ليست حتى من النوع الذي أحبّه… فلماذا؟”
لطالما جذبه الشعر الطويل. كان يميل برأسه حين يرى خصلاتٍ مستقيمة تنسدل على أكتاف النساء. عرف نفسه في هذا التفضيل.
لكن لماذا، الآن، يهتمّ بامرأةٍ لا تحمل هذا المظهر؟
“هل لأن اسمها… مألوف؟”
أعاد التفكير.
ربما…
كان يحمل هوسًا غريبًا بلحظةٍ معيّنة من الزمن—الساعة الثانية عشرة ظهرًا.
كلما وقعت عيناه على الساعة تشير إلى “12:00″، ذلك الرقم المستوي، المستقيم، المتوازن… شعر بانقباضٍ لا تفسير له في صدره.
الثانية عشرة… جونغ-أوه.
ذلك هو اسمها.
“لي جونغ-أوه. لي جونغ-أوه…”
بقي الاسم يتردد على شفتيه، بنغمةٍ دافئة كضوء الشمس حين يتسلل في منتصف النهار.
اسمٌ بدا مشرقًا… لكنه لا يشبهها.
هل سبق له أن فكّر في امرأةٍ بهذا العمق، رغم أنه لم يلتقِ بها إلا لحظات؟
وبينما راح صوته يخفت شيئًا فشيئًا، كأنما يودّع تكرار الاسم، جاءه صوتٌ… غريب.
بيب، بيب، بيب، بيب.
أحدهم يضغط على رمز الباب.
من يعرف الرقم؟
وقبل أن يتمكن من التفكير… انفتح الباب.
وظهرت هي.
لي جونغ-أوه.
جفل “جي-هون”، فجلس من فوره، مذهولًا.
“كيف… دخلتِ؟”
لقد تفاجأ إلى حدٍ أرهق صوته، فخرج مرتجفًا، مكسورًا عند الحواف.
كانت تقترب منه ببطء، وجهها شاحب كأن الليل قد تسلل إلى دمها، وعيناها واسعتان، مذعورتان، تمامًا كما رآها حين تركت مكتبه…
مظهرها المرتّب كان يرتعش، يرتجف كأن الهواء نفسه لا يرحمها.
“ما الذي تفعلينه هنا؟”
كيف عرفت الرقم السري؟
لماذا جاءت؟
وماذا تريد؟
كل هذا… خرق، تسللٌ إلى حيزه الخاص، إلى وحدته المدروسة.
كان عليه، منطقًا، أن يتصل بالشرطة—
لكن…
قبل أن يحرك جسده الغارق في الصدمة، سبقت يداها يدَه، وأمسكت بذراعه.
كانت يدًا واهنة، هشّة، كأنها قد تنكسر من لمسة، وكان في وسعه، بلا عناء، أن يبعدها بيدٍ واحدة فقط…
لكنّ المفارقة؟ لم يقدر.
بل العكس—شيءٌ داخله بدأ يرتجف.
ما الذي يحدث له؟ ما الذي يربك جسده إلى هذا الحد؟
كانت يدها تصعد ببطءٍ على ذراعه، أصابعها تنساب كالماء، ولم تكن تلك اللمسة بريئة.
لم تكن تلك اليد يدَ امرأةٍ خائفة.
بل بدت لمستها كأنها شيءٌ نسي الزمن اسمه.
ناعمة حدّ الغرابة، دافئة كظهيرة صيفٍ لا ظلّ فيها.
وحين لامست عنقه، شعر بها كما يشعر النائم بالشمس على جبينه.
كان أنفاسها أقرب من أن تُحتمل.
أنفاسٌ حارّة، لم تكن تهدّئه، بل تشعل داخله خيالًا محمومًا.
لم يفهم لماذا كانت تفعل ذلك.
ولم يفكر في إيقافها.
أو لعلّه… كان يعلم أن هذا سيحدث.
بل ربما كان ينتظره.
مالت برأسها بخفة، وكأن جسده استجاب قبل عقله، فانفرجت شفتاه بتلقائية غريبة.
تسللت أنفاسها إليه، كنسمةٍ دخلت صدره بلا استئذان، كأنها سكنت رئتيه، لا كهواءٍ عابر، بل كحضورٍ استوطنه.
لكن… ثمة فراغ خفي تمدد داخله، كأن كل شهيق منها سرق منه شيئًا، وكأنها، دون أن تدري، أخذت شيئًا من روحه في مقابل كل نفس.
كل حواسه استيقظت. اشتعلت. أصبحت لها وحدها.
لكن اللحظة كانت قصيرة كحلمٍ مُربك.
فجأة، ابتعدت عنه.
قطّب “جي-هون” حاجبيه.
تلك الشفاه التي بالكاد لامست شفتيه، ثم انسحبت، لم تترك خلفها إلا حرقةً ناقصة.
شيءٌ فيها… شيءٌ فيه… لم يكتمل.
رغم كل جرأتها، لم يتغيّر وجهها.
لا تزال ملامحها كما هي، تلك البراءة التي تثير داخله عاصفة غريبة.
مزيج من رغبةٍ وغضبٍ غير مُبرر.
عيناها ترتجفان كجناحيّ يعسوب، كأنها على وشك البكاء، كأنها خفيفة بما يكفي لتفرّ في لحظة.
الرغبة هنا، ليست شهوة، بل عاصفة تتجاوز المنطق.
أراد أن يمسك بها.
أن يمنعها من الانسحاب من الحلم.
أن لا يدعها تتلاشى كما جاءت.
وحين استدارت لتمضي، أمسكها.
شدّها إلى الأريكة التي كان ممددًا فوقها.
دَفّة!
لكن العالم انقلب.
استفاق “جي-هون” فجأة.
سقط عن الأريكة، ارتفع جسده من تلقاء نفسه، ثم ارتطم بالأرض.
صوت الارتطام أيقظه إلى واقعه.
لهاث… لهاث…
كتفه يؤلمه، لكن الرأس كان أثقل، كأن الألم تسلّق من قفصه الصدري إلى عقله مباشرة.
يتنفس… يتنفس كأنه يهرب من شيء.
لهاث… لهاث…
أين ذهبت؟
كانت هنا، كانت قريبة حدّ أنفاسها تلامس قلبه.
والآن؟
كأنها لم تكن أبدًا.
لكنه… لا يزال يشعر بها فيه.
أنفاسها لا تزال تسكن صدره.
…جونغ جي-هون، لقد اختلّت عيناك وعقلك.
كان حلمًا، لكنّه كان واقعيًا لدرجةٍ مقلقة.
فاضحًا… حيًّا… كثيفًا.
“لماذا؟ بحق… لماذا؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 6 - جـنـون جــانـغ جــي هــون 2025-08-02
- 5 - حـیـن الـتـقـت الـعـیـون.. كـل شـيء تـغـیـر. 2025-07-25
- 4 - بــعــد ســبــع أعــوام 2025-07-14
- 3 - يـبـدو أن أحــدًا مــا يـبـكـي 2025-07-09
- 2 - تـوقّـفـتُ عـنـد حـافـة الاعـتـراف 2025-07-07
- 1 - لـدي مـا أقـولــه 2025-07-05
التعليقات لهذا الفصل " 6"