رفعتُ شعري بتسريحةٍ عفويةٍ مرتخية، ثم فتحتُ الحقيبة. كانت تحوي ثيابًا يوميةً خفيفة، أربعة أطقمٍ تكفي للتناوب بينها. حسنٌ، يبدو أنني لم أحمل الكثير من الأمتعة، وهذا لربما خيرٌ لي.
ورغم أنني أميل إلى البساطة وأحب عدم التكلف، إلا أنني لم أستطع الذهاب بقميصٍ وبلوزةٍ فحسب، ففي هذا العصر، تُعتبر السترة والبلوزة أشبه بالثياب الداخلية. لذا، ارتديتُ صدريةً تتناغم ألوانها مع تنورتي، لأضفي لمسةً من الأناقة الرزينة.
“هل وجهي منتفخ؟ أبدو بخير؟” سألتُ بقليلٍ من التوجس.
“أنتِ تبدين رائعةً مهما فعلتِ!” جاءني الجواب سلسًا، متلألئًا ببريق الكلمات المعسولة.
ضحكتُ ضحكةً خفيفةً ساخرة، وتذكرتُ على الفور ذلك الشاب ليام مور الذي رأيته في ذكريات هيرشل، ذلك الفتى في مقتبل العمر.
حين بدا أنني أنهيتُ استعداداتي، مدَّ ليام كوعه برشاقةٍ خفيفة. كان هو الآخر يرتدي ثيابًا بسيطة، قميصًا أزرقَ مع صدريةٍ كحلية، وكان المزيج يليق به جدًا.
“هل نذهب؟” قال بنبرةٍ هادئة.
“فلنذهب!” أجبتُ بحماسٍ خفيف.
وعندما هممتُ بمغادرة الغرفة، عاد إلى أذني صوتٌ غريبٌ يشبه أمواج البحر، صوتٌ متكررٌ كخرير الماء: “شوو، طاخ!”، “شوو، طاخ!”. شعرتُ وكأن الماء قد امتلأ في أذني، وهو شعورٌ وهميٌ بالطبع. كنتُ واثقةً أنني الوحيدة التي تسمع هذا الصوت، فقد بدا وجه ليام مور هادئًا كعادته، لا يُظهر أي انزعاج.
نظرتُ إلى النافذة فوجدتها مفتوحةً قليلاً.
‘ألم أغلقها قبل النوم؟’
من خارج النافذة، سمعتُ صوتًا يشبه الغناء، أنغامًا خافتةً كأنها نداءٌ من أعماق البحر المظلم.
“جين؟”
ناداني ليام، وقد توقفتُ عن السير، فنظر إليَّ بوجهٍ يعلو الدهشة.
“ما الأمر؟”
“لا شيء، فقط…”
ترددتُ، لا أعرف كيف أصف ما سمعتُ. لا يمكنني القول إنني سمعتُ أنغامًا، فقد يكون خيالي قد خلط بين خرير الأمواج وهبوب الرياح وأوهمني بأغنية. وحتى لو كنتُ حقًا سمعتُ شيئًا، فهو ليس شيئًا ينبغي لليام أن يعرفه.
استدرتُ ببطءٍ نحو النافذة، وفتحتُ فمي متمنيةً أن أبدو طبيعية: “نسيتُ إغلاق النافذة، هذا كل شيء…”
“حسنًا، قد يصبح الجو باردًا، فمن الأفضل إغلاقها ليلاً.”
“نعم.”
أومأتُ برأسي، ونظرتُ إلى خارج النافذة. لم يكن هناك شيء، لا صوتٌ يناديني، ولا أنغامٌ بحرية.
“دق، طق!” أغلقتُ النافذة بقوةٍ وأوصدتُ مزلاجها.
عدتُ إلى ليام بابتسامةٍ مشرقة. خرجنا إلى الخارج، حيث كان الهواء الدافئ يحمل عبق الطعام الشهي.
***
بعد العشاء، تجمعنا جميعًا لاحتساء الشاي. غدًا عشية عيد الميلاد، وكأن لتأكيد ذلك، كانت هناك إكليلاتٌ وجوارب معلقةٌ فوق المدفأة.
تُرى، كيف حال ماري؟ سمعتُ أنها ستقضي عيد الميلاد مع السيدة ماير وجورج. أما أنا وليام، فقد قررنا البقاء هنا حتى نهاية العيد ثم العودة.
