الفصل الرابع
في تلك اللحظة، مدّ رايموند يده كما لو أنه يدعوها للنهوض.
ترددت أليكسيا قليلًا، ثم أخذت يده وقامت واقفة. كانت يده كبيرة، دافئة.
لكن الدفء الذي عبر راحة يدها تلاشى بمجرد أن سحب رايموند يده أولًا. أليكسيا، وقد بقيت لمسة يده عالقة في جلدها كطيف، أسرعت بإخفاء يدها تحت البطانية. وعلى الرغم من شعورها بالإحراج، حاولت أن تبتسم، وأن تُضفي على الموقف طابعًا خفيفًا:
“كنت أبحث عن المطبخ. أردت فقط كوبًا من الحليب الدافئ.”
“كان يمكنكِ شد الحبل.”
“الجميع نائم الآن. لم أشأ إزعاج أحد. يمكنني تسخين الحليب بنفسي، لا بأس بذلك.”
نظر إليها كأن كلامها غريب عليه، لكن لما وجدها تحدق إليه بعينيها الواسعتين وكأنها لا تفهم أين المشكلة، تنهد بخفة وقال:
“إذا أردتِ الوصول إلى المطبخ بسرعة، من الأفضل استخدام الدرج على الجهة اليمنى. إنه مخصص للخدم في الحالات الطارئة، والإنارة فيه تظل مشتعلة.”
“أوه، صحيح… أظن أنهم أخبروني بذلك، لكنني نسيت.”
في الحقيقة، لم تكن تعرف أصلًا أين يقع هذا الدرج، لكنها أومأت بحماس. رايموند بدأ يمشي، وأليكسيا ظلت واقفة في مكانها، تحدق في ظهره يبتعد.
وفجأة توقف، استدار إليها وقال بنبرة ضيق طفيفة:
“هل تنوين البقاء واقفة هناك؟”
“آه؟”
“ألم تقولي إنك تريدين الذهاب إلى المطبخ؟”
“آه! نعم!”
نطقت بها بصوت مرتفع قليلًا، ثم أسرعت لتلحق به بخطى صغيرة.
أن يدلّني بنفسه على الطريق؟ ربما يكون وريث الدوقية أكثر لطفًا مما توقعت.
فكرَت بذلك، وهي تسير خلفه في الممر المظلم الذي لم يعد يبدو موحشًا كما قبل، بفضل ظهره العريض الذي يسبقها بخطى واثقة.
لم يتبادلا أي كلمة لبرهة، حتى ظهرت الدرجات المضيئة أمامهما. توقف رايموند عند رأس الدرج، وأشار برأسه كمن يقول: “الباقي عليكِ”.
“لا أحتاج لأن أشرح لك كيف تنزلين السلالم، صحيح؟”
“بالطبع لا. شكرًا على إرشادي.”
انحنت له باحترام، ثم بدأت تنزل. لكن فجأة شعرت برغبة عميقة أن ترد له الجميل، فصعدت الدرج مرة أخرى.
كان لا يزال واقفًا في مكانه، رفع حاجبه متسائلًا، وكأنها مصدر إزعاج غير متوقع.
“هل ترغب أنت أيضًا بكوب حليب دافئ؟ يمكنني إحضار واحد لك إن أردت.”
“لا حاجة. فقط احرصي على ألا تتعثرَي بالبطانية. لا أريد أن يُشاع أن ابنة الدوقة تدحرجت من الدرج في منتصف الليل بسبب بطانيتها.”
قالها، ثم استدار إلى الخلف، ليعود إلى عتمة الممر الطويل.
وقفت أليكسيا مكانها، تتابع بعينيها ظهر ذلك الفتى البارد، لكنه نبيل بطريقة غريبة، حتى اختفى تمامًا.
—
منذ تلك الليلة، بذلت أليكسيا قصارى جهدها لتتقرب من رايموند.
لم تطمح لعلاقة دافئة كأولئك الأقارب الذين يتبادلون الضحكات والعناق، بل فقط إلى اعتراف صامت بأنهما، تحت سقف واحد، أصبحا عائلة.
ومع حلول الصيف فعليًا، أطلقت إيزابيلا مشروعًا ضخمًا لتحديث القصر، بذريعة النظافة والراحة. أُدخلت خطوط الهاتف، وأعيد تأهيل المطبخ، أُنشئ مرآب في الساحة الخلفية، وأُضيف نظام تدفئة حديث.
في غياب الدوق، تولّى رايموند الإشراف مع إيزابيلا على المشروع.
أما أليكسيا، التي لم تكن قد بلغت بعد، فقد أمضت أيامها تتنقل بينهما، تؤدي المهام الصغيرة.
