الفصل الحادي عشر
ما إن انتهت الرقصة مع الكونت حتى سارعت أولغا إلى تسليم ابنة أختها إلى السادة الذين رتّبت معهم مواعيد مسبقة. وبغضّ النظر عن رغبتها، وجدت أليكسا نفسها تُعرِّف بنفسها على رجال لم ترَهم من قبل، وتدخل معهم في رقصات متتالية.
شعرت وكأنها كتاب رواية شهير على رفوف مكتبة استئجار، بالكاد يُعيده قارئ حتى يختطفه آخر مدّعياً حق الملكية. هكذا جُرّت بلا رأي، بلا صوت، فيما صبرها يتآكل شيئاً فشيئاً، كما يتآكل غلاف كتاب قديم مُنهك من كثرة الأيادي التي تداولته.
وأخيراً، عندما بلغت قدمها اليمنى حدّها، قررت أن تستريح. تسللت خفية إلى الردهة الواسعة المؤدية إلى المدخل الرئيسي، فخفَتَت الموسيقى الصاخبة حتى صارت همهمة ناعمة لا تؤلم الأذن.
وقبالة الدرج الحلزوني المؤدي إلى الطابق الثاني، لمحت مقعداً منفرداً. مضت نحوه وجلست. كان الهواء المعتدل، الناتج عن امتزاج البرودة الخارجية مع دفء القاعة المختنق بعطور لا تُحصى، يبعث على بعض الراحة. مدت ساقيها بتنهيدة مكتومة.
أريد أن أعود إلى المنزل. لعلّي أطلب من دومينيك أن يساعدني.
لكن آخر مرة رأته فيها كان محاطاً بدائرة من النساء لم يتركن له فسحة نفس. بدا منشغلاً على نحو يائس. لم تكن تدري أنّ شعبيته في مجتمع النخبة قد بلغت هذا الحد. حتى فتيات النبلاء المتعجرفات كنّ يبدين كل ما يعرفن من حِيَل قديمة ليحظين برقصه.
لم أظنّ يوماً أنني سأشهد بعيني حيلة إسقاط المروحة الشهيرة.
تذكّرت نظرة دومينيك المذهولة حين تساقطت عند قدميه ثلاث مراوح في آنٍ واحد، فضحكت بغير قصد، ضحكة قصيرة خاوية.
في تلك اللحظة، علا من الطابق الثاني صخب مجموعة من الرجال يخرجون من قاعة جانبية. لم تُعرهم أليكسا اهتماماً، بل أخذت تتأمل تفاصيل الزينة الداخلية؛ فمنذ مدة، بات تأثيث المعبد الجديد في إيفرهارت يستحوذ على بالها.
> “أي جرأة جعلتها تعود إلى المجتمع من جديد؟”
“إنها تتكئ على حساب والدها بالتبني. أليست ابنة هاريسون وينتربورن؟”
لم يحتج الأمر طويلاً لتدرك أن موضوع حديثهم هو هي نفسها.
> “العجيب أنّ ابنة ذلك البيت الحقير قادرة على دخول سيلفربيل ورفع رأسها بفخر.”
“ولِمَ لا؟ ألم تنسَ أصل الكونتيسة بونيس؟ لقد أغدقت المال لتنال لقباً نبيلاً. كلّه من جيب أخيها.”
“إذن فهي تردّ الدين لابنة أختها. ومع ذلك، ألا ترون أن الآنسة وينتربورن ازدادت جمالاً عمّا كانت عليه في بيت الدوق؟”
“ناضجة… وجاهزة للقطاف.”
وقف الرجال تماماً فوق رأسها وارتفعت أصواتهم بلا تحفظ. لم يدروا أنّ من يتحدثون عنها تستمع لهم تحت الدرج، مختبئة في بقعة عمياء.
> “وماذا عن مهرها؟ أليس معلوماً أنّ بيلسماير رمّم قصره بأكمله بفضل مهر الدوقة السابقة؟”
“لكن لا ضمان أن تأتي أليكسا وينتربورن بمثل ذلك المهر.”
“هاريسون وينتربورن؟ أُشك كثيراً.”
كلماتهم جاءت متغطرسة، مغلفة بفضول أجوف، تكشف بوضوح عن نظرتهم الفوقية. حتى أولئك الذين بدَوا لطفاء معي، هل يصيرون هنا، فوق هذا الدرج، لينهشوا سمعتي؟ اهتزّت عيناها بتردد موجع.
