كنتُ قد وبَّخته بما فيه الكفاية، ولم أُرِد في تلك اللحظة إلّا أن أستمتع بحقيقةٍ واحدةٍ لا ريبَ فيها: أنَّ ليام ما زال على قيدِ الحياة.
لم يُجِب على كلامي، ربّما كان يُراجعُ نفسه ندمًا. وإنْ حرّكتُ بصري قليلًا فقط، لَما رأيتُ غيرَ ذقنه وشفتَيه المطبقتين بإحكام.
“ليام.”
“همم؟ ناديتِني؟”
جاء الجواب فورًا. كنتُ أفكّر، أثناء إلقاءِ لومي عليه، أنَّه ليس من العدل أن أُطالبه بالصراحة بينما أنا نفسي أُخفي أسرارًا عنه.
“لقد التقيتُ بفلوريتیتاس.”
لهذا، أفصحتُ عن أحد أكبر أسراري. (أكبرها بعد سرِّ أنَّ هذا العالم مجرّد لعبة).
جاء ردّ فعله في الحال. شهقَ بشدّة، وحاول النهوضَ ثم عادَ وانهارَ من ألمٍ في صدره.
سعلَ كما لو أنَّ الموتَ يُطارده، ثم خرج صوته المتشقّق المبحوح أقرب إلى الصراخ.
“مـ… ماذا قلتِ؟!”
“قلتُ إنّي التقيتُ بالعجوز فلوريتیتاس.”
ردَّدَ الكلمةَ مندهشًا، “العجوز…”، ثم أمسكَ رأسه متألّمًا. الصداعُ أيضًا لحقه بعد ألم الصدر. كان عليّ أن أمهله قليلًا قبل أن أبوح له بالأمر.
“وجهه شابّ، لكن أفعالهُ تشي بالعجوز الهرِم. ومع ذلك، استطاع أن يتعرّف إلى الجهاز المثبَّت على الداليا، رغم أنَّه قال إنَّه ليس من تخصّصه.”
“هل هدّدكِ؟ أم حاولَ أن يأخذ منكِ شيئًا، أو يطلبَ دمكِ مثلًا؟”
“آه، لا، طلب فقط أن يأخذ قالبًا من كفّي. سمحتُ له، وفعلاً لم يفعل أكثر من ذلك. بل وأهداني هديةً قبل أن يُرسلني في طريقي.”
هديةٌ أيضًا.
بدت على وجهِ ليام ملامحُ الارتباك الشديد. فمن نظرته كان واضحًا كم هي علاقته بذلك الرجل سيّئة.
ابتسمتُ عندها.
“ذلك الرجل لا يُهدي أحدًا شيئًا بدون ثمن، ولن تكون هديّته قط بريئة! لم يكن ينبغي لكِ أن تلتقي به أصلًا! لقد جلستِ للتوّ وجهًا لوجه مع أكثر من يجب أن تبتعدي عنه!”
“لكنّه أعطاها لي هكذا فقط. آه، هذه هي، الخاتم.”
كان خاتمًا مرصّعًا بجوهرةٍ زرقاء. لكنّها الآن فقدت بريقها. في الكهف كانت تتلألأ كالمرآةِ الراقصة، ثم خَبَت. أمسك ليام بالخاتم، وحدّق فيّ فاغرًا فاه.
“…لا يمكن أن تكون نواياه صافية.”
ظلّ يردّد ذلك، المسكينُ ليام مور، لقد كان وقعُ الصدمة عليه شديدًا.
“هل كان من الآمن أن آخذها؟”
“مم، هي لا تتعدّى كونها أداة إنذارٍ صغيرة. المشكلة في مَن أعطاكَ إيّاها لا في الخاتم نفسه.”
“لا بأس، سأرسل له كعكةً في المرة القادمة فحسب.”
“أرجوكِ… أتوسّل إليكِ ألا تُفاجئيني أكثر من هذا…”
كانت ملامحه وهو متوسّدٌ صدري يفيضُ برجاءٍ حارٍّ حتى كدتُ أوافقه في الحال. لكن لا، ليس بعد. فما زال في جعبتي طلقةٌ أخرى.
“كما أنّي التقيتُ أوين.”
“أو—وين؟!”
صرخةٌ حادّة.
“وأيضًا عرفتُ أنَّ اسمكَ الحقيقي هو (ويليام مور).”
نعم، ويليام سكوفيلد مور.
“من المدهش أنَّك لم تنطق به ولو مرّة، ويليام سكوفيلد مور.”
رغم مرضه، انتفض بغتةً بكلّ ما أوتي من قوّة، ثم ما لبث أن جلسَ على ركبتيه فوق السرير.