كانت تتسخ أحذيتها وجواربها يوميًا بالتراب، لكنها لم تكن تهتم. ففي الأيام التي يمد فيها رايموند لها منشفة مبللة ليبرد بها جبينها، كانت تشعر وكأنها تطير من الفرحة.
فارسٌ كامل، ووريثٌ مثالي، يحبه الجميع في المقاطعة. رمزٌ لمستقبل مشرق لعائلة الدوق.
رايموند… كان الشخص الأكثر سطوعًا ممن رأته في حياتها.
حين يظهر، تنعطف الأنظار نحوه لا إراديًا. وقبل أن تسلّم عليه، كانت دائمًا تُنقّي صوتها، كما لو كان ذلك طقسًا ضروريًا.
لكن كلما ازدادت حرارة الصيف، ازداد بروده معها.
في لحظة ما، قرر أن يتناول فطوره منفصلًا عن العائلة. وحتى إن صادفته في الممرات، لم يعد يرد على تحياتها.
الخادمات كن يتهامسن، لا بل يتحدثن بصوت مسموع كي تسمع:
ألا تعرف حدودها، وتتجرأ؟
كان الأمر محرجًا. ومع ذلك، لم تغضب.
شعرت فقط بالذنب. كانت ترى في تناول العائلة للطعام معًا أمرًا مقدسًا، كما علّمها جدّها. وكانت تشعر بواجبٍ في أن تُعيد رايموند إلى المائدة.
في تلك الأيام، شاع في القصر حديث مغرض. قيل إن إيزابيلا وابنتها تحاولان سرقة الأضواء من وريث الدوق، وأن الأم وابنتها تعتبرانه عبئًا.
كل ما أرادته أليكسيا هو أن تُثبت العكس.
—
في أحد أيام الصيف، بعد جلسة شاي مزعجة مع فتيات نبلاء في مثل عمرها، خرجت من القصر غاضبة.
كنّ يعاملنها وكأنها حيوان أليف مثقّف، يضحكن حين تتكلم، كأنها مُهرتهم المدللة التي تعلمت قول كلمات.
تظاهرت بعدم الاكتراث كي لا تحرج والدتها، لكنها خرجت متألمة.
وفي طريقها إلى الغابة، رأت بيت الزجاج. فتذكرت أن والدتها طلبت منها أن تجلب زهورًا للمكتب.
قررت أن تؤجل رحلتها إلى الغابة، واتجهت إلى الدفيئة بدلًا منها.
فتحت الباب، ومشت خطوات قليلة، ثم توقفت فجأة.
عند الطاولة، كان هناك دلو معدني مملوء بالأزهار، وجلس أمامه رايموند يتحدث إلى البستاني.
وما إن رآها رايموند… حتى صمت.
والبستاني أيضًا رمقها بنظرة حذرة، ثم انحنى ببطء… ولكن فقط لوريث الدوق.
“كما تأمر، سيدي.”
بمجرد أن قال البستاني ذلك، غادر الدفيئة بهدوء، تاركًا خلفه سكونًا ثقيلًا اخترقته خطوات أليكسيا وهي تقترب بحذر من باقة الزهور المقطوفة. كلما اقتربت، تعمّق عبير الأزهار النضرة في أنفها. أما رايموند، فظل يحدق بها مباشرة، بوجه لا يمكن قراءة ملامحه أو فهم ما يدور خلفه.
“لم أتوقع أن أجدك هنا.”
قالتها أليكسيا بنبرة متعمدة من البهجة، محاوِلة إضفاء جو خفيف على اللقاء. كانت تعرف أن التحول من غرباء إلى عائلة لا يتم بسهولة، لكنها لم تكن ترغب في أن يبقيا غرباء إلى الأبد. آمنت أن ذاك الفتى الذي دلّها ذات ليلة بطيبة على المطبخ، هو حقيقته التي يجهد في إخفائها.
“سمعت أن في بلينفيلد بستانيًا مميزًا… ويبدو أن ذلك صحيح. كل شيء هنا رائع.”
“كل العاملين في هذا القصر يجتهدون. إنهم أشخاص جديرون بالاحترام.”
كلمات رايموند جعلت ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها. بدا واضحًا أنه أيضًا يُقدّر العمل ويعرف قيمته.
“كنت دائمًا أتساءل من ينسّق الزهور الجميلة التي تزين صالة الاستقبال، فسألت الخادمة ذات مرة، وأخبرتني أنك من يفعل ذلك. لا يمكنك تخيل مدى دهشتي! هل اخترت هذه الزهور بنفسك أيضًا؟”
كان السؤال يحمل في طياته إعجابًا حقيقيًا بموهبته، لكنها ما إن أنهت كلامها، حتى رفع رايموند عينيه إليها بنظرة لم ترَها من قبل.
