✿ 𝓕𝓵𝓸𝓻𝓪 .:
الفصل الثالث
ما إن دخلت أليكسيا إلى مكتب والدها، حتى بادر هاريسون بإغلاق الباب بنفسه، وأشار لها أن تجلس على الأريكة الوثيرة. أما هو، فقد جلس على حافة الأريكة المفردة المقابلة، متقاطعًا معها بزاوية. جلوسه بهذا الشكل كان مؤشرًا واضحًا: الحديث الذي سيلي قد يطول. إذ إن هاريسون لم يكن يجلس براحة كاملة إلا إذا كان الموضوع عابرًا.
“لا تقلقي، الأمر ليس خطيرًا.”
تحوّلت عيناه لبرهة نحو صورة موضوعة على طاولة جانبية. كانت صورة عائلية تجمع الأربعة: إيزابيلا، هاريسون، أليكسيا، ودومينيك، جميعهم يبتسمون بأبهى ما يمكن لوجهٍ بشري أن يمنح من دفء.
“تبدو أنك تحب تلك الصورة كثيرًا.”
“هي صورة لن تغادر ذاكرتي حتى مماتي.”
ردّ وهو يمرّر إبهامه بارتباك على ذقنه في حركة متأملة.
“على أية حال، شعرتُ أن هذا الحديث يجب أن يتم في حضرة إيزابيلا، حتى ولو كانت على هيئة صورة.”
“أنا مستعدة لأي شيء تريد قوله.”
أجابته أليكسيا بصوت هادئ لكنه مشبع بجدية مفاجئة. رمقها هاريسون بنظرة مستغربة، ثم قال بنبرة شبه مازحة:
“كأنك تتحدثين إلى شخص على وشك طردك! لا أظن أن هناك كثيرين في لوسنير يملكون الجرأة ليتجاهلوا أليكسيا وينتربورن.”
حين أدركت أن الحديث لا يحمل أنباء سيئة، ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة، وشبكت أصابعها معًا بتروٍ.
“لا أعلم لماذا، لكن كلما صار الطقس دافئًا، أفتقد إيزابيلا أكثر.”
“ربما لأننا كنا نعتقد دائمًا أن صحتها تتحسن مع دفء الطقس.”
“منطقي. كنا ننتظر ذلك اليوم جميعًا… لكنه لم يأتِ أبدًا.”
قالها هاريسون، ثم رفع يده بخشونة ليمسح بطرف إصبعه زاوية عينه التي لمعت بشيء يشبه الألم. أما أليكسيا، فبعد تدريبٍ طويل مع الذكرى، استطاعت أن تذكر اسم والدتها دون أن تفيض عيناها بالدموع. رمقت والدها بنظرة محبة دافئة.
وبعد لحظة صمت، قال هاريسون بصوت هادئ:
“أعرف كم تكرّسين نفسك لمتجر إيفرهارت، رغبةً في تحقيق حلم والدتك. وهذا أكثر ما يجعلني أعتز بك. لكن ما سأقوله الآن… أتمنى ألا تفهميه خطأ.”
“بالطبع، تحدث كما تشاء.”
زفر هاريسون نفسًا قصيرًا.
“المحامي نصحني بعدم الإفصاح عن هذا بعد، لكن… لي مطلق الحرية أن أقول ما أشاء وقتما أشاء.”
ثم نظر مباشرة في عينيها، بثبات الرجل الذي لقبوه ذات مرة بـ”الثور الغاضب”. وعمّ الصمت، حتى صار صوت عقارب الساعة هو الوحيد الذي يملأ أجواء المكتب.
“أريد أن أمنحك متجر إيفرهارت.”
كانت الكلمات التي كسرت السكون… مدوية بما يكفي لإسكات أي تفكير.
اتسعت عينا أليكسيا، وارتخت شفتاها من الذهول. شعرت وكأن أفكارها التي كانت تدور بحثًا عن موضوع الحديث قد تعطلت فجأة. إيفرهارت؟ هل هناك إيفرهارت آخر غير المتجر الشهير في شارع بيريل؟
لاحظ هاريسون رد فعلها، فابتسم مازحًا:
“ليس فورًا طبعًا. لم أعدّل وصيتي بعد، فلا تقلقي.”
كان يتحدث عن تركةٍ ضخمة كما لو أنه يقدم علبة حلوى لطفل.
كلمات غير واقعية. أليكسيا لم تتخيل نفسها يومًا في هذا الموقف. كل ما تمنته دومًا هو أن تظل تعمل بجهد، وتكسب لقمة عيشها بعرق جبينها.
“أخبرت دومينيك مسبقًا. وافق دون تردد. عجيب أمره، لا يملك ذرة طمع حين يكون الأمر متعلقًا بك.”
فتحت أليكسيا فمها أكثر من مرة، تحاول النطق، ثم أخرجت أخيرًا صوتًا ضعيفًا، كأن حلقها اختنق:
“… لم أتخيل أبدًا سماع شيء كهذا.”
