وهكذا، بعد أن انتهت جلسة الصباح، خرجنا وسرنا لبعض الوقت على ضفاف نهر التايمز. لم أفتح فمي بكلمة، بينما كان ليام يرافقني بأدبٍ صامت، يضع يديه خلف ظهره في وقارٍ هادئ.
ضبابٌ خفيفٌ يتسلل إلى الأجواء، ومياه النهر تتدفق، والناس يمرون ذهابًا وإيابًا.
لأكون صادقة، لم يكن المشهد رومانسيًا على الإطلاق. كان ضباب الصباح يحمل رائحةً نتنة، نفاذة، رائحة تعفنٍ زلقة مقززة تثير الغثيان وتفسد الأحاسيس.
ربما لن تتخيلوا ذلك، لكن كما وصف هنري مايهيو ذات مرة، كان نهر التايمز ينضح برائحة المقابر في كل مكان، بغض النظر عن الموقع. لم تكن الجثث البشرية تطفو على سطحه (وإن كانت تُكتشف أحيانًا)، لكنه كان بمثابة نهر الموت بحق.
ملاحظة : هنري مايهيو كان صحفى من المملكه المتحده البريطانية العظمى وايرلندا ، و عندما قال ((نهر التايمز ينضج برائحة المقابر في كل مكان)) للتعبير عن مدى تلوث نهر التايمز في ذلك الوقت. و خصوصًا الجزء الموجود في الأحياء الفقيرة
هنا، في هذه المنطقة المتطورة نسبيًا، القريبة من بيلغرافيا ووستمنستر حيث يتردد الأعيان، كان الأمر أقل سوءًا. لكن لو رأيتم نهر التايمز في أحياء الفقراء، لشاركتموني الشعور ذاته بلا شك.
كانت الأرصفة والأحياء المهاجرة الممتدة على ضفاف النهر تعاني من هذه الروائح الكريهة بشدة. ومن بين تلك الأماكن، اشتهرت جزيرة جاكوبس بسُمعتها السيئة، حيث تقع عند ملتقى نهر التايمز ونهر نكينغر. تُسمى “جزيرة”، لكنها ليست كذلك بالمعنى الحرفي، بل هي منطقة محاطة بمصارف المياه، تقع شرق رصيف القديس سافيور بالقرب من شارع جورج وشارع لندن. قد يظن المرء، كما يحدث غالبًا مع التسميات الإنجليزية، أنها جزيرة وسط النهر، لكنها لم تكن كذلك.
سخرت صحيفة “مورنينغ كرونيكل” من هذا المكان، واصفةً إياه بـ”عاصمة الكوليرا” (لأن السكان كانوا يشربون المياه الملوثة فتصيبهم المرض)، و”البندقية المصنوعة من المجاري”.
كانت جزيرة جاكوبس عبارة عن كتلة من الجسور المتهالكة والمنازل المزدحمة المتراصة. منذ أن كتب تشارلز ديكنز “أوليفر تويست” واشتهرت، ظلت هذه الأحياء الفقيرة مادة خصبة للمبدعين حتى يومنا هذا.
كانت مياه الصرف الصحي من البيوت تُصب مباشرة في النهر (!)، وجثث الحيوانات المتعفنة تتراكم على الضفاف. كتل من الأسماك النافقة كانت تتجمع أحيانًا، وبعض مناطق النهر المليئة بالقاذورات كانت تبدو كأن الدم يتدفق فيها، ما أثار رعب الناس، لكن السبب كان التلوث المتسرب من المصانع القريبة.
رأى الروائيون كل هذا القبح بمنظار الرومانسية، لكن بالنسبة لمن يعيشون هناك، كانت أعينهم الحادة وأقلامهم الناقدة هي القبح بعينه. تحوّلت كتاباتهم إلى سلعة أعادت إنتاجها، فأصبحت الأحياء الفقيرة وجهة سياحية للنبلاء والسيدات، يتجولون فيها وهم يسدون أنوفهم، ويزاحمون الجسور البالية بفضولهم. أليس هذا رومانسية مقززة؟ يسمونها رومانسية لأنها لن تتحقق لهم أبدًا.
