2
“هـ-هذا !! هل جننتَ!”
قال بصوتٍ مبحوح:
“إنْ لمْ تسدّدي المبلغ خلال المهلة، فسيتضاعفُ الفائضُ أضعافًا. وحينها، سأبيعكِ بنفسي، وسيكون الفرار من المقرضين أكثرَ راحةً لي.”
أطرقتُ رأسي وأطلقتُ زفيرًا قصيرًا.
إمّا أن أُباع، أو أن أسدِّد ثلاثَمائةِ قطعةِ ذهبٍ خلال ثلاثةِ أيّام.
مهما يكن، لم يكن أمامي سوى خيارٍ واحد. أن أُنهي هذا الرابط البغيض، وأفترقَ عن أبي إلى الأبد.
“سأُحضِرُ المال خلال ثلاثة أيّام.”
رغم نبرةِ الحزمِ التي خرجتْ من فمي، غرقتُ في دوّامةٍ من القلق.
كيفَ يمكنني جمعُ ثلاثِ مئةِ قطعةٍ ذهبيّة في يومٍ وليلة؟
“هاه…”
وقفتُ أمام لائحةٍ لإعلاناتِ العمل، أتنفّسُ تنهيدةً قصيرةً تلوَ الأخرى.
مهما كان الأجرُ مغريًا، فإنّ الراتبَ يُدفع بعدَ شهرٍ من العمل.
فكّرتُ أن أذهبَ إلى المصرفِ لاقتراض المال، لكنّني، وأنا المقيّدةُ باسمِ عائلةِ ووكر، لم أكنْ مؤهَّلةً ليُقرضني أحد.
تصفّحتُ اللوائحَ طويلًا، لكنّني لم أجدْ أيَّ وسيلةٍ تُخرِجني من هذا المأزق.
كان المطرُ ما يزالُ يتساقطُ برفقٍ في الخارج.
حرّكتُ جسدي المتجمّدَ قليلًا، وهززتُ رأسي لأطردَ أفكاري. ثمّ فكّرتُ بجدّيّة:
‘ماذا لوْ هربتُ فحسب؟’
لمْ أُخبرْ أبي، لكنّ معي الآن نحوُ ثلاثِ قطعٍ ذهبيّة.
ليستْ كافيةً للعيشِ المريح، لكنها كافيةٌ لأفرَّ وأبدأَ من جديد.
لكنّ الهربَ يعني أن أعيشَ مطاردةً طولَ عمري، مرعوبةً من أن يُكشف أمري في أيِّ لحظة.
خيالاتُ هذا الواقعِ البائسِ لمْ تُفارقْ ذهني.
“هاه…”
زفرتُ بشدّة، لكنّ شيئًا لمْ يتغيّر. ضربتُ رأسي بالحائطِ عدّةَ مرّاتٍ من الإحباط.
في تلك اللحظة، امتدّت يدٌ لتفصلَ بين جبيني والحائط.
“إنْ واصلتِ هكذا، فستُصابُ هذه الجبهةُ الجميلةُ بكدمةٍ كبيرة.”
رفعتُ بصري لا إراديًّا نحو صاحبِ الصوت.
وبمجرّد أن تلاقتْ أعينُنا، فُتِحَ فمي من تلقاءِ نفسه. نصفُ وجههُ كان مغطّى بردائه، لكنّ ملامحهُ المبهرةَ لمْ تُخفَ تمامًا.
شعرٌ أسودُ داكنٌ نادر، وعينانِ حمراوانِ تلمعانِ كالياقوت.
وجهٌ كفيلٌ بأن يجعلني أنسى كلّ ما كنتُ أفكّرُ به قبل لحظة.
رمشتُ بهدوء، فابتسمَ الرجلُ ابتسامةً خفيفةً وسحبَ من يدي الأوراقَ التي كنتُ أُمسكُها.
“تبحثينَ عن عملٍ على ما يبدو؟”
“آه، نـ-نعم…”
تذكّرتُ فجأةً ما كنتُ أفكّرُ به، ووعيتُ أنّ يدي قد أصبحتْ فارغةً.
“نعم، هذا صحيح.”
أخذتُ الإعلاناتِ من يدهِ بخفّةٍ مع ابتسامةٍ محرجة.