لو كنتُ أعلمُ أنَّ بضع كلماتٍ فقط كفيلةٌ بإسقاطه من نعيم الأرض إلى جحيمها، لفعلتُها منذ زمن.
قالَ ويليام بصوتٍ واهن: “…لم أُرِد إخفاءه.”
وأقولها سلفًا: أنا لستُ غاضبة.
“آه، حسنًا. بعد عامين من العيش تحت سقفٍ واحد، أكتشف من فمِ رجلٍ آخر الاسم الحقيقي لشريكي في السكن ورئيسي في العمل.”
“…”
ها، صمته يطول.
“بل نحن لسنا مجرّد شريكين في السكن، أليس كذلك؟ لنعترف، كانت علاقتنا أقرب من ذلك بكثير، أحيانًا على نحوٍ محرج! ثم فجأة يختفي أحدنا، وعندما أبحث عنه يخبرني رجلٌ ما أنَّ اسمه الحقيقي ويليام! ماذا تقول في دفاعك يا سيّد ويليام سكوفيلد مور؟”
“أنا آسف.”
أتى الاعتذار سريعًا. ولوهلةٍ شعرتُ بأنَّ الغضبَ يزول، لكن كلا، لم أكن غاضبة أصلًا. كنتُ قد صفحتُ عنه منذ البداية.
كان ويليام لا يزال يراقبُ ملامحي بحذرٍ بالغ. عيناه اللوزيّتان الكبيرتان انخفضتا بخجل، وأهدابه السوداء أرخت ظلًّا ضعيفًا على خَدّيه.
“أعتذر، حقًّا… لم يكن عمدًا.”
“ها قد تبيّن لي أنَّك تعرف معنى الاعتذار إذًا. كنتُ أظنّك رجلًا بلا ضمير، تعيش مرتاحَ البال وأنتَ تسمعني أناديكَ بلقبٍ لطيف لعامين كاملين دون أن يرفّ لك جفن!”
“جين…”
كان صوته يقطرُ رجاءً. وعيناه الرماديتان ارتجفتا كمن يُوشكُ أن يبكي. لعلَّ في الأمر بعض البلل بالفعل. بصراحة؟ شعرتُ بالارتياح. يستحقّ.
“أوه، يا للعجب.”
انبعثَ صوتٌ مألوف عند الباب.
كان “هيرشل هوبكينز” ممسكًا بمقبضه، واقفًا مشدوهًا. يا إلهي، كيف يبدو المشهد بعينيه الآن؟
تلميذه الذي لم يكد يفيق من الغيبوبة جاثٍ على ركبتيه أمامي كمن اقترف ذنبًا عظيمًا! لا أمل في تفسير هذا الموقف.
“آه، لقد جئتَ في الوقت المناسب يا سيّد هيرشل هوبكينز، تفضّل بالدخول.”
لا أدري ماذا فهم من دعوتي تلك، لكنّه دخل بالفعل. حسنًا، أنظر إلى تلميذك! ركع أمامي لأنَّه أخفى اسمه الحقيقي لعامين!
كنتُ أتهيّأ لفضفضةٍ طويلةٍ كهذه حين سألني هيرشل بتردّد، وقد وضع ركبةً على الأرض:
“هل… أركع أنا أيضًا؟”
يا للخراب. ما أشبه العرّابَ بتلميذه.
***
انتهى بي الأمرُ إلى أن أجلسَ كليهما. ما جدوى الركوع وهما بالكاد يستطيعان الوقوف؟ صحيحٌ أنني لستُ في أحسنِ حالٍ صحيّة، لكنّ حالَهما أسوأ منّي بمراحل.
كان هيرشل هوبكينز، بجسده النحيل الخائر بعد أن فقدَ كلّ ما به من قوّة، يبدو كشيخٍ عليل. وأمّا ليام مور، فحدّث ولا حرج.
ربّما ما يُبقيه يقظًا الآن ليس سوى الأدرينالين.
“حسنًا، أيها الأطفال الصغار!”
قلتُ ذلك معلنةً أمام رجلين في عمر الرجولة.
“هيا بنا نبدأ الاعتراف.”
رفعَ ليام يده كطفلٍ في الصف.
“آنسة، من أين إلى أين يجب أن أبدأ الاعتراف؟”
“كلمة اعتراف ليست من مفردات الأطفال يا ليام مور الصغير. خصم نقطة.”
“حتى في إيتن لم يخصموا مني نقاطًا!”
قالها متذمّرًا. لكن هذه ليست إيتن، وأنا هنا الراشدةُ المتعسّفة التي تفعل ما تشاء.
تمرده الطفيف لا قيمة له. نظر إليّ بطرفٍ مائل، بعينين متهدّلتين في محاولةٍ للتودّد، لكن هيهات.
التعليقات لهذا الفصل " 68"