✿ 𝓕𝓵𝓸𝓻𝓪 .:
الفصل السابع
دخلت أليكسيا إلى المساحة المغطاة بحاجزٍ زخرفي، وبدأت تتفحص بعناية تفاصيل ما أنجزته الليلة الماضية. كل حركاتها كانت محسوبة بعناية حتى لا تلامس الأرجوحة المعلقة من السقف، والتي يجلس فوقها تمثال عرض يرتدي فستاناً صيفياً وقبعة واسعة للرحلات الخارجية.
خلفية المشهد كانت لوحة غنية مغطاة بمئات الأزهار الصناعية من الأبيض والوردي، تشيع في العرض دفئاً ربيعياً محبباً. إلى جانب الأرجوحة، تراكمت صناديق السفر بطبقات متدرجة، مستحضرة في البال موسم العطلات المرتقب، والمدن الساحلية التي تنتظر زوارها القادمين.
وضعت أليكسيا صندوق الإكسسوارات خلف الصناديق، وأخرجت منه قطعة قماش ناعمة. لم تترك حتى ذرة غبار واحدة دون أن تمسحها. أعادت ترتيب إحدى صناديق السفر، رغم أنها كانت موضوعة بشكل جيد مسبقاً، ثم ألصقت من جديد قاعدة زهرة صناعية كانت مائلة قليلاً، مستخدمة مادة لاصقة لتثبيتها بثبات.
قُرعت الأجراس عدة مرات، معلنة لحظة رفع الستائر.
أخذت أليكسيا نفساً عميقاً، وسحبت الحبل. في لحظة واحدة، أشرقت الأضواء وسكب ضوء الصباح الباكر على واجهة العرض الزجاجية. الألماسات الصغيرة المثبتة بين الزهور التقطت الضوء وانعكست ببريق خافت وجميل.
على وجه أليكسيا ارتسمت ابتسامة رضا.
كم من النساء في العاصمة يمكنهن مقاومة هذا الفستان الخفيف، الذي يرفرف كريش الطيور؟
إنه عرض لا يقاوم.
ستكون هذه الحملة نجاحاً مدوّياً، لا شك في ذلك.
وكان بريق عينيها يشي بفرحٍ حقيقي، تألق صامت قبل بدء الضجة.
***
ساعات الفجر في نوادي السادة لا تخلو أحياناً من الفوضى، وفوضى الليلة كانت ذات طابع خاص.
خرج رايموند يتمشى بخطى بطيئة في الشارع، بينما لا تزال صرخات الرجال السكارى ترنّ في أذنيه كطنين مزعج.
عندما تملص من رجالٍ يتشبثون بأكمامه مستجدين جولة أخيرة من الورق، وطرحهم أرضاً بلا اكتراث، وجد السائق بانتظاره.
لكن رايموند قرر ألا يستقل السيارة، وأخبره أنه بحاجة لبعض الهواء كي يستعيد صفاء ذهنه. وهكذا، قادته قدماه إلى هنا.
إيفرهارت—متجر الترف المتجسد.
رفع رأسه يتأمل البناء الضخم، شامخاً عند ملتقى الطرق كأنه حارسٌ قديم.
اسمٌ مألوف، ثقيل، لاحت أطرافه في ذهنه… لكنه لم يمنعه من مواصلة طريقه.
عبر الشارع، وبدأ يمشي بمحاذاة الجدار الذي يُطوّق إيفرهارت، حينها حدث ما يشبه المعجزة الصغيرة.
الستائر الثقيلة التي كانت تحجب النوافذ بدأت تُسحب واحدة تلو الأخرى، تماماً كما ترفع رايات المعركة على وقع خطى الملك. كان مشهداً ساحراً، شبه شعائري.
توقف رايموند.
ما أوقفه لم يكن فخامة العرض، بل شيء آخر—ظهر امرأة، بدا له مألوفاً على نحوٍ مزعج.
