3
كانت وِينسفيِر واحدةً من العائلات الأربع الكبرى التي تُعدُّ أعمدةَ الإمبراطورية.
لكنّ شهرتها لم تكن بسبب مكانتها فحسب، بل لأنّه لم يخرجْ أحدٌ من أراضي الدوقيّة قط، ولم يُسمَح لأحدٍ بدخولها، فامتلأت الإمبراطورية بالشائعات عنها.
غير أنّ الأمر لم يتوقّفْ عند الشائعات فحسب!
فمع أنّها لم تُشاركْ في المجتمع الأرستقراطي، ولم تُظهرْ وجهَها في العلن، إلّا أنّها تمتلك قوّةً باهرةً جعلتِ البلاطَ الإمبراطوريَّ والمعابدَ أنفسَهم لا يجرؤون على المساس بها.
كان جميعُ سكان الإمبراطورية يعلمون أنّ وِينسفيِر “توجَد”، لكنْ لم يكن أحدٌ يعرفُ ما يدورُ داخلها.
فلماذا إذًا… اختاروني أنا؟
ربّما قرأ رآون التساؤلَ في ملامحي، إذ ابتسمَ بهدوء.
تلك الابتسامةُ الخفيفةُ كانت تُثيرُ قشعريرتي.
مددتُ ذراعي دون وعيٍ، فأضافَ قائلًا بنبرةٍ رتيبة:
“أوه، قبل أيّامٍ قليلةٍ فقط، طلبَ مساعدُ الدوقِ الرئيسيّ تعيينَ موظّفينَ جدد. قالَ إنّه إنْ لم نلبِّ طلبه، فسيستقيلُ فورًا.”
كلامُه بدا غريبًا.
لكن قبل أن أستفسرَ، تابع قائلًا:
“على كلّ حال، فلنُكمل الحديثَ في وِينسفيِر نفسها، سيكونُ أوضح هناك.”
“آه، حَسَنًا؟”
كان الأمرُ مبهمًا ومُبهِمًا، لكنّني لم أكترث كثيرًا. طالما سأحصلُ على الثلاثمئةِ غولد، فكلّ شيءٍ مقبول.
ثمّ إنّها “وِينسفيِر” نفسها! لم أستطعْ إنكارَ أنّ الفضولَ بدأ يتسلّلُ إليّ.
“لكنّ الذهابَ إلى وِينسفيِر يحتاجُ إلى أربعةِ أيّامٍ على الأقلّ، فكيف…”
“لا تقلقي. لدينا ساحرٌ ماهرٌ بانتظارنا أمامَ البوابة.”
“آه، فهمتُ. ……ماذا؟”
ساحر؟! إنّهم لا يستخدمونَ السحرةَ بسهولةٍ حتّى في القصر الإمبراطوريّ! فهل وِينسفيِر تمتلكُ واحدًا منهم؟
لم يُبدِ رآون اهتمامًا باندهاشي، بل مدّ يده نحوي بابتسامةٍ مطمئنة.
“هل نذهبُ الآن، آنسة ووُكر؟”
لم أكنْ مقتنعةً بعدُ، لكن لم يكن هناك ما يدعوني لرفض يده الممدودة.
“أشكرك على مرافقتك، سيّد رآون.”
“لا داعي للشكر.”
خرجتُ معه إلى الخارج، وقد توقّف المطرُ أخيرًا.
لكنّني لم أملكْ وقتًا لملاحظة المناظرِ من حولي.
فما إنْ خرجنا حتى ظهرَ الساحرُ الذي تحدّث عنه رآون، ثمّ انطلقتُ معهم فورًا نحو وِينسفيِر.
* * *
عندما انقشعَ ضوءُ السحر، تبدّلَ المشهدُ أمامي تمامًا، وبدا لي قصرٌ فخمٌ مهيب.
“آنسة ووُكر، من هنا سيتولّى ذاك الشخصُ شرحَ الأمورِ لكِ.”
“وسيّد رآون ماذا عنكَ؟”
“آه، للأسف، دوري يقتصرُ على إيصالكِ إلى وِينسفيِر فقط.”
“حقًّا؟”
“لكن، إن بدأتِ العملَ هنا، سنلتقي كثيرًا، فلا تقلقي.”
“إذًا، سنلتقي مجدّدًا.”
كنتُ قد حسمتُ أمري مسبقًا، لذا قلتُها بهدوء.
ارتسمت ابتسامةٌ جميلةٌ على وجهِه وقالَ بنغمةٍ لطيفة:
“أتطلّعُ لرؤيتكِ ثانيةً.”
ثمّ رفعَ يدي، ووضعَ قبلةً خفيفةً على ظهرِها.
سحبتُ يدي على الفور، فتركها دونَ تردّد. وبعدَ لحظاتٍ، اختفى مع الساحر الذي جاءَ بنا.
وقفتُ أُحدّقُ في الاتجاه الذي غابا فيه حتى سمعتُ صوتًا متعبًا يناديني:
“آنسة ووُكر؟”
التفتُّ نحوَ الصوتِ لأرى رجلًا طويلًا ذا شعرٍ بنّيٍّ مربوطٍ بإحكام، يضعُ نظّارةً وتبدو الهالاتُ السوداءُ عميقةً تحت عينيه.
“جئتِ لمراجعةِ عقدِ العمل، أليس كذلك؟ أنا بايِل، أعملُ مساعدًا لدوقِ وِينسفيِر.”
ارتجفَ جسدي قليلًا عندما سمعتُ اسمَه.
بايِل… اسمُ ملكِ الشياطين في الأساطير!
