1
حين لامست برودة فوهة المسدس جبينها، شعرت كأن قلبها هَوَى دفعة واحدة.
رفعت كارمن رأسها قليلًا، لتحدّق في الرجل الذي وضع فوهة السلاح على جبينها.
“……ماذا؟”
“كارمن روبرت.”
كان صوته أقرب إلى زفرةٍ مبحوحة، ممتزجة بابتسامة خفيّة. ارتجف جسدها لتلك النبرة المنخفضة، ولم يغب عن بصرها ذلك الابتسام العميق المرتسم على وجهه المظلل.
“أأنتِ مصابة بالعدوى؟”
لم تستطع الحراك، كأن جسدها قد شدّ بأوتارٍ خفيّة.
كان في مقدورها أن تزيح فوهة السلاح، وأن تلوي ذراعه، ثم تحسم الأمر بكسر عنقه؛ فعل اعتادته مرارًا، غير أنّ جسدها هذه المرّة أبى الطاعة.
عيون جود أبهرَكس، ذاك الرجل الذي وجّه المسدس إليها، كانت تشعّ بلمعان الصيّاد عند عثوره على فريسته.
“هل يعلم آل روبرت بحالك هذا؟”
كانت نظرته تقول بوضوح: ترى، هل الماركيز روبرت يدرك أنّ ابنته في هذه الحال؟
“ها قد وقعتُ في مأزقٍ شاقّ.”
حكّ أبهرَكس جبينه بيده الأخرى، ثم أمال رأسه نحو كارمن وهو يرمقها.
“ألديكِ ما تقولينه؟ لِمَ لا تعرضين عليّ صفقةً مجزية؟”
“……إن كُشف أمري بكوني مصابة، فلن تنجو أنت أيضًا، يا أبهرَكس.”
“ولماذا؟”
“لأنني أعلم أنّ شقيقتك كلارا وزوجتك لم تذهبا في عطلة، بل إنهما أُصيبتا بالعدوى وقيد الحجر.”
“……أوه.”
أطلق همهمة قصيرة فيها دهشة.
“ثم إنّ ثلاث قرى في الجنوب الغربي أضحت أطلالًا بسبب الفيروس الذي تسرّب من مختبراتك السرّية للتجارب البشرية.
لقد عمّت الفوضى الإمبراطورية يومها، وأنت تعلم ذلك حقّ العلم.”
تمتمت كارمن ببطء وهي تمسك بفوهة السلاح وتقرّبها أكثر من جبينها.
“أبهرَكس الذي يضع فيه جلالته ثقته، يرتكب مثل هذه الأفاعيل؟ تجارب محظورة؟!
ألم يكن أبهرَكس نفسه من أصدر حظرًا صارمًا على استنبات الفيروسات والتجارب عليها؟
إن انكشف أمري، فإنّ الأدلّة على خيانتك ستُسرَّب أوّلًا إلى الصحف.”
“…….”
“ثم ستشيع النشرات والإشاعات في أروقة السياسة ودور البغاء والصالونات.
في غضون يوم واحد، سيشهد شعب الإمبراطورية بأسره سقوط آل أبهرَكس وآل روبرت معًا…….”
حدّقت كارمن في عينيه الزرقاوين العميقتين، ثم نهضت ببطء، فيما كان الأفق يغرق بينهما بضوء المغيب.
“فما قولك؟”
سألت وهي ترفع حاجبًا.
“أتراكَ قادرًا على الاحتمال؟”
كان البشرُ في سلام.
ألهمهم علم الخيمياء استخراج الذهب وتشييد الحضارات، فكان منارة للإنسانية، فيما مضت العلوم الأخرى في إثره على مهل.
لم يكن الخيميائيون كهَنةً ولا سحرة، لكنهم أقاموا العليل من فراشه، واستولدوا من العدم وجودًا.
تعايشت الممالك الكبار والصغار في حضارة نامية بطيئة، عيشةً وادعة.
كان ذلك قبل ثلاثمئة عام.
ثم أطلّ فيروس غامض، مُعلِنًا نهاية السلام الذي بدا خالدًا.
جهل الناس مصدره وسببه، لكن العدوى انتشرت، وكانت أعراضها على ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: ضيقُ التنفّس والنوبات المتكرّرة.
شُبّهت بأمراضٍ شائعة بين النساء كالأنيميا والعلل التنفسيّة، فلم يشكّ أحدٌ في كونها عدوى.
وحيث كانت الخيمياء والفلك أرقى من الطبّ في تلك الحقبة، لم يُكتشَف السبب الحقيقي.
