“لقد وفّرتَ لي حتّى بدلةً، والآنَ تدفعُ ثمنَ العشاءِ أيضاً؟ إنّ نفقاتِكَ باهظةٌ جدّاً، يا سيّدي المدير.”
آه… يا إلهي…
“لا بأس أن تناديني باسمي.”
“يا للهول…”
لا أدري أيّهما أكثرُ إثارةً للصدمة؛ فلوريتيّتاس اللطيف، أم أخي الذي يُنادِي شخصاً “سيّدي المدير”.
“سيّد فلوريتيتاس، هل وفّرتَ بدلةً لذلكَ الولد؟ بدلةً لم أستطع أنا توفيرها لهُ بعد؟ أنتَ؟”
لقد كنتُ حذرةً طوالَ الوقتِ خشيةَ أن يكتشفَ ذلكَ الرجلُ اتّصالي به، كي لا يُثيرَ جنونَه… فهل اختَطَفَهُ منّي في غفلةٍ؟ شعرتُ بالدوارِ في مؤخّرةِ رأسي.
“لقد كانت هديّةَ انضمامِه للعمل. لا يصحُّ لمن يعملُ في بيتي أن يرتديَ أيَّ ملابسَ كانت.”
يا لـ لوسيتا و فلوريتيتاس، لماذا لديهما جميعاً عادةُ إهدارِ المالِ كصبِّ الماءِ؟ تنهّدتُ ويدي على جبهتي، أشكو من الصداعِ المُتزايد.
تذكّرتُ أنّ لوسيتا أيضاً لم تكن تبدو كإنسانٍ عاديّ، بؤبؤ عينيها الشبيه بالثعبان… ماذا كانت؟ شيطانة ربّما. بما أنها تحبُّ الصفقات، فقد تكونُ شيطانةً حقّاً.
كنت قلقة على أخي. ليام مور و أوين كاسبير. فلوريتيتاس الذي لا يكفُّ عن الكلام. والجثثُ التي اختفت و التوابيت المليئةُ بالترابِ فقط. والنفقُ الغريب.
لا أدري إن كانَ الطعامُ يدخلُ من أنفي أم فَمي… بصراحة، كنتُ فقط أبتلِعُهُ كما يظهرُ أمامي.
***
انتهتْ جلسةُ العشاءِ تلك.
بمجردِ انتهاءِ الوجبةِ المتتابعةِ الأطباقِ التي استمرّت حتّى بعدَ الساعةِ التاسعة، خرجتُ من فندق لانغهام مُنهكةً. “الحمدُ للهِ” أنّني استطعتُ الخروجَ على قدميّ. كنتُ قلقةً من أن أزحفَ خارجةً.
“شقيق زوجتِكَ المستقبليّ يا سيدي… إنّهُ رجلٌ طيّبٌ حقّاً.”
همسَ أوين كاسبير. ابتسمتُ.
“أليسَ كذلك، أيّها اللورد كاسبير؟”
“كنتِ تُنادِينني أوين دونَ أيّ تحفّظ! و أيضًا هذا صحيح. إنّهُ مُهذّبٌ، وكفؤٌ، ويبدو أنّهُ يتمتّعُ بقوّةٍ بدنيّةٍ لا بأسَ بها.”
“…إنه ضابط شرطة.”
انقطعَ الحوارُ عندَ هذهِ الإجابة. ضغطتُ على قبّعتي ونظرتُ بصمتٍ إلى العربةِ المسرعةِ نحوَنا.
كانَ فلوريتيتاس يتحدّثُ مع جوناثان على بُعدِ بضعِ درجاتٍ، ثمّ رآني وابتسمَ بلطف. جذبني كفٌّ على كتفي إلى الداخل، كأنّهُ يحميني. إنّهُ ليام مور. الرجلُ الأبيضُ يتلألأُ تحتَ ضوءِ القمرِ الفضيّ بوميضٍ مشؤوم. وبشكلٍ مُخيف. وعلى النقيضِ منه، أحاطني رجلٌ أسودُ ونظرَ إلى الأسفل.