لكنّ هذا الرجلَ بدا لطيفًا جدًا، بل مرهقًا أكثر من أن يكونَ “ملكَ شياطين”.
“سُررتُ بلقائك، سيّد بايِل.”
“ناديني فقط بايِل، من فضلكِ.”
“لا، لا يمكنني ذلك. ما إنْ أوقّعَ العقدَ، سأصبحُ موظّفةً تحتَ إشرافك، أليس من الأدبِ أن أناديكَ بسيّد بايِل؟”
توتّرت ملامحه بشدّة، وكأنّ كلمة سيّد وخزَتْه.
أثارَ ذلك فضولي، فأملتُ رأسي مستغربة.
بدأَ يمسحُ ذراعيه بعصبيةٍ ظاهرة، فتنهدتُ قائلةً:
“إنْ لم يُعجبْك لقبُ سيّد بايِل، فسأناديك بايِل نيمَ.”
ازداد وجهُه عبوسًا، لكنّه أجابَ في النهاية:
“……سيّد بايِل. لقبٌ جميلٌ بالفعل.”
“رائع! يسعدني أنّنا متفاهمان.”
هزَّ رأسَه بتعبٍ، ثمّ مشى أمامي بخطًى بطيئةٍ متثاقلة. تبعتُه بهدوءٍ وأنا أرفعُ كتفيّ لا مبالية.
مررنا من البوّابةِ الكبرى، وسرنا نحوَ قاعةِ الاستقبال، ولم نلتقِ بأيّ شخصٍ طوال الطريق.
فقلتُ باستغراب:
“لا أرى أحدًا هنا. أين الجميع؟”
“إنّه وقتُ القيلولة.”
“قيلولة؟!”
اتّسعت عيناي، وظننتُ أنّي أسأتُ السمع. لكنّه كرّر بجدٍّ مطلق:
“نعم، إنّهم جميعًا نائمون. في هذا الوقت من النهار.”
حدّقتُ به مشدوهةً، ثمّ تمتمتُ ساخرًة:
‘مَن الذي ينامُ أثناءَ الدوام؟’
وأيّ ربِّ عملٍ في العالمِ يسمحُ بذلك؟
فردّ بثقةٍ وهو يدفعُ نظّارتَه بإصبعه:
“لا شيء يرفعُ كفاءةَ العملِ أكثرَ من قيلولةٍ جيّدة.”
“آه، هاها… أجل، يبدو أنّ نظامَ الرفاهِ في وِينسفيِر مذهل.”
كتمتُ بقيةَ كلامي كي لا أبدو حمقاء.
تابعتُ السيرَ في الممرّ وأنا أتمعّنُ في الأثاثِ والديكور. وكلّما نظرتُ أكثر، ازددتُ يقينًا بأنّ هذا المكان… غريب.
‘هل يجب أن أهرب قبل أن أُورّط نفسي؟’
لكنّ بايِل التفتَ نحوي مبتسمًا وقالَ فجأة:
“أليس المكانُ رائعًا؟ كلُّ غرفةٍ هنا لها طابعٌ خاصّ، وعندما تُقيمينَ هنا، سنُخصّصُ لكِ غرفةً بتصميمٍ يُناسبك.”
قالها بوجهٍ متعبٍ وصوتٍ مفعمٍ بالحماس، مما جعلني أشعرُ بتناقضٍ غريب.
ثمّ تمتمَ وكأنّه يُحدّثُ نفسه:
“مرّ وقتٌ طويلٌ منذ دخلَ إنسانٌ جديدٌ إلى هنا… كم سنةً يا ترى؟”
‘إنسان؟’
شعرتُ ببرودةٍ تسري في أطرافي.
هل الجميعُ هنا بشرٌ حقًا؟
ازدادتِ الدهشةُ داخلي، لكن قبل أن أقولَ شيئًا، توقّفَ أمامَ بابٍ أحمرَ كبير.
“ها نحن ذا. وصلنا. هذه هي قاعةُ الاستقبال.”
دخلتُ معه، وما إنْ نظرتُ حولي حتى اتّسعت عيناي.
الجدرانُ مطليّةٌ بالأحمرِ القاني، والمشروباتُ الموضوعةُ على الطاولةِ حمراءُ كأنّها دم!
بلعتُ ريقي، ثمّ ابتسمتُ بخفوتٍ مصطنع:
“سيّد بايِل…”
لكنّه قاطعني قائلًا بنبرةٍ عملية:
“آنسة ووُكر، أنتِ محظوظةٌ جدًّا. عادةً يستغرقُ صرفُ مبلغِ العقدِ أسبوعًا كاملًا، لكنّ الدوقَ أمرَ بصرفه فورًا بشيكٍ جاهز.”
“حقًا؟! حسنًا، أجلسُ هنا إذًا؟”
أومأ برأسه فجلستُ بهدوء، وارتشفتُ قليلًا من الشاي الأحمرِ الذي بدا مخيفًا للحظة.
“تفضّلي، هذا هو عقدُ العمل. أعتقدُ أنّه سيُرضيك.”
تناولتُ الأوراقَ منه، وبدأتُ أُقلّبها ببطءٍ.
كانت البنودُ مفصّلةً بدقّة، وتصفُ واجباتي المستقبلية. الخلاصة: أن أعملَ مع بايِل لمساعدةِ الدوقِ مباشرةً، إضافةً إلى الإشرافِ على شؤونِ إدارةِ دوقيّة وِينسفيِر.
لكنّني عقدتُ حاجبَيّ في صمتٍ وأنا أقرأُ الفقرةَ الأخيرة.
‘أليس هذا العملُ عادةً من مهامِّ سيّدةِ القصر؟’
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 3"