تطلّعَ إليّ بنظرةٍ جانبيّةٍ وسأل:
“هلْ أنتِ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى المال؟”
كانتْ مسألةُ عائلتي محرجةً لأرويها لغريبٍ التقيتُه لتوِّه، فاكتفيتُ بابتسامةٍ خفيفةٍ وإيماءةٍ صغيرةٍ برأسي، ثمّ بدأتُ أبتعد.
لكنّ صوتَهُ الرقيقَ عادَ يخترقُ المطرَ من خلفي:
“أنتِ الآنسةُ ليليانا ووكر، أليس كذلك؟”
تجمّدتُ في مكاني.
‘كيفَ يعرفُ اسمي؟’
هلْ يكونُ أحدَ دائني الأموال؟
هلْ هربَ أبي وتركَ ديونه؟ هلْ جاءَ هذا ليقبضَ عليّ بدلَه؟
تسارعتِ الأفكارُ في رأسي، وابتلعتُ ريقي محاوِلةً أن أبدو هادئة.
“يبدوُ أنّك تعرفُني.”
رفعَ كتفيهِ بخفّةٍ ومدَّ يدهُ نحوي.
“ما رأيك أن نبدأَ بالتعارف؟ نادِني رآون.”
تجاهلتُ يدَه وسألتُ ببرود:
“ما الذي تريدهُ منّي؟”
نظرَ إلى يدهِ للحظةٍ محرجةٍ ثمّ لوّحَ بها قائلًا:
“كنتُ أبحثُ عن شخصٍ بارعٍ في مجالاتٍ عدّة.”
تردّدتُ لحظةً أمامَ جوابه غيرِ المتوقّع، وشعرتُ بشيءٍ من الفضول.
وكأنّه شعرَ بأنّ حذَري قد خفَّ قليلًا، تابعَ حديثه:
“بالتحديد، أبحثُ عن شخصٍ يقيمُ بجانبي يوميًّا، ويُجيدُ مهاراتٍ متعدّدة.”
‘الإقامةُ بجانبه؟ بلا وقتٍ محدَّدٍ للدوام؟ ولا حتّى عطلات؟’
كان عملًا لن يقبلَ به أحدٌ بسهولة.
“ويُفترضُ أيضًا أن يكونَ ملمًّا بالكتابةِ والأعمالِ الورقيّة، وقادرًا على تنظيمِ المواعيدِ وإدارةِ شؤونِ القصر.”
تدفّقتْ شروطُه بلا توقف، حتى تجعّدَ وجهي ضجرًا.
‘هلْ يبحثُ عن موظّفٍ أم عن مخلوقٍ أسطوري؟’
“كنتُ أظنُّ أنّ مثلَ هذا الشخصِ لا وجودَ لهُ في الإمبراطوريّة، لكنّ الجميعَ أخبرَني بأنّك مشهورةٌ في هذا المجال.”
قالها بابتسامةٍ خفيفةٍ كأنّه يقرأُ أفكاري.
“رغمَ أنكِ تنتمينَ إلى عائلةٍ نبيلة، إلا أنّكِ تقومينَ بأعمالٍ لا يقومُ بها سوى العامّة. كتمانُكِ شديد، ولا تفرّينَ أبدًا من مسؤولياتك. الجميعُ قال ذلك عنك.”
لمْ يكن في كلامه سخريةٌ واضحة، لكنّني شعرتُ بانقباضٍ في صدري. لا أحدَ يُحبّ أن يسمعَ شائعاتِه من فمِ غريب.
“ثمّ علمتُ أنّكِ تنجزينَ عملكِ بإتقان، فقلتُ لنفسي إنّني أرغبُ بالعملِ معكِ.”
قالها وهو ينظرُ إليّ بجدّيّة.
“بمعنى آخر، أريدُ أن أعملَ مع الآنسةِ ووكر.”
“أ… أنا؟”
“نعم، أنتِ، الآنسةُ ووكر.”
“ولهذا السببِ جئتَ تبحثُ عني؟”
“يمكنكِ قولُ ذلك.”
ضيّقتُ عينَيَّ متفحّصةً مظهرَهُ من رأسهِ حتى قدميه.
قد يكونُ كلامُه صحيحًا، لكنّ الريبةَ ما تزالُ تملأُ صدري.
