أن أقول إنني عُدتُ من الموت؟ لا، لا يمكنني البوح بهذا. فكّرتُ قليلًا ثم فتحتُ فمي قائلة:
“لأنّه لم يكن يضع الخاتم. وعندما سألته عنه حاول خنقي. كان سلوكه بحدّ ذاته غريبًا جدًّا. بدا وكأنّ جسده يقاوم بشدّة رغبةً منه في رفض ذلك، وما إن استعاد وعيه حتّى هرع لإخراجي من المنزل. في البداية ظننته مهدَّدًا أو مُكرَهًا على شيءٍ ما.”
“ثمّ ذهبتِ بعد ذلك إلى أوين كاسبير، صحيح؟”
“نعم، لأنّ الأستاذ أعطاني عنوانه.”
“وماذا طلبتِ منه؟”
يبدو أنّ دور الاستجواب قد انتقل إليّ الآن.
تماسكي يا نفسي. إنّهم لا يزالون يرونني مجرّد شخصٍ عادي أنقذ ليام مور، ولا يشكّون بعدُ في سرّي الخفيّ.
“طلبتُ منه أن يكون على استعداد.”
ابتسم أوين كاسبير ابتسامةً خفيفة. كان يبدو متعب الملامح، لكنّ النظارات جعلت وجهه يتغيّر كثيرًا. شرحتُ وأنا أحدّق به:
“لأنه استلم زهرة الداليا. وأدركتُ أنّ من يتلقّاها لا يلبث أن يختفي أو يصبح ضحيّة.”
“نرجو منكِ أن توضّحي أكثر، آنسة أوزموند.”
كان صوت الرئيس هذه المرّة يفيض احترامًا. مدّ ليام يده وأمسك بيدي بقوّة، فبادلتُه القبضة بهدوء وقلتُ:
“…فلنعد إلى حادثة اختفاء طالب الدراسات العليا في وقتٍ سابق.”
كانت القصة متشابهة. شرحتُ كلَّ ما يمكن دون أن أُفشي ما لا ينبغي كشفه.
تحدّثتُ عن زهرة الداليا التي وُجدت في غرفة المفقود، وتلك التي كانت في غرفة ليام، وكيف وجدتُ الرابط بينهما، وعن السحر الذي يتتبّع الناس عبرها، وأضفتُ أنّ كلَّ من اختفى من قبل لا بدّ أنّه تلقّى تلك الزهرة.
قاطعني الرئيس بالسؤال:
“وكيف أدركتِ أنّ على زهرة الداليا تعويذة؟ على ما أسمع، لم يكن لدى الآنسة أوزموند أيّ معرفةٍ بالحدود أو السحر….”
“…لقد تلقيتُ مساعدة. ذهبتُ إلى من يمكنه إسداء النصح لي. فالتحقيق في الجرائم يعتمد على السؤال والتتبّع. ذلك الشخص هو من أخبرني بأنّ الداليا ليست عادية.”
“وهلّا أخبرتِنا باسمه إن لم يكن في ذلك حرج؟”
ابتسمتُ ابتسامةً هادئة.
“فلوريتيتاس، فلوريتيتاس الذي يعيش في هاليدن.”
انفجرت الأصوات حولي دهشةً وفزعًا وهمسًا لا يُفهم. صار الناس ينظرون إليّ وكأنّني مجنونة. لا، بل بالأحرى كانوا مذهولين من الاسم ذاته: فلوريتيتاس. أكان مرعبًا إلى هذا الحدّ؟ تبدّلت ابتسامتي إلى شيءٍ من الارتباك، وحرّكتُ أصابعي بخجل على خدي.
“…لقد أفادني كثيرًا في الحقيقة.”
“أُحيّي شجاعتكِ.”
ألهذه الدرجة؟ لقد بدا لي مجرّد شيخٍ غريب الأطوار عصيّ الفهم، وإن كان جسده يبدو شابًّا.
على أيّ حال، يبدو أنّهم اقتنعوا أخيرًا بمصدر معلوماتي. أو ربّما لأنّهم يعرفون وزن اسم فلوريتيتاس، فرأوا أنّه لا يمكن أن يكون قد كذب. بعد أن هدأ الارتباك، أعاد الرئيس الحديث إلى أصل الموضوع، إلى ذلك الكيان الغامض الذي سيطر على عقل هيرشل.
“بناءً على ما سمعناه الآن، وعلى شهادة أوين كاسبير، يمكننا تحديد هويّته بوضوح.”
الملك الأسود.
الكارثة المتقلّبة التي تنزل بالعالم، الباحثة عن اللذّة والمرح…
تمتم ليام مور بالكلمة، وقد خرجت من بين شفتيه كلمةٌ لا يمكن قراءتها أو فهمها. أهي لغة؟ أغنية؟ أم لعلّها بدت كأنّها لغة أجنبيّة غريبة. لكنّها بالتأكيد كلمةٌ لا يمكنني، ولا ينبغي لي، أن أنطقها أبدًا.
