انسابت قوةُ ليام ببطءٍ لتتحسسَ الحاجزَ السحريّ، تتحركُ بحثًا عن ثغرة. كان عليهِ ألا يندفعَ في هجومِه لئلا يشعرَ مَن بالداخلِ بوجودِه، بل كان عملُه يقتضي قضمَ الحاجزِ شيئًا فشيئًا، وسلبَ زمامِ المبادرةِ بهدوء.
“تنوي تفكيكَه إذًا.”
تمشى أوين كاسباير بضعَ خطواتٍ واضعًا يدَه على ذقنِه؛ جالَ ببصرِه بين شاهدِ قبرٍ مكسورٍ غُرسَ مقلوبًا في الأرض، وصولًا إلى تلك الشجرةِ العتيقةِ اليابسةِ حيثُ يقفان.
“لقد صُنعَ هذا الحاجزُ بدقةٍ تقليديةٍ مبالغٍ فيها. بالنسبةِ لعملٍ يخصُّ طائفةً سرية، يبدو وكأنه نُفذَ بحذافيرِ الكتبِ المدرسية. هذا النوعُ من السحرِ لا يستخدمُه إلا المبتدئون الذين تخرجوا لتوِّهم من غرينتش.”
كان ذلك تحليلًا يليقُ بكاسباير، الرجلِ المحايد.
أومأ ليام برأسِه موافقًا.
“هذا يعني أنَّ من صنعهُ لم تقع يداهُ إلا على تلك الكتبِ السحرية.. الأرجحُ أنه تعلّمَ وحدَه دون معلم.”
ولسوءِ حظِّ صاحبِ هذا الحاجز، فقد كان الواقفانِ أمامَه خبيرينِ في فكِّ السحرِ وإعادةِ تركيبِه. خمسُ دقائقَ كفيلةٌ بجعلِ هذا الستارِ أثرًا بعد عين.
“اجلس واسترح قليلًا. أنا الأبرعُ في مثلِ هذه الأمور، يا مور، وليس أنت.”
“كلامُك صحيح، لكن لا أدري لِمَ أشعرُ بالرغبةِ في لکمِك؟”
ابتسمَ ذلك الحكيمُ ذو الشعرِ الأحمرِ بخبثٍ بينما لمعت عدساتُ نظارتِه. يمتلكُ موهبةً فذةً في إثارةِ حنقِ الآخرين، والعجيبُ أنهُ أولُ مَن يلوذُ بالفرارِ حين تشتدُّ الأزمات.
التفتت بعضُ الأغصانِ الذهبيةِ حول نقطةٍ معينةٍ لتحددَ مكانَ الهجوم. أسندَ ليام ظهرَه إلى الشجرة، وبدأ يتغلغلُ في الأجزاءِ المرئيةِ واحدًا تلو الآخر، حتى بدأ الغشاءُ المحيطُ بالكاتدرائيةِ يرقُّ تدريجيًا للعينِ المجردة.
***
المشهدُ الذي استقبلني حين ألقيتُ بنفسي في الممرِّ الأيسرِ كان كفيلًا بجعلِ أكثرِ الناسِ تماسكًا يشعرُ برغبةٍ حادةٍ في القيء.
زنازينُ بأسلاكٍ حديديةٍ تصطفُّ على طولِ الجدران، وفي الزاويةِ تلالٌ من الملابسِ والمقتنياتِ المكدسة. قواريرُ ممتلئةٌ بسوائلَ مجهولةٍ لا تدركُ ماهيتَها.
‘أيعقلُ أنَّ تلك.. عيونٌ بشرية؟’
لا، لن أحاولَ الفهم.
أدرتُ وجهي، فوقعَ بصري على محاقنَ تلوثت بدماءٍ جافة. يا إلهي، وخزةٌ واحدةٌ من تلك كفيلةٌ بقتلِ المرءِ بتسممِ الدمِ في لحظات.