بالطبع، مقارنةً بأربعينيات القرن التاسع عشر حين كُتب “أوليفر تويست”، فقدت الجزيرة الآن (حوالي 1870) الكثير من “مجدها” كـ”أعظم الجزر”. هُدمت مبانٍ كثيرة، وأُزيلت المصارف واستُبدلت بأراضٍ مستوية. قلّت المنازل، وتغيرت الأيام التي كان الناس فيها يشربون المياه الفاسدة من الخنادق.
لا تزال آفات المدينة قائمة، لكن بفضل أشخاص أخلاقيين يسعون لحلها، بدأت الأمور تتحسن.
بينما كنت غارقة في تأملاتي أنظر إلى نهر التايمز يتدفق تحت جسر المشاة، أعادني ليام مور إلى الواقع. الأرض الحجرية المبللة بمطر الفجر كانت زلقة، ولولا أن أمسكني لكنتُ الآن أقبل مياه التايمز القذرة بعمق. كان وجه الرجل الذي احتضن خصري متوجسًا، بل ربما بدا أحمق بعض الشيء.
لم أكن أحب ذلك الوجه كثيرًا — وجهًا قاسيًا، وفي زاوية ما يبدو طفوليًا مستديرًا. كثيرًا ما رأيت في عينيه لندن المغطاة بالضباب.
كان يحدق بي بعينين رماديتين كشخصية في لعبة فيديو تثبت عينيها على هدفها (وهو بالفعل كذلك)، بغض النظر عن المسافة. كلما امتلأت تلك العيون الضبابية بصورتي، كنت أوشك أن أنسى أنه مجرد شخصية غير قابلة للعب، لذا حاولت جاهدة ألا أنظر إلى عيني ليام مور، ونجحت في ذلك نصف نجاح.
لكن الأمور لا تسير دائمًا كما نخطط لها، كالعادة.
كسر ليام مور هذا الصمت المحرج، وكان هو من بادر بالحديث.
“انتبهي.”
سمعتُ صوت الموت يتدفق من خلف عنقي. شعرتُ بالعرق البارد يتصبب.
“شكرًا. كدتُ أغرق في هذا الصباح الجميل.”
حاولت تخفيف الجو الغريب بهذه الكلمات، لكن تعبير ليام مور لم يتحسن. كانت حاجباه الكثيفان متجهمين قليلاً، وتجاعيد تشبه آثار شوكة ترتسم بينهما.
أغلقتُ فمي تلقائيًا، وعدّلتُ وقفتي من ذراعيه التي كانت تعانقني. حتى بعد أن استقامت وضعيتي، ظل ليام يضع يده قرب خصري، ينظر إليّ كما لو كنتُ على وشك السقوط والموت في أية لحظة.
تحركتُ لأهرب من ذلك الوجه الباهت. وعندما اقتربتُ من نهاية الجسر، شعرتُ بفراغ إلى جانبي، فالتفتُ لأرى ليام مور واقفًا كالمسمار، يحدق بي.
“ألن تأتي؟”
سألتُ.
“سآتي.”
أجاب، لكنه ظل ينظر إليّ وهو يتلعثم، كأن لديه الكثير ليقوله. هل كان هذا الانزلاق البسيط كافيًا ليثير كل هذا القلق؟
على أي حال، عدتُ لأصطحبه، وفوق رأسي سمعتُ سؤالاً حزيناً. بدا صوته الآلي المعتاد ممتزجًا بلمحة من العاطفة الخفيفة.
رفعتُ رأسي متفاجئًا، فوجدتُ عينيه المنحنيتين قريبتين مني. لونهما كسحابة رمادية تترقرق كأنها ستمطر. حدّق ليام مور في عينيّ وسأل:
“لماذا لم تعودي تنظرين إلى عينيّ مؤخرًا؟”
عندما سمعتُ هذا لأول مرة، لم أستطع إخفاء القشعريرة التي سرت في ظهري. تدفق الخوف عبر عمودي الفقري. لماذا؟ لماذا ينظر إليّ بهذا التعبير؟ ما القصد من هذا السؤال؟ تلاطمت هذه الأفكار في ذهني.
لا أدري إن كان يعرف ما بداخلي أم لا، لكن عينيه ظلتا مثبتتين على وجهي كالمسامير.
