ربما كانت يداه ترتجفانِ لدرجةٍ لا يمكنُ السيطرةُ عليها. فمع هذا الخفقانِ المدوّي في صدرِه، كان من المستحيلِ أن تكون جين قد فارقت الحياة.
تحسّسَ عُنقَها ومعصمَها مرارًا، مُحاولًا كبحَ رعدةِ يديه، لكنَّ شيئًا لم يتغيّر. أغمضَ ليام عينيهِ بشدة، بينما كان أزيزُ أذنيهِ يزدادُ حدّة.
أما الشخصُ الذي أطلقَ النار، فقد أطلقَ صرخةً مشحونةً بالغضبِ حين رأى ليام مور ما زال حيًّا، وهو الذي كان ينبغي له أن يموت.
“لا.. مستحيل…”
لم يكترث ليام، بل ظلّ يضمُّ جين بين ذراعيه، مُحركًا شفتيهِ بصمت. خذلهُ صوتُه فلم يخرج، ولم يعد يدرِ أينفجرُ غضبًا أم يستسلمُ لليأس.
لقد ماتت تلكَ المرأة. غرقت في صمتٍ أبديّ دون أن تلفظَ حتى أنفاسَها الأخيرة، التي ابتلعها دويُّ الرصاص. رحلت حاملةً معها كلَّ أسرارِه وذكرياتِه المريرة.
كلُّ ما تبقّى لليام مور هو اعتذارُها. “أنا آسفة”. كيف تكونُ هذه الكلماتُ هي كلَّ ما لديها لتقوله؟
“كنتُ أعلم.”
لقد أدركتُ منذ البدايةِ أنكِ لم تعودي كما كنتِ.
ليتني كنتُ صادقًا منذُ البداية. ليتني أخبرتُكِ أنني لا أهتمُّ بهويتكِ الحقيقية، جين كانت أم لا، لا يهمني كينونتكِ. وجودُكِ هنا، بجانبي، كان يكفيني وحدَه.
من كان يجبُ عليه الاعتذارُ هو أنا، وليس جين أوزموند.
وعندما رأت تلك المرأةُ ملامحَ وجهِه الغارقِ في الذهول، انطلقت ضحكاتُها الساخرة، وهي تشيرُ بإصبعِها إلى يأسِه:
“أنتَ من قتلها! لقد ماتت لأنها كانت بجانبِك، يا وليام سكوفيلد مور! ما كان عليكَ إبقاؤها قربَك منذُ البداية. ألا تدركُ جيدًا كم نتوقُ لتمزيقِ عظامِ أولئك اللعناءِ في غرينتش؟”
تمتمَ ليام بنبرةٍ موحشة:
“أغلقي فمَك.”
الدماءُ التي تبللُ يديه، بحرارتِها تلك، كانت لا تزالُ توهمُه بأنَّ جين على قيدِ الحياة.
“في الأصل، كنتُ أنوي ذبحكما أمامَ عينيها، ظنًّا مني أنَّ ذلك سيحطمُها. لكنَّ هذه الطريقةَ ليست سيئةً أيضًا.. أن تأتينا الفرصةُ لسحقِ حامي غرينتش النبيل.”
سواء أوين أو جين، كلاهما كان جثةً هامدةً لا تتحرك. لا، بل كان أوين يلفظُ أنفاسًا واهنةً للغاية. وبالنظرِ إلى وجهِه الملتويِ من الألم، كان من الواضحِ أنَّ خيطَ حياتِه عنيدٌ لا ينقطعُ بسهولة.
“جين.”
ناداها مرةً أخرى، لكنَّ أجفانَ جين أوزموند لم تُبدِ أيَّ بادرةٍ للانفتاح، فجزَّ ليام مور على أسنانِه.
“يجبُ أن آخذَها إلى غرينتش.”
لا يمكنُه تركُ جين هنا. مَن يدري ما قد تفعلهُ تلك المرأةُ التي تدعو جين بالمعجزة؟
يبدو أنَّ تلك الأصواتَ أدركت نيتَه، فبدأت تهمسُ بتقزُّزٍ وتتشبثُ بذراعيهِ لتجذبَه. وفي محاولتِه لضمِّ جين بقوةٍ خوفًا من فقدانِها، ارتطمت ركبتاهُ بالأرضِ في النهاية.
كان ثمةَ تحولٌ يطرأُ على جين بين يديه. لم تظهر عليها علاماتُ الموتِ المعتادة؛ لم يبرد جسدُها ولم يتصلب. بل بدأت ملامحُ وجهِها تخبو، وشعرُها يذوبُ كأنه يتحولُ إلى ضياء.
شعرَ بغربةٍ مريبة، وكأنه رأى هذا المشهدَ من قبل. ليس في هذا المكان، لكنَّ موتَ جين أوزموند كان مألوفًا بشكلٍ مرعب، وكأنها ليست المرةَ الأولى.