في نهايةِ الممر، برزَ بابٌ معدنيٌّ ضخمٌ تعلوه عجلةُ قيادةٍ تشبهُ تلك التي في السفن. بدا أنَّ فتحه يتطلبُ تدويرَها، لكنَّ الصدأَ الذي أكلَ منها وشربَ جعلني أشكُّ في قدرتي على تحريكِها قيدَ أنملة.
“يا للهول…”
لقد صرتُ في طريقٍ مسدود.
التفتُّ إلى الممرِّ الذي ابتلعني، فإذ بالجدارِ المتماوجِ قد تحولَ إلى حائطٍ صلبٍ من الطوب. لقد انقطعت طريقُ المطاردين، لكن بالقدرِ ذاته، صرتُ سجينةً هنا.
في تلك اللحظة، جذبَ شيءٌ انتباهي؛ ضياءٌ ينبعثُ من بين الظلامِ لا يمكنُ تخطئُه.
وبعد بحثٍ طويلٍ وسطَ أكوامِ الثياب، وجدتُ عِقدي المفقودَ وخاتمي. كان الخاتمُ يلمعُ بوهجٍ مستمر، ورغمَ حرارتِه الشديدة، إلا أنني استطعتُ ارتداءَه.
“تمَّ الأمر.”
أخذتُ مقتنياتي واتجهتُ نحو الباب. تعمدتُ ألا أنظرَ داخلَ الزنازين؛ فما لمحتُه بطرفِ عيني بدا كالمومياواتِ الجافة، وكنتُ أخشى أن يكونَ بينها مَن لا يزالُ ينبضُ بالحياة.
كانت العجلةُ ثقيلةً للغاية. اضطررتُ لإسنادِ قدميَّ على الجدارِ والدفعِ بكلِّ قوتي لتبدأَ بالدورانِ ببطء. أيُّ وحشٍ يمتلكُ تلك القوةَ لفتحِ هذا البابِ بسهولة؟ لم تكن لديَّ أيُّ رغبةٍ في لقائِه.
بعد صراعٍ مريرٍ مع المعدن، انفتحَ البابُ لتتكشفَ لي معالمُ الغرفة.
تمنيتُ لو أغلقتهُ في اللحظةِ ذاتها. «اذهبي لليسار»؟ يسار؟ هذا نظامُ توجيهٍ مسكونٌ بالأرواح، ما كان يجبُ أن أثقَ بهذا النظامِ اللعينِ الذي يقودني إلى حتفي.
“سأموتُ هنا بلا شك.”
تمتمتُ بيأسٍ وأنا أتأملُ ما أمامي.
على عرشٍ ضخم، جلسَ كيانٌ مشوهٌ يبدو كتمثالٍ لا ملامحَ له. كتلةٌ سوداءُ غامضةٌ ومتشابكةٌ تشبهُ النباتاتِ الطفيلية، لا يمكنُ تمييزُ كنهِها.
هل له عيون؟ لا أدري.
ماذا يمثل؟ لا أدري أيضًا.
لكنَّ إطالةَ النظرِ إليه جعلت وعيي ينزلقُ نحو هاويةٍ من الظلامِ السحيق.
تناهى إلى مسامعي، من خلفِ غشاوةِ ذهني، صوتُ موسيقى نحيلةٍ ودنسة. لو كان هناك مكانٌ محطمٌ ومقفر، لخرج منه هذه الألحان. كان المكان يبدو مقدسًا، لكنها في الوقتِ ذاته يثيرُ الغثيان.
كان كياني يرتجف. لا يجبُ أن أنظرَ إلى هذا الشيءِ طويلًا. ما زلتُ محتفظةً بعقلي لأنني لم أدرك “ماهيتَه” بعد، لكن لو فهمتُ حقيقتَه للحظة، لذابَ دماغي وتلاشى يقينًا!
