14
الفصل الرابع عشر
ما فقدته تلك المرأة
ارتفع السوار متدلّياً من طرف أصابع طويلة متناسقة. لم يكن يتخيّل، حين رآها في الشرفة، أنها ترتدي مثل هذا الشيء، لكن ما إن وقع بين يديه حتى بدا وكأنه يساوي الكثير.
من حيث القيمة الجوهرية كجوهرة لم يكن يلمع بذاك البريق الباهر، غير أنّه، بما أنّ أليكسا اختارته لتظهر به في عودتها إلى صالونات المجتمع، فلا بدّ أن وراءه قصة ما. كانت، منذ صغرها، تميل إلى أن تُحمِّل الأشياء الصغيرة دلالات خاصة.
هل ستوظّف عدداً كبيراً من الخدم ليبحثوا عن السوار؟ أم أنها، على طريقتها المعتادة، ستتكتّم على الأمر وتحاول حلّه بنفسها؟
على الأرجح أنّها اختارت الثانية. وإلا، فلماذا كانت إحدى وصيفات الكونتيسة بونيس تزور قاعة حفلة “سيلفربيل” مرتين بمفردها من دون أن يرافقها سيدتها؟
بدا رايموند مضحكاً لنفسه وهو يستحضر تلك المعلومة التافهة التي بذل جهداً لمعرفة تفاصيلها، لكنه ما لبث أن اعترف صراحة: هذا السوار قادر على أن يضفي على حياته شيئاً ممتعاً بعيداً عن الملل. كان يتشوّق للحظة التي تعلم فيها أليكسا أنّ السوار بين يديه، لتثور كما كانت تفعل في صغرها، غاضبة تحدّق فيه بعينيها.
إن كانت فتيات مثل بنات الكونت هنّ الأنسب لضمان سلاسة مسيرة العائلة، فإنّ تلك الأم وابنتها القادمات من العالم الجديد كنّ السبب في تعريض سمعة العائلة للغرق. كان يتذكّر بوضوح كيف فقد عمّه الأكبر، الرجل البارد الذي عاش زواجاً آليّاً مع زوجته الأولى، كل رباطة جأشه أمام إيزابيلا، وأغلق أذنه عن أصوات الآخرين.
أراد أن يتأكد.
هل كانت صحبة امرأة من “العالم الجديد” تستحق بالفعل كل ذلك التوبيخ الذي ظلّ يطارده طيلة عمره في المجتمع المخملي؟ بالطبع لن يرتكب خطأ عمه نفسه. فكما يبهت بريق السوار بعد وقت قصير، فهذه ليست سوى نزوة عابرة.
وبما أنّه فرغ أخيراً من مهامه الأهم في إدارة الشركة، فقد حان الوقت ليفتح تلك الكومة من الدعوات المتراكمة. وما دامت الكونتيسة بونيس ستأخذ ابنة أخيها إلى الأماكن التي يرتادها غير المتزوجين من طبقتها، فإن لقاءه بأليكسا لن يكون صعباً.
وبشيء من الترقّب الذي لم يستطع إنكاره، أعاد رايموند السوار إلى الصندوق.
***
كان “شاي العصر” لدى زوجة البارونيت بيتس يستقبل ما يقارب العشرين ضيفاً. وقفت سيّدة الدار عند مدخل الصالون، تستقبل القادمين بابتسامة عريضة، متمنّية لهم وقتاً ممتعاً.
قالت أولغا وهي تدخل:
“شكراً جزيلاً على دعوتك، مدام بيتس.”
رأت المضيفة أليكسا تقف إلى جانب أولغا، فارتبكت لحظة، لكنها بادرت إلى الترحيب بها كما فعلت مع الآخرين:
“لا شكر على واجب، مدام بونيس. لقد علّقت بعض لوحاتي المفضلة في الغرفة المجاورة للصالون، لتستمتعا بمشاهدتها براحتكما. وإن احتجتما شيئاً فليخبر الخدم فوراً.”
أظهرت لها ابتسامة مهذّبة تفي بالحد الأدنى من اللياقة. مرّت أولغا بجانبها، وأسرّت في أذن أليكسا:
“هل تعلمين؟ أبناء أخت السيدة بيتس نالوا منحة في فيربورن بفضل هاريسون. كانا توأمين نجيبين، لكن عائلتهما كانت تمرّ بضائقة مالية فلم يقدر والداهم على دفع نفقات التعليم.”
“والدي كان يفتخر دوماً بمساعدة الطلبة. وأنا أيضاً أودّ أن أشبهه في ذلك.”
“يبدو أنّ هاريسون ترك لك إرثاً جميلاً من القيم.”
امتلأ الصالون برائحة حلوة صادرة عن الكعك والبسكويت المرصوصين على الطاولة الطويلة المفروشة بالكتان الأبيض على طول الجدار. وما إن خطت أولغا وأليكسا إلى الداخل، حتى استدارت إحدى السيدات ممسكة بملقط الكعك. غير أنها، ما إن رأت وجه أليكسا، أفلتت الملقط من يدها بلا وعي. فقد دخلت ابنة المرأة المطرودة، متنكرة في هيئة آنسة رصينة.
وسرعان ما ارتفعت شهقات الدهشة بين بقية الضيوف الذين تعرفوا على أليكسا.
“الكونتيسة جاءت بابنة أخيها!”
“يا للعجب…”
تناثر الكريمة على السجادة الفاخرة، لكن أحداً لم يلتفت لذلك. كل العيون كانت مسمّرة على أولغا وأليكسا.
كيف تجرأت ودعت ابنة إيزابيلا؟!
حتى أنّ بعضهم حدّق في مؤخرة رأس المضيفة بعيون مستنكرة. غير أنّ السيدة بيتس، وقد شعرت بحرارة تلك النظرات، شدّدت أكثر على حركات الترحيب بضيفتها الجديدة.
شعرت أليكسا وكأنها دخيلة غير مرغوب فيها، كسرت صفو الجو. أما أولغا فازدادت ملامحها رقّة، وهمست لابنة أخيها:
“تجوّلي في الغرفة المجاورة وتأمّلي اللوحات قليلاً، أو اجلسي هناك لبعض الوقت. بقاؤك هنا الآن ليس في صالحك. سأعود لآخذك حين يهدأ الجو.”
“كما تريدين.”
استدارت أليكسا بهدوء، ودخلت الغرفة الأخرى.
وما إن خرجت حتى اقتربت أولغا من السيدة التي أسقطت الكعك. استدعت خادماً يأمره بتنظيف الفوضى، ثم أخذت بيدها طبقاً آخر ووضعت لها قطعة جديدة بنفسها.
نظرت السيدة المرتبكة إليها بعينين مرتجفتين، فأهدتها أولغا طبق الكعك بابتسامة رنانة:
“تبدين في صحة جيدة اليوم يا مدام لورين. هل من خبر سار؟”
كان مثل هذا الموقف تافهاً بالنسبة لأولغا.
“آه… لا، أبداً يا مدام بونيس. لم أرك منذ مدة. لقد ازددتِ إشراقاً.”
كان تحديها الجريء كافياً لكسر معنويات كثير من السيدات. شيئاً فشيئاً اقتربن منها، يلقين الأسئلة بدافع الفضول.
“هل صحيح أنّ الآنسة وينتربون تبحث هذا العام عن زوج، واضعة الزواج هدفاً لها؟”
“لا بد أنها تريد زوجاً ذا لقب أرستقراطي، أليس كذلك؟”
“لم يخطر ببالي قط أن يحصل اللورد كورنيت على شرف الرقصة الأولى مع الآنسة وينتربون. يا لهما من ثنائي متناسق حقاً.”
لكن أولغا، بعين خبيرة، تجنّبت الإجابة الصريحة، تاركةً كلامها غامضاً بما يكفي ليُثير فضول السامعات أكثر:
“من يدري… رأي أخي هو الأهم في النهاية. لكن ما من شك أن عائلة وينتربون ليست من ذلك الطراز الذي يبيع أبناءه لمجرد المال…”
بادرت أخرى لتردّ بحماسة:
“بالطبع. فبما أن عائلة وينتربون سترسل الآنسة أليكسا ومعها مهر عظيم، فلا ريب أنها ستقترن بأحد أبناء أعرق العائلات.”
تدخّلت سيدة أخرى بلهجة لا تخلو من التلميح:
“ابن أختي أبدى اهتماماً واضحاً بالآنسة وينتربون. يبدو أن اللقاء بها في حفلة سيلفربيل ترك في نفسه أثراً عميقاً. لقد أدهشني، إذ لم أعهده يتحدث عن النساء اللاتي يلقاهن في الحفلات مطلقاً.”
فتحت أولغا عينيها بدهشة مصطنعة، ثم سألت بنبرة ممهّدة:
“حقاً؟ ومن يكون هذا الشاب يا ترى؟”
“إنه الفيسكونت ويتماير. ألم تذكرك الآنسة وينتربون بشيء عنه من قبل؟”
“لا، لم أسمع منها ذلك قط.”
تلعثمت المرأة خيبة:
“آه… صحيح، فهمت.”
ابتسمت أولغا، وبكلمات فارغة لكنها محسوبة، زرعت بذرة رجاء في قلب محاورتها:
“إنه فتى عاقل، ولا يفضي حتى لي بما يضمره بسهولة.”
لكن في داخلها، كانت تسخر من هؤلاء النساء اللواتي يتسابقن لدفع أقاربهن إلى جانب أليكسا. فهي وحدها تعرف الحقيقة: إنّ شريك أليكسا قد تحدّد مسبقاً.
أولغا كانت تؤدي واجبها ك”مرافقة اجتماعية” مثالية، ولكن فقط على السطح. فالحقيقة أنها خطّطت لبيع ابنة اخيها في صفقة مربحة.
ذلك الرجل كان نبيلاً من أسرة عريقة، يعيش مع عشيقة وضيعة الأصل. لكنه أعلن بوضوح أنه لا ينوي التخلّي عنها، ولا كذلك أن يمنحها لقب الزوجة أمام المجتمع. كل ما يريده امرأة ذات مهر وفير، ترضى بزواج بلا حب، كي يواصل حياته كما يشاء. وما أوفق ذلك بأليكسا!
لقد عقدت أولغا معه اتفاقاً: نصيبها سيكون جزءاً من مهر أليكسا، إضافة إلى السيطرة الفعلية على المتجر الكبير الذي سترثه. فالرجل لم يكن يفكّر يوماً في إدارة متجر، إذ كان يعدّ البيع والشراء عملاً وضيعا لا يليق بنبيل.
وبإدخال ابنها الثاني مكان أليكسا، ستكتمل الصورة. بذلك تُحل أزمة الديون في بيت الكونت، ويحظى ابنها الضائع بمقام رفيع حين يُلقَّب بالمدير في متجر لامع. أما امتلاك إيفرهارت الآن فهو مستحيل، لكن الزمن كفيل بتغيير ذلك؛ فحين يُرزق الزوجان بطفل، ستضطر أليكسا عاجلاً أو آجلاً إلى ترك المتجر.
أولغا لم تعرف شعور الذنب.
لو أن أليكسا بعد موت إيزابيلا عادت طواعية إلى أهل أمها في آرن، أو لو أنها امتلكت من الحياء ما يكفي لرفض هدية هاريسون حين قدّم لها المتجر، لما اضطرت أولغا أن تمضي في هذا الطريق.
ثم إن الزواج لا يعني بالضرورة التعاسة. كم من نبيل له عشيقة ومع ذلك يحيى بسلام؟ أليس كثيرون منهم يقيمون مع زوجاتهم نوعاً من الهدنة، يتركون فيها متنفساً لكليهما؟ ربما يحدث الشيء ذاته لأليكسا.
وبينما كانت أولغا تستغرق في حديثها مع السيدات، لاحظت أنهن يُبدين رغبة متزايدة في التحدث مباشرة مع أليكسا. عندها ابتسمت بوقار:
“هل أستدعي ابنة أخي؟”
“نعم، نود أن نعرف ما هي هوايات الآنسة وينتربون.”
“وأنا أيضاً، هل تحب تنسيق الزهور ربما؟”
وانساقت بقية النساء يؤمِّنّ على الطلب بحماسة. فأشارت أولغا إلى أحد الخدم، آمرة إياه أن يحضر أليكسا من الغرفة المجاورة. عندها، بادرت إحدى السيدات الجالسات بعيداً بأن تطلب من الخادم بدورها أن ينادي على الشاب الذي اصطحبته معها.
انحنى الخادم بلباقة، ثم غادر بخطوات هادئة إلى الغرفة الأخرى. أما أولغا، فلوّحت بمروحتها في رضا، وملامحها تنطق بتوقع واثق لمشهد عودة ابنة أخيها، متألقة بجمالها، لتكون مركز الأنظار.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 14"