> “ترى من سيكون هدفها هذه المرة؟ اللورد مودواي، ماذا عنك؟ هل تشارك في هذه الصفقة القذرة؟”
“أعفوني. لا أطيق النساء الفارغات العقول.”
“مع ذلك، ترقص برشاقة. ولن تخجل أن تصحبها.”
“ومهما كان الغلاف جميلاً، يبقى الأصل رديئاً. أتعلمون عدد آبائها؟ ثلاثة. نعم، ثلاثة. أصلها أبعد ما يكون عن النقاء.”
“ليست ذنبها كثرة أزواج إيزابيلا.”
“لكن الفتاة لا بد أن تُشبِه أمها. أراهن أن الآنسة وينتربورن ستستهين بقدسية العائلة كما فعلت والدتها.”
امتزج في أصواتهم يقين بارد، ازدراء مطلق.
> “ثم لا تنسوا، إيزابيلا في زيجتها الثالثة ارتبطت بهاريسون وينتربورن. تُرى ماذا علّمها؟ كيف تعلق الحُليّ الباهظة بينما تجمع الخردة؟ أم كيف تبيع ابتسامتها بثمن بخس لتزيد أرباح المتاجر؟”
انفجروا بالضحك، ضحكاً مدوياً ارتدّ صداه إلى الطابق الأرضي. فجأة شعرت أليكسا بأن الهواء حولها يبرد حتى العظم. لم يعد في داخلها ما يحتمل مزيداً من الإهانة. لكنها، كأنّ سلاسل غير مرئية شدّت قدميها، لم تستطع أن تتحرك.
ثم دوّى من فوقها صوت باب يُفتح من جديد، واقتربت خطوات واثقة.
> “آه… دوق بيلسماير.”
حيّاه أحدهم بلهجة مترددة. وما إن أدركت أليكسا أنّ القادم هو رايموند، حتى وثبت واقفة. قلبها خفق بقوة، كأنّه أدرك حضوره قبل عقلها.
قال الدوق بنبرة رصينة:
> “كانوا يبحثون عنك في الداخل.”
> “إذن عليّ أن أذهب.”
رحل أحد الرجال مسرعاً، فيما بقي رايموند واقفاً هناك، فوقها.
> “أي حديث يبعث كل هذا السرور؟ أخشيت أن أكون اقتحمت بلا استئذان؟”
> “معاذ الله! وجود الدوق مرحّب به دوماً.”
“كنا نتحدث عن الآنسة وينتربورن.”
أليكسا أحسّت أن بقاءها للاستماع جريمة، لكن الفضول طغى عليها. أرادت أن تعرف كيف سيرى رايموند صورتها. كانت تتوقع منه أسوأ الكلمات، ومع ذلك لم تستطع أن ترحل. وضعت قبضتها فوق صدرها كأنّها تكبح اضطرابها.
> “أنت أقرب من رآها. عشتما تحت سقف واحد. أليس لك حكم أصدق في شأنها؟ أترى الآنسة وينتربورن عروساً جديرة؟”
“أوَتظن أن وضعي قد انحدر إلى درجة أن أنشد زواجاً كهذا؟”
> “ماذا؟”
> “بدت لي حاجتك لمهرها كبيرة. وقلتَ يوماً إن احتجتَ عوناً، فما عليك إلا أن تطلب، يا ويتمر.”
تقمصت كلماته نبرة العطف، لكن كل حرف منها كان طعنة سخرية. أما الرجل الذي وُجِّه إليه الكلام فراح يتلعثم بمحاولة بائسة لتبرير متانة مكانته. لم تصل التفاصيل إلى أذن أليكسا؛ ما بقي فقط هو الصورة التي رسمها لها رايموند.
إذن هذا ما أكونه… من ذلك الصنف الذي لا يُستحضر إلا للسخرية أو الاستغلال. غريبة جاءت لتسرق بالمال ما لم يكن لها قط.
لم تعد بحاجة إلى سماع المزيد. بقدمين مثقلتين غادرت المكان.
—
دفع ثمن سؤاله الوقح عرقاً بارداً، ثم لاذ اللورد ويتمر بالفرار نحو قاعة الاستراحة. تبعته بقية الرفاق واحداً تلو الآخر، متسابقين على الهرب كأنما يفتحون الطريق لرايموند ليكمل تحقيقه إن شاء. تأمل رايموند ظهورهم المرتبكة، ثم هز رأسه بازدراء.
مجرد صغار بلهاء.