كان عليَّ إيجادُ مخرج. أشحتُ بنظري بصعوبةٍ عن ذلك التمثالِ الجاذبِ للأرواح. كان هناك شيءٌ مربعُ الشكلِ أمامَه، لكنني تعمدتُ ألا أنظرَ إليه.
لكن الغرفةَ كانت فخًا لا مهربَ منه. حتى لو حاولتُ استخدامَ خصائصِ مذكرتي، فسأعودُ إلى ذلك الكهفِ مجددًا.
وبينما كنتُ أهمُّ بالعودةِ أدراجي، حدثَ أسوأُ ما يمكنُ تخيلُه.
لماذا أنا منحوسةٌ هكذا؟ هل يلعنني العالم؟ لماذا يطاردني سوءُ الحظِّ أينما حللت؟
بدأت العجلةُ المعدنيةُ بالدورانِ وحدَها، وانجذبَ البابُ ليغلق. وقبل أن أطلقَ صرخةً واحدة، انفتحَ البابُ ليظهرَ من خلفِه الشخصُ الذي تمنيتُ ألا ألقاهُ أبدًا.
“أهلًا، جين أوزموند. كنتِ هنا إذًا.”
صديقتي المجنونةُ المتعصبة.
‘يا لوعتي.. لِمَ هي بالذات؟’
أيُّ حظٍّ عاثرٍ هذا؟
‘لماذا الآن؟’
كنتُ على وشكِ البكاء. لكن، ربما عليَّ أن أشكرَها لأنَّ ظهورَها جعلني أنسى ذلك التمثالَ المرعبَ خلفَ ظهري. لا أعرف، أريدُ البكاءَ حقًا.
قبضت كلارا بارنوم على معصمي وعيناها تبرقانِ بجنون:
“هذا رائع. كنتُ أنوي أخذَكِ في جولةٍ هنا إن لم تتراجعي عن عنادِك.”
“جولة؟ في ماذا؟ هل تنوينَ ترتيبَ موعدٍ غراميٍّ بيني وبين ذلك التمثال؟”
لم يستطع لساني الصمت. سخرتُ منها بحدة، فانفجرت كلارا بالضحك، ثم بدأت بجرّي نحو الداخل!
تبخرَ أملُ النجاةِ القصير، وملأ الرعبُ أوصالي.
“أترين؟ هذا هو مَن أعبد.”
“لا أريدُ الرؤية.”
ما إن نطقتُ بذلك، حتى قبضت يدُها بقوةٍ على شعري من الخلفِ وأجبرتني على رفعِ رأسي.
“انظري. انظري إليه جيدًا.”
قلتُ لكِ لا أريد…
كانت مقاومتي واهنة، وجرتني كلارا بقوتِها الغاشمةِ نحو العرش. أُرغمتُ على الجثوِّ تحت ذلك العرشِ الحجريّ. وأمامي مباشرةً، برزَ تابوتٌ حجريٌّ بارتفاعِ قدمين. عرشٌ حجريٌّ وتابوت.. يا لها من تركيبةٍ تجلبُ الجنون. زفرت كلارا بحنق:
“أنتِ مَن حرضتِ ليام مور، أليس كذلك؟ لا أدري ما الذي فعلتِه، لكنَّ مؤامرتكِ معه أفسدت كلَّ خططي. لم يعد يهمني شيءٌ الآن. سيكونُ من الأفضلِ استخدامُكِ كقربان. سيكونُ “هو” أكثرَ رضا بدماءِ قلبِك.”
‘أيُّ معبودٍ هذا الذي يفضلُ القرابينَ الحية؟’ أردتُ أن أصرخَ في وجهِها.
آمني بدينٍ منطقيٍّ على الأقل! آمني بمَن قال “ليكن نور” فخلقَ العالم، أو بمَن أدرك الحقيقةَ ووصلَ للسكينة. كلاهما دياناتٌ لها سمعتُها.