نغمةٌ شاذّة تتكرّر، تبدأ بهمسةٍ رخيمة وتنتهي بصوتٍ أجشّ يخدش قاع الجحيم. أدركتُ أنّها اسمٌ لشيءٍ ما—ربّما اسم الملك ذاته.
وفي اللحظة التي سمعتُ فيها الاسم، انتصبت شعيرات جسدي كلّها. عاد إلى ذهني بلا وعي صوتُ الملك.
[لم آتِ لأمنحَ هذا العالمَ سلامًا.]
كانت تلك الكلمات منقوشةً في أعماق روحي. شعرتُ كأنّ الملك حمل سيفه ونقشها على جلدي حرفًا حرفًا.
إنّه يُسمَع… ويُحَسّ. أحسستُ به بقربي دائمًا، كأنّ هيكلًا متعفّنًا يطوّق عنقي ويغنّي لي بأصوات الموت. يخبرني أنّي لن أهرب، وأنّي سأبقى إلى الأبد تحت ناظريه، وأنّ دفتري الذكي لن ينقذني هذه المرّة.
…عندها قال الرئيس، ولحسن الحظ كانت كلماته هذه المرة مفهومة:
“………الفوضى الزاحفة.”
وفي الوقت نفسه، لم تكن مفهومة أبدًا.
***
كانت عقوبة هيرشل خفيفة.
كنت أخشى أن تكون العقوبة قاسية بعد كلّ ما حدث، لكنّ ظهور عبارة <الفوضى الزاحفة> جعل اهتمام الناس ينصرف كلّه إليها. خفَتت أصواتهم كأنّ ذلك الكيان موجودٌ هنا، فصار كلّ واحدٍ يهمس بصوتٍ خفيض، خوفًا من أن تصل كلماته إلى أذنه.
وبفضل ذلك، لن يواجه هيرشل أمرًا خطيرًا سوى أنّه سيتلقّى علاجًا مكثّفًا في غرينيتش لستّة أشهر.
قلتُ له مبتسمةً عندما جاء نحونا بعد انتهاء الجلسة:
“هذا رائع يا أستاذ! لقد كنتُ حقًّا أظنّ أنّك ستتعرّض لمصيبةٍ كبيرة…”
“إنّه بفضلكِ يا آنسة جين. ولأكون صادقًا، كنتُ أنا نفسي قلقًا بعض الشيء.”
إذًا في العادة لا تنتهي الأمور بهذا القدر من اللين؟ فجأةً بدا لي مكانُ غرينيتش مخيفًا.
ثم تمتم ساخرًا: “يتصرّف كعرّابٍ لا يفعل سوى ضرب تلميذه.”
آه، صحيح. هو مَن هاجمه في الأصل. نظرتُ إليهما متردّدة لا أدري إلى أيّ جانبٍ أنحاز. كان الناس يغادرون القاعة واحدًا تلو الآخر، وكلّما مرّ أحدهم رمقنا بنظرةٍ سريعة، فشعرتُ بالحرج من جدالهما الطفوليّ.
قال هيرشل بابتسامةٍ أبوية: “أمّا أنتَ يا مور الصغير، فلستَ ببعيدٍ عنه.”
“أنتَ يا أستاذ، تصرّف بما يليق بسنّك. وإن واصلتَ هذا فلن أزورك عند خروجك! وأنت يا ليام مور، احترم الكبار، وإلا طردتُك من المنزل!”
أطبقا شفتيهما في آنٍ واحد. يبدو أنّ التوبيخ هو السلاح الأكثر فاعليّة. سأحتفظ بهذه الطريقة للمرة القادمة.
***
غادر هيرشل بعد وقتٍ قصير، تاركًا إيّانا وحدنا. قال إنّ عليه الخضوع لفحوصٍ بسيطة، مجرّد كشفٍ عامّ للتأكّد من أنّ <الفوضى الزاحفة> لم تؤثّر في جسده. وبعد أن اطمأننتُ لذلك، التفتُّ إلى ليام مور.
“هاه؟”
“أرِني يدك.”
أمسكتُ بيده الممتدّة، ورفعتُ كمَّ رداءه حتى ظهرت ذراعه.
كانت بشرته هناك بيضاء مشوّهة، كأنّها قد احترقت، أو ضُربت بصاعقة. الموضع الذي غرز فيه اللحم كان غائرًا قليلًا، رغم أنّ اللحم بدأ يلتئم ببطء، إلا أنّ الندبة لن تزول.
مرّرتُ أصابعي بخفّة على الجرح، فناداني بصوتٍ وديع:
“جين.”
“فقط… شعرتُ بالأسف لا أكثر.”
“لأنّ الندبة باقية؟ أتظنّين أنّني لم أعد جميلًا؟”
ثمّ قرّب جبينه من جبيني وابتسم ابتسامةً رقيقة، وعيناه الرماديتان تلمعان بدفءٍ وهو يحدّق فيّ.
“ألن تُحبّيني بعد الآن؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 72"