لكن ما إن بلغت العدوى المرحلة الثانية، حتى صار الأمر غريبًا غير مألوف.
امتلأت المستشفيات الملكيّة الضيّقة بالمرضى، ثم حلّت الكارثة.
“لا، لااا!”
“أبي، لا تمُت!”
في المرحلة الثانية يسقط المريض عاجزًا عن القيام، يومًا واحدًا أو شهرًا كاملًا.
تسودّ بشرته شيئًا فشيئًا حتى يذوي أمام أعين ذويه.
وانتشر المرض من مملكة أبهرَكس إلى الدويلات المجاورة، جارِفًا في طريقه الأرواح بعدواه السريعة الفتّاكة ونسب وفياته التي بلغت أربعين بالمئة.
وعلى الرغم من التحصينات، ظلّ السبب مجهولًا، حتى اجتاح الطاعون مملكة أندالت المجاورة، مخلّفًا آلاف الضحايا.
وفي إحدى مقاطعاتها أقيمت جنازة جماعية لدفن الموتى…… وهناك، وقعت الكارثة.
“غووواه!”
“آآااه!”
لقد نهضت الجثث من قبورها. تلك كانت المرحلة الثالثة.
وحده المؤرّخ الملكي الذي حضر الجنازة نجا من بين مئتين.
أُحرقت الجثث لإخماد الرعب، غير أنّ البلاء لم ينتهِ.
إذ ما إن يُظنّ أنّ الشرَّ أُبيد، حتى يعود ثانية، زاحفًا من حدود الممالك والدويلات، ناشرًا الفيروس، حاصدًا الأرواح.
…… ولم تهدأ الكارثة إلا بعد خمسين عامًا.
اختار البشر النجاة ببناء الأسوار، مستخدمين أجساد المصابين جدارًا يصدّ الوباء.
وهكذا تنفّسوا الصعداء، بينما أُطلقت يد الأطباء والخيميائيين ليمارسوا أبشع التجارب البشرية.
أُجريت التشريحات بحرّية على المصابين والمشتبه فيهم، فنمت علوم التشريح وعُرف سرّ الدورة الدموية وحركة العضلات.
وتبيّن من خلال الفحوص أنّ المصاب لم يعد إنسانًا حيًّا.
بدأت المحاولات الطبية لاستئصال الداء.
اكتُشف عبر المِجهر وجود أجسام دقيقة في الدم والأنسجة، سمّاها الأطباء “جراثيم”، وعدّها الخيميائيون “لعنة”.
لكن على الرغم من ذلك، ظلّ السبب الحقيقي غامضًا، وظلّ الناس يعتقدون أنّ قوة خفية غير مرئية تُعيد الموتى ساعين على الأرض.
تنوّعت التسميات: “الموت الأسود”، “الجثث السائرة”.
إلا أنّ مملكة أندالت، بعد أن صارت إمبراطورية، آثرت توحيد التسمية: “المصابون”.
ومنذئذٍ صار العطاس أو الإغماء سببًا في القتل.
عدلت النساء عن ربط خصورهنّ وتجويع أنفسهنّ.
تسلّح الرجال والنساء بالسيوف والأقواس وخرجوا وراء الأسوار.
لكنّ الضحايا كانوا جمًّا غفيرًا، صغارًا وكبارًا.
ولمّا عجزت الدويلات عن المواجهة، ابتلعتها الإمبراطورية.
فغدت نصف القارة مأكولة بالوحوش، ونصفها الآخر متّحدًا تحت راية إمبراطورية أندالت.
مضى قرن، ثم بدأت الأسر التابعة تطلب استقلالها، تدعمها الإمبراطورية نفسها، لكنها بقيت تابعة في الجوهر.
مرّت مئة وخمسون سنة على ذلك، حتى يومنا هذا.
وهنا، في أكاديمية إعداد الضباط لمكافحة المصابين (COTC)، كانت الحكاية تتواصل.
تلك المؤسسة التي تأسست قبل قرن.
“إذن في العام 198 بعد الكارثة، تأسست رسميًا أكاديمية مكافحة المصابين، أو ما يُعرف اختصارًا بـ (كوت).
هل ثمة أسئلة أخرى؟”
ساد الصمت القاعة.
في آخر الصف جلست كارمن، متثاقلة الملامح، تتأمّل المنصّة تارة وزملاءها المتثاقلين تارة أخرى، ثم أطلقت تنهيدة واهنة.