لم يكن يفصله عن مغادرة منطقة المتجر إلا بضع خطوات، لكن قدماه تسمرتا.
داخل الواجهة الزجاجية، رأى تمثال العرض فوق الأرجوحة، وعلى الأرض أمامه امرأة ترتدي مئزر العمل، منحنية لتعدّل قبعة التمثال. بعد ذلك راحت تتحقق من ثنيات الفستان.
كانت يداها ناصعتين، أنيقتين، تتحركان بخفة.
راقب حركتهما وهو يشعر أن نظره طال أكثر مما ينبغي.
كان من المفترض أن يشيح ببصره قبل أن تلاحظ، قبل أن تعتبره تطفلاً.
لكن قبل أن يتخذ تلك الخطوة، التفتت هي.
لم تكن قد لاحظت وجوده، وانحنت بهدوء تلتقط شيئاً عن الأرض.
ملامحها الناعمة بدت مألوفة على نحوٍ مزعج.
أمال رايموند رأسه قليلاً، محاولاً تأكيد ما تراه عيناه عبر الزجاج.
وفي لحظة، اتسعت عيناه الخضراء بدهشة حقيقية.
***
أليكسيا وينتربورن.
ذلك الاسم القديم الذي نُطق من بين شفتيه كان كالسهم المفاجئ في قلب صباحها المشرق. رايموند تلفّظ به ببطء، متعمداً، وكأنه يستدعي أشباحاً من ماضٍ حاولت هي دفنه مراراً.
لم تكن قد لاحظت وجوده، غارقة في مهمتها، بعيدة عن العالم كما اعتادت أن تكون حين تركز. كان يمكنه أن يطرق الزجاج. أو ينادي باسمها. لكنه اختار أن يتقدّم خطوة واحدة إلى جانبها، حاجبا عنها ضوء الانارة ، تاركاً ظلّه يقع على رأسها.
وما إن لمحت الظل يغطي وجهها، حتى عبست ورفعت رأسها بانزعاج، لتلتقي عيناها الزرقاوان بعينيه الخضراوين الثاقبتين.
عبر عينيها، مرت مشاعر عديدة كوميض البرق: ذهول، نفي للواقع، ثم… صدمة.
رايموند وجد في هذا اللقاء الفجري شيئاً غريباً من المتعة، وكأن لقاءها بهذه الهيئة، في متجر إيفرهارت، أمام نافذة العرض، لم يكن صدفة بل مشهداً معدّاً سلفاً ليذكّره بكل ما لم يُحل بينهما.
انتفضت أليكسيا واقفة على الفور، وبخطوتين متردّدتين إلى الخلف، اصطدمت بصناديق السفر المكدسة كمجسم لكعكة زفاف ضخمة. وضعت يدها على معصمها كما لو كانت قد آلمتها الضربة، بينما ارتسمت على وجه رايموند نظرة لا تخلو من السخط ربما على لا مبالاتها، أو على حذرها، أو عليها نفسها.
وبينما كانت ترتّب الصناديق بعجلة، رآها تلمحه لا يزال واقفاً هناك، ينتظرها بصبر يشوبه فضول. غادرت مسرعة من نافذة العرض، متجهة إلى الباب الخلفي، حيث تنفست هواءً مختلفاً، أهدأ… لكنه يحمل في طياته ارتباكاً داخلياً لا تخطئه العين.
***
خلعت المئزر وخرجت من الباب الخلفي بخطى سريعة، متجهة نحو الرجل الذي انتظرها دون دعوة. نسيم الصباح البارد تسلل من تحت قماش بلوزتها الخفيف، إذ لم تأخذ الوقت لارتداء سترتها التي خلعتها في وقت سابق.