رفعَ ليام مور عينيهِ الزائغتين وتمتمَ بصوتٍ خافت:
“لكن.. أين؟”
أنا متأكدٌ أنني رأيتُ هذا من قبل.
رأيتُ جين أوزموند تتلاشى بهذا الشكل.
لكنَّ الذاكرةَ كانت تتدفقُ بقسوةٍ دون أن تمنحهُ إجابةً شافية. بحثَ ليام مور عن الحقيقة، لكنَّ الشخصَ الوحيدَ القادرَ على إخبارِه كان يذوبُ في حضنِه.
دوم!
اهتزَّ العالم. كانت الدنيا تصرخُ لموتِ جين أوزموند.
وفي الوقتِ نفسِه، كان هناك شيءٌ يُغيّرُ محورَ العالمِ قسرًا. القوانينُ تُعادُ كتابتُها، والحقائقُ تُزيَّف.
كان ذلك نبوءةً وواقعًا لا مفرَّ منه. صرخَ شيءٌ ما، وانطبعت تلك الجملةُ في عقولِ كلِّ مَن كان حاضرًا:
[ليسمع كلُّ ذي روح. هذا العهدُ يجبُ أن يستمر.]
وفي تلك اللحظة، شعرَ كأنَّ جسدَه يُجذبُ بقوة…
“وليام مور!”
صرخَ أوين كاسباير الذي استعادَ وعيَه بصعوبة، باذلًا ما تبقى له من قوة. التفّت أغصانٌ ذهبيةٌ حول معصمِه، وبدأت القوةُ تسري في جسدِه تدريجيًا. وبغريزةٍ فطرية، استجمعَ ليام مور كلَّ طاقتِه ومزّقَ روحَه، ليغرسَ الذكرى في ذلك الجرحِ الممزقِ ويُخيطَه بها.
موتُ جين أوزموند وما نقلتهُ إليه.. غرسَهما بعمقٍ لكي لا يجرؤَ أيُّ كائنٍ على محوهِما..
***
ثم أُعيدت كتابةُ العالمِ من جديد.
فقط من أجلِ جين أوزموند.
***
أزيزٌ حادٌّ يثقبُ الأذن، وجسدٌ يترنحُ كأنه فقدَ توازنَه فوق الأرض.
جثا ليام مور على ركبتيهِ وهو يلهث. حاولَ كتمَ رغبتِه في القيء بيده، لكنَّ جسدَه كان قد تمردَ بالفعل.
اندفعت من بين شفتيهِ كتلةٌ داكنةٌ لزجة، تبعتْها دماءٌ سائلةٌ لا تنقطع. كان الألمُ يمزقُ أحشاءَه، كأنَّ أعضاءَه الداخليةَ قد قُلبت رأسًا على عقب. كان الشعورُ بذوبانِ أحشائهِ مؤلمًا لدرجةٍ جعلتهُ يتمنى لو يغيبُ عن الوعيِ بأيِّ وسيلة. انحنى بظهره، باحثًا عن دواءٍ لم يفكر في استخدامِه يومًا.
ذُعرَ أوين حين رأى ليام ينهارُ ممسكًا بصدرِه بمجردِ وصولِهما إلى المرجِ العشبي.
“هل استخدمتَ السحرَ وأنتَ في هذه الحالة؟”
همسَ ليام بصوتٍ متهدج:
“لا بأس.. إنها دماءٌ فاسدة.”
“أيُّ بأسٍ هذا؟ الدماءُ التي تقيأتها الآن تكفي لملءِ إبريقِ شاي! أخبرني أين يؤلمُك، أو كفَّ عن استخدامِ سحرِك بجنون…”
“كاسباير.. أغلق فمَك…”
تمنى ليام لو يسكتُ ذلك اللسانَ أولًا؛ فصوتُه الصاخبُ يجعلُ رأسَه يطِن، وارتدادُ الحاجزِ السحريِّ جعلَ عظامَه ترتجف. كتمَ غثيانَه وهو يلعنُ ثرثرةَ أوين. طعمُ المعدنِ العالقِ في حلقهِ بدأ يتلاشى ببطء.
وبعد أن استفرغَ ما في جوفِه، غمرَه شعورٌ طاغٍ بالألفة. كان يعرفُ ملمسَ الدماءِ وهي تنسالُ بين أصابعه. لا يتحدثُ عن نوبةِ السعالِ التي أصابتْه هذا الصباح، بل عن شعورٍ قريبٍ وبعيدٍ في آنٍ واحد، كأنه حدثَ منذُ لحظات، وكأنه حدثَ منذُ دهر.
“…ما هذا؟”
“ماذا هناك؟”
صرفَ أوين نظرَه عن الحاجزِ الذي يغطي أنقاضَ الكاتدرائيةِ ونظرَ إليه. اكتفى ليام بهزِّ كتفيهِ متهربًا من الإجابة.