بدأ ظلُّ فلوريتيتاس يبدو هائلاً كما في السابق. لكنّهُ لم يفعلْ شيئاً لنا. كلُّ ما في الأمرِ أنّ نظرتَهُ عادتْ إلى جوناثان. هل رأى جوناثان ذلك؟ هل يعلمُ، ومع ذلكَ يبقى معه؟
“أنا قلقةٌ على جوناثان.”
“سيكونُ بخير.”
ربّتَ ليام على كتفي. بفضلِ حرارتهِ الدافئة، تلاشى ما كانَ شعوراً بالبردِ أو بالتوتر.
“فلوريتيتاس ليسَ غبيّاً إلى هذا الحد.”
“وهذهِ هي المشكلة. لا يمكنُ توقّعُ كيفَ سيتصرّفُ ذلكَ الرجل.”
“هذا صحيح.” تمتمَ ليام بذاك، وعبسَ وهو يضحك.
“أليسَ أخوكِ قَلِقاً هكذا أيضاً؟”
“آه، بالتأكيد. هو يعتقدُ أنّ فشلَ زواجي كان بسببِكَ.”
“هاها!”
ضحكَ ليام بصوتٍ عالٍ وصاح:
“صهري!”
شعرتُ بالصداع. أيّها المَجنون. توقّف.
بحثَ أخي في حِضنِهِ، وكأنّهُ يبحثُ عن مسدّس. ثمّ تذمّرَ واكتشفَ أنّهُ سلّمَ مسدسَهُ وعلبةَ الخرطوشِ معَ استقالتِه. “تبّاً لكَ يا ليام مور! إذا ناديتَني بتلكَ الطريقةِ مرّةً أخرى، سأقتُلُكَ—!”
أطلقَ أوين صفارةَ إعجاب.
فكّرتُ: “هل سيموتانِ لو دفعتُهُما من على السلالم؟”
***
عِندما عدتُ إلى المنزل، لم يبقَ الكثيرُ لانتهاءِ عيدِ الميلاد. حرّك ليام يديهِ بتعلّق، وكأنّهُ آسف. كنتُ آسفةً أنا أيضاً.
كانَ المفترضُ أن نكونَ في هيثسفورد. كنتُ أظنُّ أنّهُ سيكونُ بإمكاننا قضاءُ الوقتِ معاً، ولكنّ آخرينَ اقتحموا حياتنا وأفسدوا يومَنا. وفوقَ ذلك، كانَ علينا أن نقبضَ على غول أقامَ مُجمَّعاً كبيراً تحتَ أرضِ لندن.
“إنّهُ أسوأُ عيدِ ميلاد. الأسوأُ في حياتي التي بلغتُ فيها الثلاثين.”
رميتُ مِعطفي في أيّ مكان. بينما كنتُ أهمِسُ بإرهاق، ابتسمَ ليام بخجل. لقد عرفتُ منذُ اللحظةِ التي بدأَ فيها بشُربِ الخمرِ على مَعِدةٍ فارغة. كانَ خدّاهُ مُحمَرّين.
“صحيحٌ أنّهُ لا يوجدُ بحرٌ ولا أضواءٌ فاخرة. لكن ألن يكونَ من قِلّةِ الضميرِ أن أطلبَ منكِ التسامُحَ على هذا القدر؟”
آلمتني رقبتي وأنا أنظرُ إلى طولهِ الذي يتجاوزُ الستّةَ أقدام. لاحظَ ليام مور ذلك وحاوطَ خصري. ارتفعَ بصري. الآنَ، ليام موور لا يبعدُ سوى بضعِ شبرات. لقد رفعني برشاقةٍ بذراعٍ واحدة. ثمّ مدَّ ذراعَهُ الأخرى،
“…لستَ فقط بلا ضمير، بل بلا صبرٍ أيضاً، يا مور الصغير.”
انحنيتُ نحوه. كانتْ رائحةُ الكحولِ والعنبِ الخفيفةِ تفوحُ منه. لا عجبَ في أن يصبحَ رجلاً مُشرَّباً بالكحولِ بعد أن رفضَ الطعامَ وشربَ النبيذَ طوالَ الوقت.
كانَ ليام سكوفيلد مور مُغمضَ العينين، كفتاةٍ تستعدُّ لقبلتِها الأولى. تلاءمَ احمرارُهُ الشديدُ حتى العُنقِ معه بشكلٍ لا يُحتَمل. لم أستطعِ المقاومةَ ونقرتُ على خدّهِ بخفّة.