كان لا يزال واقفاً أمام الواجهة الزجاجية. وعندما سمع وقع خطواتها، استدار. لم تكن بعد ابنة دوقة، بل الآن امرأة من العامة، وكان عليها أن تتذكر بروتوكولات الأدب جيداً. فانحنت برأسها له تحيةً، بإيماءة دقيقة ووقورة. راقب رايموند حركتها بصمت، قبل أن يقول بصوت خافت يحمل نغمة خبيثة:
“أليكسيا بيلسماير.”
ذلك الاسم… كم تمنت أن يُمحى. كان حملاً ثقيلاً على كاهلها. والآن، أن ينطقه هو، بهذه النبرة تحديدًا؟ لم يكن ذلك إلا نوعاً من اللؤم المقصود.
نظرت إليه وقد اتسعت عيناها بالدهشة والارتباك.
“آه، خطأ،” قال متراجعاً. “هل يجب أن أناديكِ آنسة وينتربورن كما فعلت عندما التقينا في المتجر؟”
“سأكون ممتنة لو فعلتم،” أجابته، محافظة على رباطة جأشها. “الجميع هنا يناديني بذلك.”
“الجميع؟”
“باستثناء عائلتي. فهم ينادونني فقط أليكسيا.”
“هل تقصدين هاريسون وينتربورن؟”
“…وأخي أيضاً.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، وكأنه يقول: هل تظنين حقًا أن من تحويل لقبك كل مرة بحسب تصرفات والدتك يمكنه أن يجعلك منتمية لأسرة؟ بدا أن في نظره، الروابط التي تربطها بتلك العائلة ليست إلا قشرة مصطنعة.
ربما كان ذلك مجرد شعور بالنقص تحمله أليكسيا في أعماقها. لكنها لم تظن أنه كان سيُظهر هذه القسوة لو كانت من تقف أمامه امرأة أخرى من الطبقة المخملية، حتى لو كان لها ماضياً اكثر تعقيداً.
أرادت أن تنهي هذا اللقاء بأسرع ما يمكن.
“هل كنت في زيارة خاصة للمتجر؟ نحن في غاية الانشغال مع بداية الموسم الجديد.”
“هل أنتِ منشغلة لدرجة أنكِ تضطرين لتعديل ملابس الدمى بنفسك؟”
“نعم.”
“يبدو وكأن هذا هو مكان عملك الرسمي.”
“لقد علّمني أبي وأمي هذه المهنة بنفسيهما. وأنا أتعلمها بفخر.”
بينما كانت تمسح ذراعيها محاولة طرد البرودة، راقب رايموند خطوط جسدها الرشيق. كانت في الماضي مجرد فتاة طويلة، هشة كغصن صغير في أوائل الربيع. أما الآن، فقد أصبحت أشبه بوردة على وشك التفتح—ناعمة، عطرة، ولكن ما زالت تخبئ أشواكها خلف مظهرها الرقيق.
ربما الشيء الوحيد الذي لم يتغير، هو تلك الحذر الدائم في عينيها، وتلك الوضعية المتأهبة، وكأنها لا تسمح لنفسها بالراحة حتى للحظة.
“سيدي الدوق.”
نطقت أليكسيا أخيرًا، بعد أن أثقل عليها الصمت حد الاختناق، وكأن كلماتها جاءت لتدفع اللحظة إلى الحركة.
“إن لم يكن في كلامي تجاوز، فهل يمكنني الانصراف الآن؟ لا تزال هناك مهام لم أُكملها.”
أجابها رايموند ببرود، كأنما لا يبالي بطلبها:
“بلى.”
ترددت، وكأنها لم تصدق سهولة موافقته، ثم سألته مجددًا بصوت خافت:
“حقًا؟ يمكنني الذهاب؟”
“اذهبي.”
انحنت له بانضباط، ثم استدارت لتغادر بنفس المسار الذي جاءت منه. تنورتها اهتزت في الريح مثل موجة هادئة، وبينما كانت تبتعد، نظر إليها رايموند بتمعن، وكأن في مشهد ظهرها الراحل شيئًا لا يدرك كنهه.