“هل تفعلين هذا عمدًا؟”
صوته خرج حادًا، كقطع زجاج مكسور. لم تتوقع ردًا كهذا، وارتجف شيء في أعماق عينيها.
“هل تظنين أن ما يحدث في هذا القصر مغامرة مشوقة بالنسبة لك؟”
“… ماذا؟”
“أن تتجولي في الممرات ليلاً بثوب نومك، أن تراقبي أيدي الآخرين لتتعلمي آداب المائدة، أن تزعجي الخدم بابتسامات فارغة… كل هذا يبدو ممتعًا لك، أليس كذلك؟”
بدأ لون وجه أليكسيا يشحب تدريجيًا.
“تعتقدين أن كل هذا… مجرد لعبة؟”
أمال رأسه ببطء، بتهكم واضح. ثم، وتحت ضغط أصابعه، تحولت زهرة بيضاء هشة في يده إلى شيء مهروس، مسحوق.
“كل ما أردته هو جمع الزهور التي طلبتها أمي…”
“إذن، لماذا لم تأخذي الزهور ورحلتِ؟ بما أن البستاني غادر، هل يفترض بي أن أقدّم لك الخدمة بنفسي؟”
“لم أقصد ذلك أبدًا. سمعت أنك تحب النباتات والزهور، فقط أردت أن…”
“حتى هنا؟ في الدفيئة أيضًا؟ تحاولين إبعادي؟”
“لا! إطلاقًا!”
“أعتقد أنني بدأت أفهم ما تسعى له أنتِ والدتك… بهدوء، وذكاء. تجهزون مكانًا لابن جديد… لم يرَ النور بعد.”
رمشت أليكسيا بعينيها، فزعًا، محاولة تفسير ما قاله، لكن رايموند أكمل بصوت بارد:
“مكان الميراث الذي تريدون أخذه… من تحته.”
“رايموند، أمي قالت بوضوح إن لا أحد يستطيع أخذ مكانك. نحن نكنّ لك الاحترام كخليفة شرعي.”
“كوني صريحة. بالنسبة لك، مبادئ بيلسماير وتقاليده ليست إلا كتابًا قديمًا مكتوبًا بلغة غريبة. لا يمكن الاستفادة منه إلا بإحراقه.”
“لم أقصد أبدًا التقليل من شأن حياة النبلاء. فقط… كل شيء لا يزال غريبًا عليّ، وأحتاج إلى وقت لأتأقلم.”
“يا له من عذر ملائم.”
تشنّج كتفا أليكسيا من توالي الاتهامات. وبدون أن يشي وجهه بأي شعور، مدّ رايموند يده فجأة، ودفع بجردل معدني مليء بالماء والزهور باتجاهها.
ارتطم الجردل بأرضية الدفيئة بصوت معدني مدوٍ، وتناثرت المياه على الأرض، متطايرة حول أقدامها، فيما تساقطت أزهار الـ”ليسيانثوس” البيضاء على الأرض كأشلاء، وتلطخت تنورتها بالماء من ركبتيها حتى الأسفل.
“ما الذي تفعله!”
صاحت أليكسيا وهي تجثو بسرعة، تجمع الأزهار بحركة يائسة بينما تغمرها القطرات الموحلة، لا وقت لتفكر في ستر فستانها ولا تنظيف يديها. كانت الأزهار قد تلطخت بالكامل، وفسدت، كما فسد قلبها في تلك اللحظة.
لماذا…؟
كانت عاجزة عن الفهم. هذا لم يكن رايموند الذي عرفته. الرجل الذي لا يتحدث بحدة حتى مع أصغر خادمة. هذا الوجه… لا يظهره إلا لها.
رفعت عينيها إليه، غاضبة، يائسة، لكنها أمسكت دموعها قبل أن تهرب من عينيها.
“هذه زهور، بذل البستانيون وقتهم في العناية بها.”
“زهور اختارتها الدوقة. وبعد أعوام، ستكونين أنت من تختارينها… ربما مع أخيك الصغير.”
كانت كلماته الأخيرة مثل نصلٍ بارد. خفضت أليكسيا رأسها، فقد فهمت أخيرًا سبب كراهيته لها.
ثم مرّ رايموند بخطى ثابتة، وسحق آخر زهرة لم تجمعها تحت حذائه الأسود.
—
حين غادر، جلست أليكسيا وسط بقايا الزهور، تجمعها ببطء بيدين مرتعشتين. كانت الأرض باردة، ورطبة، تشبه تمامًا ما تشعر به في قلبها.
لم يكن غريبًا، بعد ذلك اليوم، أن تبدأ تشعر أن “بلينفيلد هاوس” لم يكن بيتًا لها قط.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 4"