لكنَّ المكانَ مألوف.
“هل سبقَ لنا أن جئنا إلى هنا؟”
ساءت تعابيرُ وجهِ أوين أكثر عند سماعِ السؤال. بدا وجهُه كأنه يقول: لقد جُنَّ هذا الرجلُ حتمًا.
“هذه أولُ مرة. إلا إذا كنتَ قد مررتَ من هنا وحدَك أثناءَ تحقيقاتِك.”
“لا.. لقد كنتُ هنا. ذاكرتي دقيقة.”
“…هل تعاطيتَ دواءً مخدرًا أم ماذا؟”
لقد صرتُ مدمنًا في نظرِه الآن.
تنهدَ ليام ونهض. بدأ الدوارُ والألمُ الحارقُ يخمدان. استدعى قوتَه مرةً أخرى، مما جعلَ أوين يرتعبُ مجددًا، لكنَّ ليام مور كان عليه أن يتأكد. كان عليه معرفةُ مصدرِ هذا الشعورِ الغريب.
دارت المانا المنبعثةُ من قلبِه في عروقِه مع الدماء. بعضُ الأشياءِ تلمعُ بوضوح، وبعضُها غارقٌ في قاعِ المستنقع، لا يمكنُ إدراكُه إلا بالنبشِ في الأعماق. أيُّ نوعٍ هي هذه الذكرى؟ ومتى ستكشفُ عن الحقيقة؟
وسرعان ما أدرك ليام خللًا في جسدِه.
كان الأمرُ يشبهُ عنكبوتًا يقتفي أثرَ فريستِه. الاستنتاجُ هو رحلةُ صيد؛ تبحثُ عن خيطٍ مهتزٍّ علقَ به شيءٌ ما. وبغضِّ النظرِ عما يختبئُ في نهايةِ الخيط، أكانت حقيقةً مرعبةً أم نورًا في المتاهة، كان عليه الوصولُ إليه. مرَّ صوتٌ رقيقٌ في ذهنِه:
‘أنا آسفة.’
أعادَ ليام مور لفَّ الخيوطِ متسائلًا:
“عن ماذا؟”
ما الذي نسيتُه؟ ما الذي حاولَ انتزاعَ هذه الذاكرةِ مني؟
كان قلبُه ينبضُ كحيوانٍ وقعَ في فخ، محذرًا إياه: إن تقدمتَ، فلن تعود.
لكنَّ ليام مور لم يكن يومًا ممن يخشون الحقيقة.
أهي بصمةٌ أم وصمة؟ شيءٌ لا يجبُ نسيانُه أبدًا. مصيرُه المنتظرُ في أعماقِ المتاهةِ التحتِ أرضية. بدأت تلك الأشياءُ تخرجُ واحدًا تلو الآخر، معلقةً بذلك الخيط.
بدأت الذكرياتُ المنسيةُ تتدفقُ كالأمواج. حينها فقط، استعادَ ليام مور ما فقده.
ذكرياتٌ مروعةٌ ومحزنة. أشياءُ حاولت جين جاهدةً إخفاءَها. كان صوتُها الهامسُ بالاعترافِ يمزقُ النياط. هذا هو النوعُ من الكلماتِ الذي يخشاهُ ليام؛ أن تُلقي بها ثم تختفي للأبد.
انتهت الذاكرةُ بانتهاءِ الصوتِ الذي كان يترددُ في رأسِه. وأدركَ ليام حينها:
أنَّ هذا هو السببُ الذي جعلَ جين أوزموند تضحي بنفسِها لحمايتِه. وأنه الآن، تنفيذُ طلبِها أهمُّ من إنقاذِها في هذه اللحظة.
أمسكَ ليام بأوين الذي كان يهمُّ بالاندفاعِ نحو الداخل، وقال بنبرةٍ حازمةٍ كمن يضغطُ على جرحِه:
“نحنُ.. لا يجبُ أن ننزلَ إلى الأسفل.”
أهذا عودٌ بالزمن؟
سواء كان عودًا بالزمنِ أم زمنًا جديدًا، لم يعد ذلك مهمًا لليام الآن.
“ماذا تعني بذلك؟”
نظرَ إليه أوين وكأنه ينظرُ إلى مجنونٍ حقًا. لكن لم يكن هناك وقتٌ للشرحِ المفصل.
في تلك الأثناء، كانت عينا ليام تراقبُ بدقةٍ متناهيةٍ الحاجزَ الذي يغطي المكان. كان يحللُ بنيةَ السحر؛ إنه أسلوبٌ قديمٌ للغاية. كان من الواضحِ هويةُ الشخصِ الذي استُمدت منه هذه القوة.
التعليقات لهذا الفصل " 106"