بينما كنتُ أداعبُ وجهَ ليام الذي صار خشنًا بعض الشيء بعد غيابه القصير، ضحكَ ليام ضحكةً خفيفة. ثم أغمض عينيه، ودفن وجهه في كفِّي للحظاتٍ طويلة. شعرتُ بشعره المبلل يلتف حول أصابعي. لقد تحمَّل المطر كله، يا للغباء! بدا وجهه المتجمِّد من البرد أكثر إرهاقًا من المعتاد.
فجأة، اجتاحني شعورٌ بالديجا فو. لسببٍ ما، تذكَّرتُ تلك اللحظة. في القطار، عندما كان ليام مور على وشك الانهيار.
“هل أعانقك؟”
سألتُهُ بشكلٍ عفوي، ثم تفاجأتُ بكلماتي.
لم يجب ليام، لكنه مدَّ ذراعيه نحوي دون تردُّد، ضاغطًا بإحدى ركبتيه على الأريكة.
“يمكنكَ أن تجلسَ على ركبتيَّ أيضًا.”
رميتُ هذه المزحة لتخفيف الجوّ. ضحك ليام مور بخفة، وانتقلتْ رنَّة ضحكته الهادئة عبر أجسادنا المتلاصقة. ثم همسَ لي بخجل:
“أنا ثقيل.”
أجل، ليام مور ثقيلٌ حقًّا.
شعرتُ بأنفاسه. كنا جالسين على أريكةٍ صغيرة مخصصة لشخصٍ واحد، فكان لا بد أن نتلاصق. لم يجلس على ركبتيَّ، لكنه كاد يستند إليَّ بكامل جسده. كنتُ قد لففتُ ذراعي حول عنقه، لكن، بصراحة، بدلاً من أن أكون أنا من يعانقه، كنتُ أقرب إلى من يُعانَق. فهو رجلٌ طويل القامة يتجاوز الستة أقدام، وأنا أقصر منه بكثير.
أشحتُ بنظري للحظة. كان قلب ليام مور ينبض بسرعةٍ بالغة. شعرتُ ببرودة جسده، وبكتف معطفه المبلل قليلاً بالمطر الخفيف، لكن ذلك لم يكن مزعجًا.
كان ينبعث من حضنه رائحةٌ باردة كالضباب. كأنه جلب معه غيوم المطر من الخارج.
بعد أن ظلَّ ليام مور يدفن جبهته في كتفي، مستمتعًا بدفء اللحظة، رفع رأسه فجأة. كان شعره الأمامي المبلل قد جفَّ برفقٍ قرب المدفأة، فبدا وجهه أكثر راحةً مما كان عليه قبل قليل.
فكرتُ: يجب أن أطعمه شيئًا. ربما يحبُّ الغولاش الذي أعددته مع ماري في الغداء.
“لا يمكن أن يستمر هكذا. لنأكل شيئًا قبل أن يتأخر الوقت أكثر. وإلا ستلتصق معدتك بظهرك!”
“يبدو أنكِ جادةٌ جدًّا بشأن الوجبات.”
تمتم ليام بنظرةٍ متفاجئة. أجبتُه:
“لا أعلم. ربما تسكَّنني روحٌ جائعة؟”
في الحقيقة، إنها روح شعب يعشق الطعام التي تسكُنني، لكن كيف أشرح ذلك؟
‘يا ليام، أنا في الحقيقة كورية!’
لو قلتُ ذلك، لن يردَّ ليام بـ”أوه، حقًّا؟” بالطبع لا! نحن في القرن التاسع عشر! بل سيقول بالتأكيد : كوريا؟ أين هذا المكان؟ لو لم أسمع تعليقاتٍ ساخرة، لكان ذلك حسنًا. أوه، أقصد، إنها جوسون الآن. لكن، حتى جوسون، لا أظنهم يعرفونها.
فجأة، شعرتُ أنني لا أعرف ما الذي أفعله هنا.
للأسف، مظهري الآن غربيٌّ تمامًا، كامرأة إنجليزية عادية، لذا لا يمكنني الادِّعاء بأنني من بلدٍ صغير في شرق آسيا. لقد تصالحتُ تقريبًا مع الفجوة بين عقلي ومظهري، لكن أحيانًا، أشعر بوضوح بجذوري التي تمتد لعشرات السنين.
وربما لن يُحلَّ هذا أبدًا، ما لم أعد إلى موطني.