ثم أضافت بسرعة، تداركًا للموقف:
“لكنني سعيدة، طبعًا! لا أحد يسمع أمرًا كهذا دون أن يفرح. فقط… لا أعرف كيف أعبر عن دهشتي.”
“لقد وصلتِ بإيفرهارت إلى هذا المستوى، لكنه ما كان ليكون هنا لولا إيزابيلا. وأنتِ، ابنتها الوحيدة، وابنتي كذلك. من الطبيعي أن تكوني الوريثة.”
“أشكرك على كلماتك… لا تعلم كم تعني لي.”
“لكن، ثمة شرط.”
شروط هاريسون وينتربورن…
إن لم تكن قد قرأت العقد عشرات المرات، قد تجد نفسك، دون أن تدري، قد بعت روحك للشيطان.
تذكّرت أليكسيا تلك السمعة المخيفة، وانتظرت بصمت لتسمع المقابل الذي يريد وضعه في كفّة الميزان. ما الذي يعادل متجرًا بهذا الحجم؟ لا شيء تملكه يمكن أن يوازيه.
“أرغب أن تتزوجي… من رجل مناسب.”
“الزواج؟”
اتسعت عيناها بدهشة لا تقل عن دهشتها الأولى.
“رغم كل هذا التقدم، لا تزال معظم أوساط رجال الأعمال لا تثق بالنساء كشريكات حقيقيات. لا بد أنك شعرتِ بهذا بنفسك.”
“شعرت، نعم…”
تابع بنبرة واقعية وعقلانية:
“أنا أثق بك. رأيتك إلى جانب إيزابيلا، وشاهدت كيف امتصصتِ قوتها وفهمها للحياة. لكنني أيضًا أعلم أن الآخرين لا يرونك بعينيّ. ولا أستطيع أن ألومهم على ذلك.”
“أفهم ما ترمي إليه.”
“الرجال… يخافون من الجديد أكثر مما يظن المرء. حتى أنا، قبل أن ألتقي بأمك، كنت مثلهم تمامًا. عنيدًا، متشبثًا بقناعات خاطئة كما لو كانت ديانة.”
“لكنّك… اعتنقت ديانة جديدة.”
ضحكت أليكسيا مازحة، فأطلق هاريسون ضحكة مدوية على الفور. “اعتنقت ديانة!” كررها لنفسه وهو يربت على فخذه، كمن سمع نكتة عبقرية.
“أنتِ محقة. وكان قرار أن أكرّس حياتي كأحد أتباع إيزابيلا خيارًا عظيمًا، لم أندم عليه يومًا.”
“ولهذا تعتقد أنك بحاجة إلى تابع مخلص آخر لي أنا أيضاً، أليس كذلك؟”
“أن تكون المرأة زوجة لرجل محترم يجعلها، للأسف، تُحظى باحترام الآخرين أكثر من لو بقيت عازبة. وأكون صادقًا، أنا خائف من أن يُقال إن والد أليكسيا الوحيدة أهمل مسألة زواجها.”
أليكسيا كانت تدين لهاريسون بجميل لا يمكن سداده حتى لو امتدت حياتها بأكملها. الزواج ظل بالنسبة لها شيئًا غريبًا، يحمل غموضًا أقرب إلى الخوف. لكنها، بتصميم يفوق التردد، أومأت برأسها موافقة.
“سأبحث، رغم أنني أشك إن كنت سأجد تابعًا مخلصًا بقدر ما كانت أمي.”
ابتسم هاريسون ابتسامة ارتياح واضحة، وقد استشعر صدق جوابها.
“ستجدينه، بلا شك. سأوظف كل معارفي لأعثر لك على الشريك الأمثل. ولا تقلقي بشأن المهر.”
أنهت أليكسيا الحديث بتمني مساء هادئ، وغادرت مكتبه.
صعدت إلى غرفتها بهدوء، ولم تستدعِ خادمتها، بل بدّلت ثوبها بنفسها إلى ملابس النوم. الأحداث كانت كثيرة ومكثّفة لدرجة أن ذهنها لم يكن مستعدًا لاستيعابها.
جلست وأخذت تتأمل غرفتها-الغرفة التي زينتها بنفسها مع والدتها.
الزهريات، الطاولة المزخرفة، الصورة التي تجمعهما على الشاطئ، وحتى الفراش الذي تنام عليه… لم تكن هناك زاوية إلا ولامستها يد إيزابيلا ذات يوم. مرّرت أليكسيا يدها على وجهها بتعب وارتباك.
هل آن أوان الرحيل من هنا أيضًا؟
كانت تعرف أن ذلك اليوم سيأتي، لكنها لم تتوقع أن يقترن بوراثة متجر إيفرهارت. قلبها كان يضجّ بمزيج متفجر من الحماسة والرهبة والتردد.
الزواج. أن تكون زوجة شخص ما.