مُملّ لا محالة. كيف لدرس تاريخ كهذا أن يكون مادة إلزامية في الصف الرابع؟ منذ السنة الأولى ونحن نُكرّر هذه الحكايات: الفيروس، الإمبراطورية، تأسيس كوت. لقد غدوت أستطيع كتابة ثلاث أوراق مكتظّة بالإجابات حتى مغمضة العينين. وأنا التي تخطّيت ثلاث سنوات دفعة واحدة، أجد هذا مملاً، فكيف بهؤلاء الذين تحملوه ثمانية فصول متواصلة؟
“كارمن روبرت؟ أراكِ ضجرة، أليس كذلك؟”
تبًّا!
انتفضت منتصبة وهي تبتسم ابتسامة مصطنعة.
“كلا يا أستاذ. أستمع باهتمام بالغ!”
“حسنًا. هلا تفضّلتِ بشرحٍ إضافي عن (كوت)؟”
سوء حظ! لماذا أنا بالذات من بين كلّ هؤلاء النائمين؟
وقفت كارمن بخجل، تجرّ كرسيّها، فيما التفت بعض زملائها نحوها بنظرات مشفقة.
“نعم. أمّا عن (كوت)، فهي متاحة لأي مواطن من الإمبراطورية بين الثامنة عشرة والثلاثين، شرط اجتياز الاختبار.
تضم ستة صفوف دراسية، اثني عشر فصلًا، لكن الانتقال والاختصار ممكنان، فلا فرق كبير بين المراحل سوى تقسيمها إلى دنيا وعليا.”
“صحيح. وأنتِ خير مثال. التحقتِ العام الماضي، فإذا بكِ اليوم في الفصل الأول من الصف الرابع.”
“هاهاها…….”
إذن كان هذا كلّ ما أراد قوله.
ابتسمت كارمن وهي تحكّ رأسها.
أما الأستاذ لورنس، مؤرخ التاريخ، فكان صارمًا، مؤمنًا بالالتزام التامّ بالمناهج، ومعارضًا أن يُقيّم المرء بقدراته القتالية وحدها.
ومع أنّ كارمن وافقته الرأي إلى حدّ، إلا أنّ المؤسسات الأكاديمية متاحة في الإمبراطورية لذوي الغايات العلمية.
“لقد كانت روبرت الأولى على التقييم العام للطلاب الجدد، أستاذ.”
“بل وتفوّقت في اختبار القدرات أيضًا.”
“حتى في المناورات الحربية، نالت أعلى معدّل.”
ثار بعض الزملاء منزعجين من تعليقات الأستاذ، فبدأوا بالاحتجاج.
إذ إنّ (كوت) قائمة على صقل القدرة القتالية والقيادة العسكرية أساسًا، أمّا الفضائل الأخرى فمُهمّشة أمام ضرورة رفد الميدان بسرعة.
لذا لم يكن من المناسب الطعن في قدرات كارمن في صفٍّ يعجّ بالطلبة المتقدّمين.
وما هي إلا لحظة حتى رفع أسوأهم يده.
كان ضخم الجثة يفوق غيره طولًا وعرضًا، فوقف ببطء وقال:
“أهناك سبب أيها الأستاذ لإثارة الأمر ضدّ روبرت؟”
“وأأنتَ يا إسبلونغل، أهناك سبب لاستفزاز أستاذك؟”
أطبق لورنس كتابه، وتصاعد التوتّر بينه وبين الطالب.
“أصلون.”
نادته كارمن، فالتفت إليها.
“اجلس.”
“لكن يا كارمن……”
“قلتُ اجلس. أعتذر عن الإزعاج، أستاذ.”
“كارمن روبرت، وأصلون إسبلونغل، لكلّ منكما خصم خمس درجات. تعلمون أنّ فقدان عشر درجات يعني العقوبة، فاحذروا.”
لوّح لورنس مبتسمًا بسخرية، ثم غادر القاعة.
وعندها فقط أطلق الطلبة حبس أنفاسهم.
اقترب أصلون من كارمن، ذاك القريب الذي يفرط في حمايتها أينما كان.
“أصلون.”
“كان استفزازًا سافرًا. انظري كم هم واضحو الانتماء.”
“أنت……!”
“يا آنسة، هذه ليست قاعة مبتدئين. عليكِ أن تتوخّي الحذر.”
تضايقت كارمن من تعليق أحد الطلبة وهو يناولها كتابًا.
والآن، إذ التفتت، أبصرت القاعة وقد انقسمت إلى جماعتين، إحداهما متحلّقة عند الباب الأمامي، يرمقونها بأيدٍ في جيوبهم.
“هاه……”
تُرى، أهذه الأجواء أخطر مما ظننت؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"