أشعلتُ النار في الموقد. أشتاق دائمًا إلى حضارة القرن الحادي والعشرين، لكن في مثل هذه اللحظات، أشتاق إلى الموقد الكهربائي أكثر من أي شيء. مع الموقد الكهربائي، كل ما تحتاجه هو بضع نقرات لتسخين القدر. هنا، تنظيم النار ليس بالأمر السهل. إذا أضفتَ قطعة حطب زائدة، يحترق الطعام. عندما أحرقتُ أول بيضة مقلية، بكيتُ قليلاً.
في القرن الحادي والعشرين، هناك المواقد الكهربائية، والهواتف الذكية، والواي فاي، والطعام الجاهز للتوصيل. أتأسَّف لأنني تركتُ تلك الحضارة لأكون هنا.
لكن، هناك شيءٌ واحد على الأقل: الثلاجة. لم أكن أعلم أن الثلاجات كانت موجودة في القرن التاسع عشر. ليست كهربائية، بل تعمل بالثلج، صندوق ثلج بطريقةٍ ما، لكنه على الأقل يشبه الثلاجة ثنائية الأبواب. كانت تحتوي على معظم المكونات التي أحتاجها. أتمنى لو تطورت الكهرباء بسرعة أكبر، لكنني لا أطمح أن تصل إلى عصري.
بدأت الحرارة ترتفع، وسُمع صوت غليان هادئ. فوق هذا الصوت، تداخل صوت ليام مور:
“هل تتذكرين قضية الشخص المفقود قبل أسبوع؟”
“تلك الشقة العامة؟”
بالطبع أتذكر. قيل إنه اختفى من غرفته دون أثر. لم يظهر لأيام، وعندما اقتحموا الغرفة، لم يجدوا أحدًا. سمعنا القصة من المفتش جيفرسون، الذي قال: “آنسة جين، أليس هذا أمرًا غريبًا؟”
لم يخرج أحد بعد دخوله. كان تصميم المكان يجعل الخروج مستحيلاً دون المرور عبر أناس آخرين، لذا لا يمكن لأحد أن يختفي دون أن يُلاحظ. تذكرتُ أن الجميع كرَّروا نفس الكلام عندما التقيناهم.
حققنا أنا وليام في القضية بشكلٍ خاص، لكن دون جدوى، وانتهى الأمر. تحولت إلى خبرٍ عابر في لندن، ونُسيت دون العثور على المفقود. ليس مفاجئًا، فالاختفاء شائع هنا، إلا إذا كنتَ من الأثرياء.
“ألم نغلق تلك القضية؟”
“نعم، اعتقدنا أنها اختفاء غير مفهوم. لكن هناك شيء غريب. قبل أيام من تلك القضية، كان هناك اختفاء مشابه. والآن، مع هذه القضية الجديدة، هناك قاسم مشترك.”
تحدث ليام مور:
“كلهم من أعضاء نادينا الاجتماعي.”
“تبًا.”
كانت عيناه العميقتان تحدِّقان بي. جلس على مسند الأريكة، ينظر إليَّ، منتظرًا ردّي.
عاد ذلك الشعور المشؤوم يرفع رأسه. هذه ليست قضية عادية. إنها ليست مصادفة، بل عملٌ مدبَّر بنيةٍ خبيثة واضحة، هكذا صرخ عقلي.
“هل يستهدفون أعضاء النادي الاجتماعي فقط؟ أم أن هناك نية أخرى؟”
سألتُهُ هكذا.
“حسنًا، في كلتا الحالتين، لا يبدو أن الأمر سينتهي عند هذا الحد.”
وافقتُهُ الرأي. إذا كانت هذه جرائم متسلسلة، فلا يبدو أن ثلاث حالات سترضي الجاني.
ثلاث حالات فقط لا تكفي لإثبات وجود علاقة بين الجرائم المتسلسلة، أعلم ذلك. شخصان مفقودان، وواحد قُتل بوحشية، بأساليب مختلفة. ترك الجثة معروضةً كما لو كانت لوحة فنية يتطلب حقدًا كبيرًا.
لكن، لا يمكننا الانتظار حتى ظهور ضحية أخرى لتأكيد فرضيتنا.
ماذا لو ظهرت ضحية جديدة في هذه الأثناء؟ ماذا لو، وأكره التفكير في هذا، كانت الجرائم تستهدف أعضاء النادي الاجتماعي فقط؟
إذا كان الأمر كذلك، حقًّا…
“قد يكون الأستاذ في خطر.”
رفع ليام مور رأسه ببطء. كانت عيناه الفارغتان تعيدان كلامي. بدا وكأنه يحاول استيعاب ما قلته. تحرَّكت شفتاه المفتوحتان قليلاً.
“وأنتَ أيضًا.”
هذه المرة، لم أستطع قراءة أي تعبير على وجهه.