أمرٌ فعلته والدتها ثلاث مرات. لكنها، رغم كل ذلك، شعرت بقبضة باردة من الخوف على قلبها. لأن مفهوم الزواج الذي عرفته لم يكن مبهجًا. كان مليئًا بالثرثرة الجارحة واللوم العائلي، طريقًا غير مستقر من بدايته حتى نهايته.
—
إيزابيلا كانت ابنة “راب بريدير”، أغنى مصرفي في دولة “أرين” بالقارة الجديدة.
عندما بلغت العشرين، وقعت في حب ضابط بحري من النظرة الأولى، وتزوجته رغم معارضة أهلها. وفي العام التالي، أنجبت أليكسيا.
لكن والد أليكسيا فقد حياته أثناء مهمة خارجية، فاضطرت إيزابيلا إلى العودة مع طفلتها الرضيعة إلى منزل والديها. طلبت الصفح، ووالدها سامحها، لتعود من جديد إلى كنف عائلة بريدير.
كرّست سنواتها التالية لتربية ابنتها والعمل في متجر العائلة. وهناك، وأثناء إحدى المناسبات الاجتماعية، التقت بدوق بيلسماير. وقد لاحقها ذلك الدوق بالإصرار والمثابرة.
وافق راب، والدها، على الزواج عندما رغب أن تحظى ابنته وحفيدته بحماية رجل من مكانة الدوق.
كان زواجًا مدوّيًا، تصدّرت أخباره الصحف، ووُصف بأنه “الزواج الذي أخضع الدوقية للذهب”، كما لو أن ثروة بريدير اشترت لقبًا نبيلاً. وبسبب هذا الزواج، اضطرت أليكسيا في الرابعة عشرة من عمرها إلى مغادرة بيت عائلتها إلى قصر الدوق… حيث كانت رطوبة الجدران تتسلل حتى في أيام الصيف.
ليالي القصر كانت موحشة، تكاد تخلو من الحياة. وفي إحدى الليالي، نزلت أليكسيا من السرير، تحدّق في حبل نداء الخدم، لكنها لم تشدّه. بل لفت بطانية حول كتفيها وخرجت بخطى حذرة.
الوقت كان متأخرًا، والبيت نائم. لكنها لم تأكل جيدًا في العشاء-أداء دور “الفتاة المهذبة” بابتسامة مصطنعة لم يكن يتماشى مع قطع البط المحمّرة بصلصة البرقوق.
كل ما تريده كان قطعة خبز وكوب حليب دافئ.
لو كانت نبيلة حقيقية، كانت ستشد الحبل وتطلب خادمتها. لكنها لم تعتد أن تطلب شيئًا يمكنها فعله بنفسها، ولم تكن تحتمل أن تُقال عنها “العروس الجديدة التي تصرخ على الخدم من أول أسبوع”.
في بيتها القديم في “أرين”، كان الجميع، حتى أجدادها، يعاملون الخدم كأفراد من الأسرة. وكان من الطبيعي أن تنزل بنفسها إلى المطبخ إن شعرت بالجوع.
فشدّت بطانيتها ومشت بخطى عزيمة نحو ما ظنّت أنه اتجاه المطبخ.
الممرات كانت طويلة، والأنوار خافتة. الرياح التي تسلّلت من أسفل الأبواب المغلقة أصدرت همساتٍ كأنها تأنيب غير مرئي. وكلما تقدّمت، زاد شعورها بالتيه.
هل يُعقل أن المطبخ بهذا البُعد؟
على جانبي الممر، وقفت دروع كاملة، كأن القصر متحف وليس مسكنًا. الرائحة المعدنية للحديد المصقول امتزجت بالغبار العالق في الهواء، حتى شعرت وكأنها دخلت عالمًا لا تنتمي إليه.
هل ضللت الطريق؟ ظنّت أنها بدأت تتعود على القصر، لكن الظلمة جعلت كل الممرات متشابهة.
قبضت على بطانيتها، وأكملت السير. هناك، في نهاية الممر، تلألأ ضوء خافت. شعرت بالراحة. لعل هناك أحدًا يمكنه مساعدتها. اقتربت بخطى حذرة، ومدّت رأسها لتنظر من خلال الباب نصف المفتوح…
“ما الذي تفعلينه؟”
جاء الصوت من خلفها فجأة، بلا سابق إنذار، وكأن الهواء نفسه نطق. ففقدت قوتها وسقطت جالسة أرضًا من شدة الفزع.
رفعت رأسها، عيناها ترتجفان.
رايموند بيلسماير.
كان يقف هناك، يرتدي قميصًا خفيفًا، بلا تعبير على وجهه. خصلات شعره السوداء انزلقت على جبينه، مرسلة ظلًا على عينيه.
أليكسيا، التي بالكاد استوعبت ما يحدث، لم تستطع سوى التحديق… في وجهه، وجه الفتى الذي لا تستطيع سحب نظرها عنه.
***
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 3"