لكن… ما هذا المشهد العجيب؟
كانت عائلة مور بأكملها تجتمع للحياكة! السيدة مور، والسيد مور، وحتى ثيودور مور، الابن الثاني، كلهم يحيكون! غاب ليام للحظات ليحضر مشروب الـ”فين شو” الدافئ، ويبدو أن له نصيبًا في هذا التقليد أيضًا.
ملاحظة : مشروب الـ فين شو (Vin Chaud) هو مشروب نبيذٍ ساخن متبّل يُشرب عادةً في فصل الشتاء، خصوصًا في أوروبا (مثل فرنسا وألمانيا والنمسا).
نظرتُ إلى السلة الكبيرة في الوسط، الممتلئة بكرات الصوف، وإبر الحياكة التي تتحرك بنشاط. سألتُ بحذر: “هل… يمكنني معرفة كيف يُحاك الجورب؟”
بدت السيدة مور مندهشةً للحظة، ثم احمرت وجنتاها خجلاً. ناولتني إبرةً وخيطًا، وبدأت تشرح: الحياكة الخارجية، الحياكة الداخلية، تقليل الغرز، كذا وكذا… لكنني، للأسف، لم أفهم شيئًا.
بينما كنتُ أحاول نسج الخيوط بعشوائية، عاد ليام حاملاً صينيةً مملوءة بأكواب الـ”فين شو”. نظر إليَّ بعينين متسعتين وهو يرى انضمامي إلى هذا التجمع الحيّاك، ثم جلس بجواري بعد أن سحبته الأجواء.
“إن لم تحك جوربًا، فلن تحصل على هدية!” قالت السيدة مور بنبرةٍ حنونة.
“ماذا؟”
“الهدية!”
ألقى ليام نظرةً يائسةً كأنه يستنجد بي، لكنه توقف فجأة. كان ينظر إلى كتلة الصوف المشوهة التي صنعتها يداي، مزيجٌ غريبٌ من الخيوط المعقودة بشكلٍ فظيع. بدا وكأنه فقد النطق.
“ماذا؟ لمَ تنظر هكذا؟ أليس خطأي إن لم أكن موهوبةً!” قلتُ في نفسي، ثم تخليتُ عن الحياكة وقررتُ الاكتفاء باحتساء الـ”فين شو”.
***
أيقظني صخبٌ مفاجئ. تسللتُ يدي إلى الطاولة الصغيرة بجوار السرير لأبحث عن ساعة جيبي. كم الساعة؟
“التاسعة…”
ماذا حدث البارحة؟ شربتُ الـ”فين شو”، تحدثتُ مع والدي ليام، سمعتُ قصصًا طريفةً عن طفولته المذهلة، ضحكنا كثيرًا ونحن نتصفح صوره القديمة. لكن يبدو أن كثرة الـ”فين شو” أثّرت بي. رأسي يؤلمني بشدة، وكأن الخمر قد نقع فيه عقلي. تمسكتُ برأسي المتعب وتأوهتُ بصوتٍ أجش: “آه، رأسي…”
اكتشفتُ للتو أن جسدي لا يتحمل الكحول. غريب! في الماضي، كنتُ أشرب كل شيء في الحفلات، وأستيقظ في اليوم التالي بنشاطٍ لأعد الحساء. كبدي كانت قوية، كبدٌ حديثة الولادة! أنا؟ أنا التي لا تهزم في الشراب؟ أن أسقط مغشيًا عليَّ؟ هذا ظلمٌ لا يُطاق!
ملاحظة علمية طبية : الكبد هو المسؤول الرئيسي عن تفكيك الكحول في الجسم، ولكن شرب كميات كبيرة منه يسبب تلفًا تدريجيًا للكبد عن طريق تحويل الكحول إلى مواد سامة. مع كثرة شرب الكحول، تزداد الأضرار، مما يؤدي إلى مراحل مثل الكبد الدهني، والتهاب الكبد الكحولي، وفي النهاية التليف الذي يعيق قدرة الكبد على أداء وظائفه الطبيعية.
تذكرتُ أنني بعد ثلاثة أكوابٍ من الـ”فين شو”، تهاويتُ على الكرسي نائمة. ساعدني ليام للعودة إلى غرفتي، وما إن وضعتُ رأسي على الوسادة حتى غرقتُ في نومٍ عميق. كان ذلك حوالي الحادية عشرة. والآن، ها أنا أستيقظ في هذا الوقت.
كان الخارج صاخبًا. من نافذة غرفتي، لم أستطع رؤية البوابة، لكن الصخب كان يأتي من هناك. ارتديتُ رداءً ولففتُ شالاً حول كتفي، ثم خرجتُ من الغرفة.