ملاحظة : «مَن قال: ليكن نور فخلق العالم» → إشارة إلى ديانات الخلق الإلهي (كالأديان الإبراهيمية كالاسلام و المسيحية و اليهودية)، حيث يوجد إله خالق واضح.
«مَن أدرك الحقيقة ووصل للسكينة» → إشارة إلى ديانات أو فلسفات تقوم على التنوّر الروحي والتأمل (كالبوذية).
الوضعُ متأزم. أنا محبوسةٌ مع هذه المجنونة، والمخرجُ الوحيدُ خلفي، وأمامي تمثالٌ شيطاني. وبعيدًا عن صديقتي التي تقدسُ التمثال، كان هذا التابوتُ يثيرُ ريبي بشكلٍ لا يطاق. كان في غطائِه ثقب، ولم أكن أرغبُ أبدًا في رؤيةِ ما بداخلِه.
حينها، نطقت بما زلزلَ كياني:
“هذا هو مكانُكِ يا جين. ستدخلينَ هنا.”
أنا؟ هنا؟ في هذا المكان؟
أردتُ الصراخَ بأعلى صوتي. ليس لأنني لا أريدُ مواجهةَ تلك الديدانِ البيضاءِ المجهولةِ التي تزحفُ بالداخلِ فحسب، بل لأنني شعرتُ أنَّ الخروجَ في موعدٍ مع التمثالِ وتقبيلَه أهونُ عليَّ من هذا القرف.
توسلتُ بقلبي، لكنَّ كلارا تجاهلتني تمامًا، وأمسكت برأسي لتدفعَه نحو ذلك الثقب.
‘أأنتِ مجنونة؟!’
تجمعت الدموعُ في عيني من شدةِ الهلع. لا أريدُ رؤيةَ ما بالداخل. خُيلَ لي أنني أسمعُ حفيفَ أرجلِ حشراتٍ لا تُحصى.
بينما كان جسدي يرتجفُ قشعريرة، بدأ التابوتُ الحجريُّ ينفتحُ ببطء.
‘يا إلهي، يا بوذا، يا أمي!’
مستحيلٌ أن أدخلَ ذلك التابوتَ المليءَ بالحشرات. لا أريد. كان يعجُّ بياقاتِ الدودِ السمينة.
وكانت هناك عظامٌ بيضاء…
“آآآه!”
أيها العقد! اعمل! تحرك! أرجوك!
لكن يبدو أنَّ العقدَ لم يشعر أنَّ هذا “تهديدٌ بالقتل”. لا، روحي هي التي تموت! عقلي سيُباد! لكن هذا العقدَ اللعينَ لا يهتمُّ إلا بموتِ الجسدِ على ما يبدو.
لا يمكنُ أن يستمرَّ هذا. لا أريدُ أن أُحبسَ مع الحشرات.
وبينما كنتُ أتشبثُ بحافةِ التابوتِ بكلِّ ما أوتيتُ من قوةٍ لأقاوم، سُمعَ فجأةً صوتُ وقعِ حوافر. صوتُ حوافرِ خيلٍ بلا شك. لكن، كيف وصلَ إلى هنا؟
تسمرت قدماي، وبدا أنَّ كلارا التي كانت تضغطُ عليَّ قد أصابها الذهولُ ذاتُه. لم تفلت يدُها من قفاي، لكنها توقفت عن دفعي.
“وقعُ حوافر؟”
تمتمتُ بذلك، فارتجفت يدُ كلارا. يبدو أنها تسمعُه أيضًا. لوهلة، فكرتُ: «أهذا ليام؟»، لكنني تراجعتُ فورًا؛ فليام مور ليس بالغباءِ الذي يجعلُه ينزلُ إلى هذا السردابِ الضيقِ على ظهرِ جواد.
“أتسمعينَ ذلك أيضًا؟”
ما إن سألتُها، حتى ارتفعَ صهيلُ خيلٍ عالٍ، وبدأ يقتربُ شيئًا فشيئًا.
التعليقات لهذا الفصل " 107"