“التحرّشُ بسكّيرٍ دونَ رضاهُ هو جريمة، ما رأيُكَ في ذلك؟ أيّها المحقّقُ الاستشاريُّ الأفضلُ في سكوتلاند يارد.”
“أنا موافقٌ رغم ذلك…”
يا لهذا الرجل. ضحكتُ بصدمةٍ من إجابتِه المُهذّبة، فأغمضَ الرجلُ عينيهِ أكثر.
بالنسبةِ لي، لم يكن لديَّ ما أقولهُ بعدَ إجابتهِ تلك. انحنيتُ وقابلتُ جبيني بجبينِه بخفّة. وضعتُ يدي على خدّهِ ورأيتُ تفاحةَ آدم ترتفعُ من توتّره.
عندما لم أتحرّك، رفعَ جفنيهِ بهدوء. ظهرتْ رموشهُ الكثيفةُ وعيناهُ. هذهِ هي اللحظةُ التي كنتُ أنتظرها. أردتُ أن أرى عيني ليام مور تتّسِعانِ.
عدنا إلى غرفتينا دونَ أسف، وأخرجتُ دفتري لحفظِ ما توصّلتُ إليهِ من تطوّراتٍ حتّى الآن…
………
“العامُ القادم؟”
تحرّكتْ شفتاي بذهول:
العامُ القادم؟
كان الأمرُ كأنّني أستيقظُ من حُلم. تحطّمَ الوهمُ بالكامل. وكأنّ أحدهم صبَّ ماءً بارداً على شعوري بالغَشَيان.
انتشلتُ بصعوبةٍ الحقيقةَ التي كدتُ أن أنساها، والتي كادتْ أن تغرقَ في مكانٍ ما في رأسي إلى الأبد.
‘هذا ليسَ مكاني.’
اليومُ هو الخامسُ والعشرونَ من ديسمبر.
لقد مرَّ أكثرُ من شهرٍ على مجيئي إلى هنا. ولا تزالُ طريقةُ العودةِ غائبة. المكانُ الذي يجبُ أن أكونَ فيه ليسَ هنا.
لا يمكنني أن أبقى هنا حتّى العامِ الجديد. ولكن لا توجدُ طريقة. علمتُ أنّني أتكَيّفُ بالكاملِ مع هذا المكانِ… ومع ذلك، لم أجدْ طريقةً للتحمُّل.
“أنا لستُ جين…”
لستُ جين، ولا امرأة المحقّقِ ليام مور، ولا أختَ جوناثان.
ليسَ لديَّ أخٌ. أنا وحيدةُ والديّ. كنتُ أدرسُ في الجامعة، هل انتهيتُ من الفصلِ الدراسيّ؟ هل تخرّجتُ؟
قلّبتُ الصفحاتِ بسرعةٍ في دفتري. ما سجّلتُهُ حتّى الآنَ أصبحَ يبهُتُ تدريجيّاً. الأشياءُ التي أحبّها، الأشياءُ التي قد أحبُّها، الأشياءُ التي ربّما أحببتُها. ذكرياتي.
“لا، لا، لا، هذا ليسَ صحيحاً…”
ارتجفَ كتفي بتشنّج. شعرتُ بضيقٍ في التنفس. امتلأتْ عيناي بالدموعِ وبردتْ يداي وقدماي. أمسكتْ يدي القلمَ غريزيّاً وكتبتْ كلماتٍ فوقَ ما هو مكتوب:
أنا كوريّة، ومن القرنِ الحادي والعشرين، وهذه مُجرَّدُ لعبة،
“…أُمّي.”
أُمّي.
بكتْ عيناي. أُمّي، لقد تدمرتْ حياةُ ابنتِكِ. ما هذا؟ هل يجبُ أن أعيشَ كشخصٍ من هذا العصر، محاصرةً في لندنَ القرنِ التاسعَ عشرَ؟ هذا جنون.
وقفتْ امرأةٌ غريبةٌ في المرآة. وجهُها ضبابيُّ الملامحِ من الدموع، وعيناها الخضراوانِ مِلؤهُما الخوف.
التعليقات لهذا الفصل " 86"