لقد ابتعدوا عن القاعة حيث كان هو، فقط ليخوضوا في سيرة أليكسا وينتربورن. غايتهم كانت أوضح من أن تُخفى: هم يريدونها. يتوقون إلى دفن أنفسهم في جمالها، ويطمعون في ذهبها لينقذوا بيوتاً متداعية.
لكن كيف يُظهرون ذلك علناً، وهي ابنة إيزابيلا التي كسرت محرّمات الطبقة العليا، تطلقت ثم تزوجت ثانية؟ لا سبيل إلا أن يقنعوا أنفسهم أن الثمرة التي لا تصل أيديهم إليها فاسدة الطعم.
ما الذي حملها على العودة، مع علمها بما ينتظرها؟
قبل أن يتفرقوا، لمح رايموند عند زاوية في الطابق الأرضي ذيل فستان أرجواني باهت يتحرك مبتعداً. لم يشك لحظة أنّ أليكسا سمعت كل شيء. ارتسم في ذهنه وجهها الجريح، عيناها الملوّثتان بندم قاسٍ.
كان حديث السهرة كلّه عنها، عن ابنة الدوقة السابقة التي وقفت بجرأة في وسط القاعة. وفي كل مكان تتردّد سيرتها، مطلية بصورة “الوارثة الوقحة”، الفتاة التي تجرؤ على التطلع حتى إلى دماء الملوك.
لو بقيت في الظل، لما انهالت عليها تلك الألسن.
أدرك أنّ أولى حفلاتها لم تجلب لها إلا مرارة. تلألأت عيناه ببريق بارد، ثم انحدر على مهل من السلم، متجهاً نحو الجهة التي توارت فيها الفستان الأرجواني.
—
لم يكن في نيتها أن تعود إلى قاعة الرقص وتفرض على نفسها رقصات جديدة، فدخلت أليكسا إحدى قاعات الاستراحة. لحسن حظها، كانت الغرفة خالية، وفيها شرفة تطل على الحديقة. ما كانت أشدّ حاجتها إلى نسمة من الهواء. خطت إلى الشرفة وأغلقت الباب خلفها.
داعب نسيم الليل وجهها المشتعل، فهدّأ حرارته. ثم خلعت حذاءها الأيمن الذي أرهقها. رفعت طرف ثوبها، فاكتشفت أن بشرة إصبعها الصغير قد تشققت. وضعت قدمها فوق سطح الحذاء لتريحه قليلاً، غير مبالية بضغط حبات اللؤلؤ المزخرفة.
وارثة فارغة، غبية، تسعى لصفقة زواج حقيرة.
ترددت كلماتهم كسهام في داخلها، تاركة ندوباً في قلبها. كيف تجرؤ ألسنة لم تتحدث معها يوماً على السخرية منها ومن آل وينتربورن؟ اشتعل غضبها من جبنها، من عجزها عن مواجهة من فوق الدرج وفضحهم.
أطلّت من الشرفة إلى الحديقة التي أضاءتها مصابيح الغاز، فبدت كئيبة موحشة. وبينما كانت غارقة في شرودها، لم تنتبه إلى وقع خطوات تدخل الغرفة. لم تستفق إلا حين دوّت موسيقى الأوركسترا القادمة من بعيد وامتزجت بخطوات رجل يقترب. التفتت مذعورة، وفي تلك اللحظة انزلقت فردة الحذاء غير المحكمة من قدمها وسقطت من الشرفة.
ارتطم الحذاء بالأدغال تحتها. حاولت أن تتحسسه بقدمها العارية تحت ثوبها الطويل، لكنها اضطرت للاعتراف باختفائه.
وفجأة، انطبعت أمام عينيها هيبة رجل دخل، ظهره للضوء. خطا خطوة إلى الأمام، فتألقت عيناه الخضراوان وسط الظلام كبريق زمرّد.
قال بوقار:
> “لم أكن أعلم أن أحداً هنا. أرجو المعذرة.”
كان رايموند بيلسماير، لكنّه تحدث كأنه يكلّم غريبة، مؤدباً رسمياً. بدت هيئته، ببدلته السوداء وشعره المصقول إلى الخلف، كما يوم التقت به أول مرة في قصر بلاينفيلد.
ارتبكت أليكسا، وحاولت أن تسيطر على نفسها:
> “لا بأس… كنت أنوي المغادرة. لقد ارتحت بما يكفي.”
عليّ أن أنزل لالتقاط الحذاء.
شدّت ثوبها لتتأكد أنه يخفي قدمها العارية، واتجهت إلى الباب. لكن رايموند، وقد أسند ظهره إلى الباب، سد الطريق عليها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 11"