وحين كادت تغيب عن ناظره، نادها بصوت منخفض حمل نغمة غير متوقعة:
“مباركٌ لكِ.”
توقفت أليكسيا في الحال، وكأن الأرض سُحبت من تحت قدميها.
“يبدو أنكِ وصلتِ أخيرًا إلى ما كنتِ تطمحين إليه… ويبدو أنكِ تليقين به تمامًا.”
تشنجت كتفاها الهزيلتان، وشدت قبضتيها كمن يقاوم ردة فعل جارفة. وعندما التفتت ببطء، كانت عيناها الزرقاوان تلمعان بألوان مألوفة جداً لرايموند.
غضب. مرارة. كرامة جريحة، لكن ما تزال قائمة.
رايموند شعر بالفضول؛ هل ما زالت تلك الفتاة الصغيرة، التي كانت تعجز عن إخفاء ألمها، موجودة خلف هذه المرأة الأنيقة القوية؟
“شكراً لك،” ردت أليكسيا بصوت ثابت، لكنها لم تنس أن ترد له الصفعة بابتسامةٍ لاذعة.
“وأنت أيضاً، تبدو ملائماً تماماً للمكان الذي تقف فيه الآن.”
غادرت بعد ذلك دون أن تنظر خلفها، وتركت عبارتها تتلاشى في الهواء البارد، أشبه بتهكم لطيف أكثر منه مدحًا.
رايموند لم يتبعها. اكتفى بعبور الشارع مجددًا كما لو أن شيئًا لم يكن. لكن الحقيقة؟ لقاءهما الثاني، وما رافقه من مزيج مشوش من الذكريات والمشاعر الجديدة، بدأ يُنبت داخله شيئًا صغيرًا… كبراعم خضراء تشق طريقها من تحت تراب ثقيل.
كانت بداية تغير، لم يدركه بعد.
***
“الكونتيسة بونيس ستتولى الإشراف عليكِ كمرافقة رسمية.”
وصلها هذا الخبر من هاريسون في اليوم التالي، وما إن تلقته حتى بدأت الكونتيسة، شقيقة هاريسون الوحيدة، بزيارات يومية منتظمة.
كان اسمها أولغا بونيس. امرأة ذات هيبة، شامخة الأنف، لا تقبل المساس بسمعتها أو سمعة عائلتها.
وبالنسبة لابنة دوقة مطلقة تطمح للعودة إلى مجتمع النبلاء للبحث عن زوج، لم يكن دخولها إلى هذا العالم ممكنًا دون مرافقة اجتماعية ذات ثقل، تقف خلفها وتتحمل عنها سهام الانتقاد.
ولم يكن في محيط هاريسون من تصلح لهذا الدور أكثر من أخته أولغا.
أولغا كانت عضوة مرموقة في جمعية “سيلفربيل”، وهي نادٍ اجتماعي لا يُسمح بالانضمام إليه إلا لسيدات الطبقة العليا، ممن يحملن نفوذاً حقيقياً. كانت العضوات يتناوبن على رئاسة المناسبات الخيرية، كما تولين الإشراف على قاعة رقص العاصمة التي تحمل الاسم نفسه.
وبفضل هذا الانضمام، نالت أليكسيا فرصة نادرة للظهور في إحدى أمسيات سيلفربيل الراقية—حدث تتوق إليه كل شابة تطمح في الزواج من أحد رجال النخبة.
الفستان، تصفيف الشعر، المجوهرات، الأحذية… وأسماء الرجال الذين يُنظر إليهم كـ”أزواج مثاليين”—كل تفصيلة من هذه أمور لم تسلم من تعليقات أولغا الدقيقة، ونقدها الذي لا يعرف المجاملة.
كانت تدربها ليس فقط لتبدو جميلة… بل لتكون مثالية.
***
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 7"