بعد صمتٍ قصير، عاد إلى طباعه المعتادة: الراحة، اللباقة، والثقة المفرطة بنفسه. شعرتُ بشيء غريب وأنا أرى الرجل يتقدم أمامي — شعور بالألفة. لم يكن شخصًا أعرفه، لكني أردتُ أن أمسك كتفيه وأصرخ: “من أنت؟ ماذا تفعل؟” لكني أغلقتُ فمي وتبعته صامتة.
“هل نأكل شيئًا دافئًا؟ طعام لندن متشابه غالبًا، لكن هذا المكان قد يعجبك.”
قال ليام مور.
“…إن أمكن، أريد حساء الطماطم.”
نعم، لنأكل. يجب أن نأكل لنعيش. لم أعد لاعبة، بل أصبحتُ شخصًا عاديًا محاصرًا هنا. لذا يجب أن أتناول طعامي وأنام جيدًا لأواصل حياتي.
ابتسم ليام مور ببريق.
“اختيار حكيم للغاية.”
وكررتُ في داخلي: “حكيم؟ يا للسخرية.”
عندما عدنا بعد الطعام، وجدنا رجلاً يقف أمام مكتبنا، فتبادلنا النظرات للحظة.
كان ذا وجهٍ مستديرٍ لطيف، وقامةٍ قصيرةٍ قليلاً، ما جعله يبدو حسن الطباع. شعره الأشقر المتسخ كان مجعدًا، وحذاؤه وملابسه غير متناسقة الألوان، فلم يبدُ ذا حسٍ أنيق. بدا من النوع الذي لا يستطيع رفض طلب.
كان ينظر إلى ساعته والباب بفارغ الصبر، يطرق الباب بضربات خفيفة، ثم التفت إلينا عندما سمع سعالاً خافتًا. تفاجأتُ بابتسامته العريضة وهو يفتح ذراعيه ويصيح:
“يا إلهي، ليام!”
كأنه يلتقي صديقًا قديمًا.
لكن ليام عبس قليلاً، يحاول تذكر هوية هذا الرجل، مائلًا رأسه كأنه يقول: “من هذا؟”
“أنا، ستراندن! ألم نكن في نفس الفصل في كامبريدج؟ كان الأستاذ هكشر يحبك كثيرًا. هل تعلم أن أحد معارفه أصبح أستاذًا جديدًا في الجامعة؟ اسمه—”
يا له من مسكين. يبدو أنه صديق من أيام الجامعة، لكن ليام لا يتذكره على ما يبدو. أنا نفسي لا أتذكر كل زملائي من الجامعة، لكني على الأقل أتظاهر بالمعرفة كجزء من اللباقة الاجتماعية، أما هو فلم يحاول حتى. ربما يكون من حسن حظي أن يتذكرني هو على الأقل؟
“…كان هناك الكثير من الناس.”
قاطعه ليام بجفاء وهو يفتح الباب. انزلق القفل الذي ظنناه مغلقًا بسلاسة.
“ادخل. سنسمع سبب زيارتك بالأعلى.”
وانتهى بنا الأمر بالذهاب إلى حفل زفاف. كان زائرنا، السيد جيمس ستراندن، قد جاء حاملاً دعوة زواج.
ابتسم بخجل كفتى صغير، وقال إنه سيتزوج من شخص رائع. كان مثالاً حيًا للرجل العاشق، فضحكتُ وهنأته.
بعد أن أثنى قليلاً على عروسه المستقبلية، نظر إلى ساعته وقال إنه لا يزال عليه توزيع المزيد من الدعوات، ثم نهض. وهو يغادر، كرر طلبه بحرارة أن نحضر كضيوف، وإن لم نكن ضمن رفقة العريس.
كان موعد الزفاف بعد ثلاثة أسابيع، في قصر خارج لندن. ساعة وخمس وأربعون دقيقة بالقطار.
“بالمناسبة، ليتذكرك من أيام الجامعة ويحضر لك دعوة، يبدو أنكما كنتما صديقين مقربين.”
قلتُ وأنا أنظر إلى اسم الدعوة. كان ليام يتفحص القوارير والأواني الزجاجية على الطاولة، فأجاب: “ربما.”
في تلك اللحظة، رن إشعار. ظهرت كلمات بيضاء تومض في نافذة سوداء صغيرة:
《هل تريد متابعة الحلقة التالية؟》
— ترجمة إسراء
التعليقات لهذا الفصل " 17"