لهُ لكنةٌ جنوبيّةٌ واضحة، بينما نحنُ في الشمال، وملابسُهُ فاخرةٌ للغاية.
‘شخصٌ مثلهُ لا يُمكن الوثوقُ به بسهولة.’
قلتُ لأختبره:
“يُمكنكَ أن تجدَ شخصًا مثلي بسهولةٍ في الجنوب.”
اتّسعتْ عيناه دهشةً، ثمّ قال مبتسمًا:
“يبدو أنَّ لديكِ عينًا حادّةً فعلًا.”
“نعم، نبرتكَ جنوبيّة. كنتُ أعملُ سابقًا في تلك المناطق، لذا أُميّزُ اللهجة.”
“أرى… يبدو أنّ ما سمعتُه عن كفاءتكِ كان صحيحًا. لمْ يستغرقِ الأمرَ سوى لحظةٍ لتلاحظي ذلك.”
تجاهلتُ مديحهُ وقلتُ بهدوء:
“شكرًا على الإطراء، لكنّني في عجلةٍ من أمري. سأرحلُ الآن.”
‘لا فائدةَ من التورّطِ مع شخصٍ غريبٍ يعرفُ كلَّ شيءٍ عنّي، خصوصًا في هذا الوقت.’
لكنّهُ فجأةً رفعَ ثلاثَ أصابعٍ أمامي قائلًا:
“ثلاثُ سنواتِ عمل، ومقدَّمُ عقدٍ قدرُه ثلاثُ مئةِ قطعةٍ ذهبيّة.”
تجمّدتُ. لمْ أُبدِ اهتمامًا في البداية، لكنّ أذني لمْ تستطعْ تجاهلَ هذا العرض.
“الراتبُ الشهري أربعونَ قطعةً ذهبيّة، ومكافآتُ الأداء منفصلة، ومكافأةُ نهايةِ الخدمة مضمونة.”
كان هذا المبلغُ يُعادلُ خمسةَ أضعافِ ما كنتُ أتقاضاهُ في عملي السابق.
قدْ يكونُ المبلغُ زهيدًا بالنسبةِ إلى بناتِ النبلاءِ الأخريات، لكنّهُ بالنسبةِ لي كان كنزًا.
شعرَ رآون بأنّ العرضَ أثّر فيّ، فأكملَ بنبرةٍ هادئة:
“هذا هوَ الأساس، ويمكننا مناقشةُ باقي الشروطِ لاحقًا. ما رأيك؟”
‘ما رأيي؟ ما الذي يمكنني قولُه؟’
الأمرُ مريبٌ ومُقلق، لكن…
بهذا المبلغ، أستطيعُ أخيرًا أن أتحرّرَ من اسمِ ووكر.
‘اللعنة… لستُ من محبّي المقامرات، لكن…’
قبضتُ قبضتي بشدّة.
إنْ لمْ أقبلْ، فسأقضي حياتي أسدّدُ ديونَ أبي أو أُباعُ في النهاية.
أغمضتُ عينَيَّ وأخذتُ نفسًا عميقًا، ثمّ فتحتُهما وقد حسمتُ أمري.
“حسنًا. فلنبدأْ بالاطّلاعِ على عقدِ العمل.”
اتّسعتْ عيناهُ دهشةً، وقال مبتسمًا:
“همم، لمْ أتوقّع أنْ تقبلي بهذه السرعة. يبدو أنَّ الآنسةَ ووكر امرأةٌ حاسمة.”
عندها لاحظتُ أنَّ يديه خاليتان تمامًا.
“آه…”
“إنْ لمْ يكن لديكِ مانع، فلننتقلْ الآن إلى مكانِ العمل للاطّلاعِ على العقد.”
أومأتُ برأسي موافقة. لكنّني تذكّرتُ فجأةً أنّني لمْ أسألهُ بعد عن مكانِ العمل.
“آه، بالمناسبة، أينَ قلتَ أنّ مقرَّ العمل؟”
نظرتُ إليه بترقّبٍ وأنا أسمعُ نبرتهِ الجنوبيّة الواضحة.
“في دوقيّة وينسفير.”
“نعم، في وينسفير… مَهْلًا، ماذا؟!”
توسّعتْ عينايَ دهشةً. وكانَ لدهشتي ما يبرّرها.
									
التعليقات لهذا الفصل " 2"