من الطابق الثاني، أطللتُ على الردهة أسفل الدرج. هناك، رأيتُ مجموعةً من الناس يجرون شجرةً كبيرةً إلى الداخل.
“شجرة؟”
كانت شجرة تنوبٍ ضخمة. كنتُ أعلم أنهم يعدون لعيد الميلاد، لكنني لم أتخيل أنني سأرى هذا المشهد الزخم. لطالما كنتُ أقضي أعيادًا ميلاديةً عادية، فكان هذا المشهد جديدًا ومثيرًا بالنسبة لي.
توقفتُ عند منتصف الدرج، أراقب هذا المنظر الصاخب، حتى لوّح لي الشاب الذي كان سائق العربة بالأمس: “يا آنسة! صباح الخير! ما رأيكِ في الشجرة؟ رائعة، أليس كذلك؟”
“هل ستزينونها حقًا؟”
“بالطبع! سنضع النجوم، والجوارب، والأشرطة، وكل شيء!”
على هذه الشجرة الضخمة؟ كيف؟
فجأة، شعرتُ بيدٍ على كتفي. استدرتُ لأجد ليام قد وصل، يتثاءب بعمق، مرتديًا بيجامته، يجر قدميه في نعاله بطريقةٍ تذكرني بأولئك الشباب العاطلين في الحي. وبخته: “ليام، ارتدِ رداءً على الأقل!”
“آه، نسيتُ.”
يا له من متهاون! ماذا لو أصيب بالبرد؟ تنهدتُ بعمق، ولففتُ شالي حوله. انحنى قليلاً ليسهل عليَّ الأمر.
“هل ستستخدمون شجرة التنوب كشجرة عيد الميلاد؟” سألتُ وأنا أرتب الشال.
“إنه تقليد عائلتنا.” أجاب مبتسمًا بخجل.
“تقليد؟”
قلتُ متعجبة. أومأ ليام برأسه، ثم تمدد قليلاً واتكأ على الدرابزين.
“تأخرنا، لكن هل ترغبين بتناول الإفطار؟ طباخنا يُعد بيضًا مخفوقًا لا مثيل له، سيعجبكِ بالتأكيد.”
ثم انزلق على الدرابزين إلى الطابق الأول. عجيبٌ كيف أنه رغم عمره، لا يزال يحتفظ بروح الطفولة! ربما حتى عندما يبلغ الأربعين، سيظل يقفز هكذا. تخيلتُ ليام وقد أصبح رزينًا كوالده، لكنه يقفز بحيوية.
“ليام؟”
“نعم؟”
“أريد زيارة الشاطئ.”
نظر إلينا، كلانا لا يزال بملابس النوم، لكنني كنتُ أبدو أكثر تهيؤًا منه. سأل: “الآن؟”
“الآن!”
***
القصر على شكل حرف “L”، وفي وسطه حديقةٌ صغيرة. خلفها، يوجد جناحٌ منفصل، قال ليام إنه يضم أتيليه والدته للرسم.
كان الرسم هوايتها في شبابها، فبنى السيد مور هذا الجناح خصيصًا لها. “والدي يعشقها حد الجنون، ويفعل كل شيء لإسعادها.” هكذا شرح ليام.
كان هناك مسكنٌ للخدم أيضًا، وبعد مسافةٍ قصيرة، ظهرت درجاتٌ تؤدي إلى البحر. تحت أرضٍ قاحلةٍ تنبت فيها شجيرات الهيث بين الصخور، رأيتُ شاطئًا رمليًا أبيض، وفي الأفق، جرفٌ أبيضٌ شاهقٌ تصطدم به الأمواج بلا توقف.
“إنه البحر حقًا!”
ربما كان صوت الأمواج الذي سمعته منذ الأمس هو ما جعلني أظن أنني أحلم. شعورٌ بالحنين الغريب اجتاحني، ربما لأنني تذكرتُ موطني في أقصى الشرق.
“نعم، البحر.”
بينما كنتُ أراقب رذاذ الأمواج الزرقاء الداكنة، فجأة، حملني ليام بين ذراعيه. ارتفعت رؤيتي فجأة. ما هذا؟ أهذه جولةٌ سياحية؟ ثم بدأ يسير نحو البحر بخطواتٍ واثقة. هل ينوي الدخول إلى الماء هكذا؟ خلع نعاله بسرعة، وشعرتُ أن شيئًا ما ليس على ما يرام. البحر في الشتاء جميل، لكن السباحة؟
صرختُ: “ليام! ليام مور! هل جننت؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 78"