من خلفي، سمعتُ صوت الغولاش يحترق ويلتصق بالقدر. ومع ذلك، لم يستطع أحدنا تحريك إصبع.
***
في اليوم التالي، وقعت حادثة أخرى. هذه المرة أيضًا، كانت وفاة غامضة.
علمنا بالأمر من الجريدة أولاً. عُثر على جثة طافية في نهر التايمز. بالطبع، هذا ليس بالأمر الجديد. نهر التايمز يشهد ظهور الجثث كل يوم تقريبًا. معظمها أسماك ميتة، لكن الجثث البشرية ليست نادرة. كم عدد من يلقون بأنفسهم من فوق الجسر كل عام؟
عبس ليام وهو ينظر إلى صورةٍ واضحة في الجريدة.
“هذا مبالغ فيه. تصرفٌ يفتقر إلى الاحترام.”
كانت الجريدة التي يتصفحها من الصحف الرخيصة في لندن، تلك التي تعتمد على الإشاعات المثيرة والمبالغ فيها لجذب القراء. الصحف اليومية أو الأسبوعية أفضل بكثير. لا أفهم لماذا يصدِّق الناس هذه الصحف. موضوعها المفضل هو الحوادث الخارقة والغريبة. أتنبأ أن موضوع الغد سيكون عن رجل ذئب ظهر في مكانٍ ما.
“ما هذا؟ يا إلهي، هؤلاء لا يفكرون أبدًا في مواطني لندن الذين يقرؤون الجريدة أثناء الإفطار!”
بعد أن ألقيتُ نظرة سريعة، أبعدتُ الجريدة بنفور. مومياء في الجريدة! شعرتُ فجأة أن طعم الزبدة سيء. خبز التوست الذي كان لذيذًا قبل لحظات فقد نكهته. لم يبالِ ليام بصور الجريدة، وكان مشغولاً بأكل بيضه، كأن هذا لا يعنيه شيئًا.
تنهَّدتُ ومددتُ يدي إلى كوب الشاي لأغسل فمي. كان لون المشروب داخله أسود كالسم. هذا هو! عبير القهوة العطري دغدغ أنفي.
لقد مر قرن منذ أن تحوَّل ماء البحر أمام ميناء أمريكا إلى شاي. منذ ذلك الحين، زاد استهلاك القهوة في لندن بشكلٍ كبير.
ملاحظة : ده تلميح مباشر إلى <حفلة شاي بوسطن> (Boston Tea Party) سنة 1773، لما قام المستوطنون الأمريكيون بإلقاء شحنات الشاي البريطانية في البحر احتجاجًا على الضرائب التي فرضتها بريطانيا. فعبارة “تحوَّل ماء البحر إلى شاي” معناها مجازي: أُلقي الشاي في البحر أثناء الثورة الأمريكية.
كنتُ أظن أن الشاي سيكون أكثر شيوعًا، فإنجلترا بلد الشاي. لكن، بشكلٍ مفاجئ، كان هناك الكثير من شاربي القهوة. سمعتُ أن كمية القهوة المستوردة تجاوزت كمية أوراق الشاي. بفضل ذلك، يمكنك شرب القهوة أينما ذهبت. أصبحتُ زبونة دائمة في مقاهي لندن، وصنعتُ قائمة بأفضل الأماكن.
أحيانًا، يعبس عشاق ثقافة الشاي التقليديون عندما يرون ذوقي. يقولون إن الشاي هو الأناقة الحقيقية. هل ما زال هناك من يفكر هكذا؟ أشعر أن هذا ليس تقليدًا حقيقيًا. في كل مرة، أردُّ: “حسنًا، اشربوا شايكم، سأغرق في قهوتي!” وأشربها بعناد.
بما أنني كنتُ أتردد على المقاهي وأشرب القهوة بكثرة، اشترى ليام حبوب القهوة للمنزل. نظرتُ بارتياح إلى القهوة المعدَّة بقوة. انظروا إليها! هذه هي التقاليد الكورية! —بالطبع، ليست تقاليد “حقيقية”.
الآن، كل صباح في 13 شارع بايلاندز، تفوح رائحة القهوة. أحاول تسويق القهوة للضيوف، لكن قلة فقط يريدون “ماء الفاصوليا المحروقة”. ربما ليام مور بعد ليلة سهر أو بعض الشباب؟
“لكنها بالتأكيد مشبوهة. هناك شعور بأنها مفتعلة.”
أيقظني صوت ليام من أفكاري. بعد أن أنهى كلامه، مدَّ يده إلى كوبٍ وشرب منه مباشرة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات