13
بأمر من السيدة بونيس خرج دومينيك يبحث عن أليكسا، حتى لمحها أخيراً واقفة شاردة في أحد أركان قاعة الرقص، فتوجّه إليها.
“أليكسا.”
رفعت نظرها المتعب نحوه، ولوّحت بيدها بخفوت، تكاد تخلو من القوة.
“أخيراً تحررت؟”
“وأنتِ، هل انتهيتِ من الرقص مع كل الرجال الذين أدرجتهم خالتك في قائمتها؟ لم أركِ في القاعة قبل قليل.”
“شعرت أن الداخل خانق بحرارته… فخرجت قليلاً.”
“قلتُ لكِ ألا تتحركي وحدك.”
بعدها توجّه دومينيك إلى أولغا، مصرّاً على أن أليكسا لا ينبغي أن ترهق نفسها منذ أول حفل تحضره. وبعد بعض التردد، اضطرت أولغا أن تسمح لهما بالمغادرة. وهكذا تمكّن الشقيقان من العودة إلى المنزل.
عند المدخل، كانت ديزي – وقد غالبت النوم وهي تفرك عينيها – بانتظارهما في الطابق الأول، فاستقبلت عودة سيدتها وأخيها بفرح ظاهر.
“آنستي، أخيراً عدتِ. والحمد لله على سلامتك أيضاً يا سيدي.”
ابتسمت أليكسا بخجل: “قلتُ لكِ إنه يمكنكِ النوم مسبقاً يا ديزي. ما زلتِ تسهرين بانتظاري؟”
“اليوم هو أول حفل راقص لكِ يا آنستي. كيف أخلد إلى النوم وأهمل واجبي كوصيفة مكرَّسة لخدمتك؟”
بعد أن صعدت إلى غرفتها، غيّرت أليكسا ثيابها وأخذت حماماً سريعاً. قبل أن تستسلم للنوم، مرّت إلى صندوق مجوهراتها لتتأكد أن كل ما ارتدته في الحفل قد عاد إلى مكانه. عقد الياقوت الأزرق، الذي خلعته قبل الاستحمام، كان مستقرّاً في علبته كما يجب. أعادت الصندوق إلى مكانه، ثم مدّت يدها إلى العلبة الصغيرة التي تحفظ فيها سوار والدتها العزيز. كان من البديهي أنها وضعته هناك قبل قليل… لكن المخمل الأسود بداخلها بدا خالياً تماماً.
اتسعت عيناها المتثاقلتان بالنعاس فجأة. شهقت بذهول.
السوار! السوار الذي ارتديته في الحفل لم يعد هنا. ألم أخلعه مع العقد قبل الاستحمام؟
ارتجفت أصابعها وهي تفتش بين قفازاتها الملقاة، ثم قلّبت حقيبة اليد الصغيرة التي حملتها إلى “سيلفر بيل”. جثت على ركبتيها لتفتش أرضية الغرفة وزواياها، بحثاً عن أي مكان قد يكون انزلق إليه السوار الرقيق. ثم دخلت الحمام، تفتح الأدراج والخزائن بعصبية، ولكن لا أثر… لا أثر على الإطلاق. قطرات باردة من العرق تسللت إلى جبينها.
لا تدري كم مرّ من الوقت، غير أن وقع أقدام الخادمات في الممر، وهن يبدأن نهارهنّ، هو ما أعادها إلى الواقع. جلست منهارة على المقعد عند حافة السرير، وقد اضطرت أخيراً لأن تواجه الحقيقة التي رفضت الاعتراف بها:
لقد أضاعت السوار الثمين.
***
حتى بعد حفل “سيلفر بيل”، لم يتغيّر الكثير في حياتها. فأليكسا، كونها ابنة لامرأة مطلقة، لم تصلها لا زيارات من الفتيات في سنها، ولا دعوات إلى مجالس السيدات أو مناسباتهن العائلية.
“أن ينتهي الأمر بدعوة وحيدة إلى شاي بعد الظهر عند زوجة بارون! كم من الأيادي الممدودة رددتُ عليها بالإحسان، ثم هكذا يردّون الجميل…”
تنهدت أولغا بعمق حين أدركت أن سيدة واحدة فقط ممن نلن منها معروفاً وجهت دعوة لأليكسا. بل وذهبت تشكو أمام هاريسون من نكران الجميل الذي بلغ حد إهانة العائلة. لكن مهما بلغ نفوذها أو نفوذ هاريسون، لم يكن بإمكانهما اقتحام صالونات السيدات ذوات المكانة دون استئذان. لم يكن أمامهما إلا الصبر وانتظار أن تتصدع تلك الجدران السميكة.
أما دومينيك، فقد بدا بعد الحفل أكثر حرصاً على أخته. على مائدة الإفطار، بعدما غادر هاريسون باكراً، كان دومينيك يقدّم لها كلمات العزاء الصادق:
“لا أريدك أن تتأثري كثيراً بما حدث.”
فابتسمت بخفة، محاولة التهوين عليه:
“أكنت قلقاً عليّ؟ لا بأس. هذا كله في حدود ما توقعتُه سلفاً. لو أن المجتمع فتح لي ذراعيه بالترحاب، لكان ذلك هو المريب حقاً. رأيتَ ما جرى في “سيلفر بيل”.”
“ما يريبني هو أنت.”
“أنا؟ بأي معنى؟”
“هل حدث شيء هناك؟”
“أجريتُ بعض الأحاديث الممتعة مع بعض السادة النبلاء.”
“هذا يبدو متكلَّفاً.”
“ليس من اللائق أن أنقل حديثي مع الرجال للآخرين… حتى وإن كنتَ أنت، أخي الذي أحترمه. أنت نفسك لم تحدثني يوماً بتفصيل عن النساء اللواتي قابلتهن.”
أطلق دومينيك تنهيدة غير راضية، لكنه كفّ عن الاستجواب. أما هي، فأنهت طعامها أسرع من المعتاد وغادرت القاعة. وفي طريقها التقت بالخيّم، فسألته إن كانت وصلتها أي رسالة من السيدة بونيس. لكنه هز رأسه نافياً.
“أفهِمت. إن وصل شيء، أعلمْني به.”
“طبعاً يا آنسة.”
بينما صعدت الدرج، انزلقت يدها تلقائياً نحو معصمها العاري. لقد أسرّت لألغا منذ البداية بما جرى، متوسلة أن تبحث عن السوار المفقود، وراجية في الوقت نفسه أن يبقى الأمر طي الكتمان عن عائلة وينتربورن. نالت نصيبها من التوبيخ، لكن أولغا وعدت بإبلاغها إن ظهر السوار بين المفقودات.
ذلك السوار لم يكن مجرد زينة. لقد كان هدية خطبة، قدّمها والدها إلى والدتها قبل الزواج. صحيح أن الألماس فيه متواضع الصنعة والجودة، إلا أن والدتها أحبته فوق كل حُليّها. وأليكسا كذلك، كانت تشعر به وكأنه يختزن رقة قلب والدها. لذلك تمسكت به، واعتمدت عليه كشيء لا غنى عنه.
وبينما حاولت أن تطرد الفكرة المؤلمة من رأسها، انغمست في مشاغل يومها. لكن متى ما وجدت نفسها وحيدة في غرفتها بعد المساء، تسلل إليها فراغ قاتل. أحياناً كانت تمضي ساعتين كاملتين جالسة تحدق في العلبة الخالية، عاجزة عن فعل شيء.
مرّ أسبوع كامل دون أن تتلقى أي خبر من أولغا. ازدادت احتمالات ضياع السوار نهائياً. فحتى لو كان بسيطاً، يظل ألماساً، وبمجرد أن يغادر القاعة، سرعان ما يجد طريقه للبيع. وبعد أيام أخرى جاءت أولغا بنفسها لتقول بصرامة إن كثرة العمال الداخلين والخارجين تجعل العثور على قطعة كهذه أمراً مستحيلاً. لم يكن بوسع أليكسا أن تُلح عليها أكثر.
بعد ذلك، دفنت صندوق المجوهرات الفارغ في أعمق درج، بعيداً عن عينيها.
***
في مطعم فاخر، انفتح الباب وخرج رايموند، وخلفه رجل في منتصف العمر، أحد العلماء الذين وصلوا مؤخراً إلى روسنير. كان يمسك قبعته بيده، ووجهه يفيض بالابتسامة، وقد بدا مأخوذاً بالعشاء الذي أولاه له الدوق بنفسه.
“لا يسعني إلا أن أشكركم مرة أخرى على الدعوة. لم أجلس قط في مطعم بهذه الروعة. لقد كان عشاءً مثالياً يبشّرني بحياة طيبة في هذه البلاد.”
قال رايموند بلباقة: “إن واجهتَ أي صعوبة في حياتك هنا، فبإمكانك أن تراسلني في أي وقت عبر سكرتيري يا سيد هيتشينس.”
كان العالم – وهو من أصول آرِن – يحمل في قلبه شيئاً من الحذر الغامض تجاه النبلاء. لكن بعد أن رأى دوق بيلسماير وجهاً لوجه، تبدّد كثير من تحفظه. ودّعه بانفراج وجه، ثم توارى. وبعد دقائق توقفت سيارة رايموند أمامه بانسياب رشيق. صعد إليها وقال بهدوء:
“إلى الشركة.”
انطلقت السيارة، وألقى رايموند نظرة عبر النافذة، وفي ذهنه توقّع بأن يبعث الدماء الجديدة في مشروع تطوير الأنسجة.
ومع تزايد انخراطه في العمل، صار يمكث في العاصمة أكثر مما يمكث في إقطاعيته. ازدادت ألفته لشوارعها الصاخبة حتى غدت أكثر اعتياداً من المناظر الطبيعية التي نشأ بينها.
إن مؤسسة بيلسماير الصناعية لم تولد إلا بقرار جريء من الجد الأكبر. كان قد شارك في الحرب، ورأى بأم عينيه ما يمكن لبندقية واحدة أن تفعله من حصد للأرواح، فاستحوذت عليه هوسة بالأسلحة النارية. وحين همّ أحد رفاقه، الذي عمل سابقاً في مصنع بارود أجنبي، بإنشاء مصنعه الخاص، دعمه الدوق بالمال فبدأت المغامرة. في زمن تغلي فيه أوروبا بالإمبريالية والقومية، وجدت هذه الصناعة تربة خصبة، فنمت وازدهرت، حتى صارت العائلة في موقعها المرموق اليوم.
ومع انفتاح البحار وتدفّق رأس المال والسلع، بدا خيار الجد الأكبر أشبه ببصيرة بعيدة المدى. واليوم، توسّعت الأعمال إلى ما يتجاوز البارود، لتشمل الدواء والأصباغ والمنسوجات. ورغم أن الإدارة اليومية في أيدي خبراء، إلا أن القرارات الحاسمة لا تزال من اختصاص رأس العائلة. هكذا تربى رايموند: أن يسير على الطريق الذي شقه أسلافه، دون انحراف.
أنهى مهامه في الشركة وعاد ليلاً إلى قصره في العاصمة. لم يستقبله سوى الخادم الخاص، وفق طباع سيده الكارهة للضجيج.
“مرحباً بعودتك يا سيدي.”
“لقد كان يوماً طويلاً على غير العادة… ربما بسبب وجوه جديدة التقيتها.”
قدّم له الخادم رسالة احتفظ بها معه خصيصاً.
“أية رسالة هذه، حتى تحملها بيدك؟”
“إنها من السيدة وينفريد.”
ألقى رايموند نظرة على الختم وتمتم:
“آه… ها نحن ذا.”
لم يزد الخادم على ابتسامة صغيرة، فقد كان يدرك ثقل ما تحمله تلك الرسائل على سيده. فالماركيزة وينفريد – ابنة عم الدوق السابق – كانت من أشد الأقارب إلحاحاً في مسألة زواجه. هي نفسها من قدّمت إليه آنسة دوبيـنس. لم يطق قلبها فكرة أن بيت بيلسماير العظيم ما زال بلا وريث حتى اللحظة.
قال رايموند بتهكم خافت: “رسالة إنذار جديدة. أراها ستأتي قريباً مسلّحة بالإصرار.”
ردّ الخادم بهدوء: “سأوجّه الخدم ليستعدوا لاستقبالها دائماً.”
ابتسم رايموند ابتسامة واهنة وصعد إلى جناحه. هناك خلع سترته وألقاها على كرسي، ثم جلس على الأريكة يفتح المغلّف. كانت ورقة طويلة تضم كلمات تحية رسمية أولاً، ثم قائمة بأسماء “مرشحات” محتملات للزواج، مع ملاحظات عن كل واحدة، تحت عنوان صارخ: لضمان سلامة إبحار العائلة.
سلامة إبحار العائلة… رددها في نفسه بفتور، وعيناه تمرّان على الأسماء التي سبق أن التقاها في الحفلات. وعند آخر السطور، حيث تحثّه الرسالة على لقاء ابنة إحدى الأسر الماركيزية بعد أن فشل الاقتراب من آنسة دوبيـنس، طوى الورقة وأعادها إلى درج مكتبه.
لكن قبل أن يغلق الدرج، وقعت عيناه على صندوق صغير بداخلها. أخرجه ببطء وفتحه. ومن بين الظلال، تلألأت بخفوت أنوار ماسة رقيقة، مصوغة في سوار نحيل.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 13"