✿ 𝓕𝓵𝓸𝓻𝓪 .:
الفصل الاول
وصل ضيف من مقامٍ رفيع.
ما إن وصلها الخبر، حتى نهضت أليكسيا من مقعدها. خرجت مسرعة من قاعة الاجتماعات في الطابق الثالث، عابرةً الممر المخصص للموظفين، ثم بدأت تهبط بخفة وسرعة عبر السلالم الحلزونية التي تتوسط المتجر. كان ظهيرة يومٍ ربيعي مشرق، تملأه أشعة الشمس المنهمرة من القبة الزجاجية التي تعلو المكان.
عند منتصف الدرج في الطابق الثاني، كان مدير المتجر العام في انتظارها، وما إن رآها حتى ارتسمت على وجهه ملامح التوتر والحرج. وبينما كانا يتجهان سويًا إلى قسم القفازات في الطابق الأول، سألت أليكسيا بنبرة يغمرها الاستغراب:
“ألا تظن أنك قد أخطأت؟”
“بل هو بعينه. أحد الموظفين سمع السيدة النبيلة التي ترافقه تناديه بدوق بيلسماير.”
حتى المدير العام، الذي يملك خبرة تفوق العشرين عامًا، لم يستطع إخفاء ارتباكه أمام قدوم الدوق. ولم يكن ذلك بمستغرب، فالرجل الذي ينتظرانه ليس سوى أصغر وأغنى نبلاء المملكة.
“هذا مستحيل. ليس من طبيعته زيارة مكان كهذا.”
“ربما… ربما جاء لرؤية الآنسة وينتربورن؟”
لكن أليكسيا قاطعت كلامه بحسم قبل أن يكمله:
“مستحيل تمامًا. آخر مرة رأيت ذلك الرجل، كنت في الخامسة عشرة. أنا الآن في الثالثة والعشرين. لم نتبادل أي رسالة طيلة هذه السنوات، لا سؤال ولا سلام.”
ومع اقترابها من الطابق الأول، بدأت تشعر بخفقان قلبها يتسارع. حاولت أن تتجاهل هذا الاضطراب بابتسامة بدت عليها هادئة، وإن كانت مفتعلة.
“أظن أن بوسعنا اعتبارنا غرباء تمامًا، أليس كذلك؟”
“نعم… من هذه الزاوية، ربما.”
أدرك المدير العام أن الأمور بدأت تزداد تعقيدًا، فالتزم الصمت وظهر عليه التفكير العميق.
وبينما دخلا القسم المخصص للسلع المتنوعة، انطلقت إليهما نظرات الفضول من كل جانب. الموظفون خلف طاولات العرض رمقوهما بعيون تترقب حدثًا مثيرًا. وما إن لاحظ المدير تلك الأنظار الفضولية حتى عبس بوجهه، فبدأ الموظفون يتظاهرون بالعمل، منهم من شرع يمسح الزجاج، وآخر يعيد ترتيب بطاقته التعريفية على زيّه الرسمي.
لكن أليكسيا كانت تعلم. زيارة دوق بيلسماير اليوم ستصبح حديث الجميع لأسابيع، تتناقلها الألسن، وتتحور تفاصيلها، ومن المرجح أن يتردد اسمها معهم أيضًا.
“بما أن السيدة النبيلة طلبت مقابلة أعلى مسؤول، سأنتظر هنا.” قال المدير العام، وتوقف على بُعد خطوات من قسم القفازات، متخذًا قرارًا حكيمًا بعدم التقدم أكثر.
رأت أليكسيا من خلف أحد الأعمدة خيال رجل طويل القامة، فعضّت شفتها بقلق.
أن تضطر لمقابلة دوق بيلسماير كزبون، ومن دون أي دعم… كأنها تقف على سطح سفينة وسط عاصفة. قرأ المدير العام اليأس في ملامحها، فخاطبها بنبرة فيها عزاء:
“فكّري فيه كأي زبون عادي. السيد وينتربورن أيضًا واثق أنك ستتعاملين مع الأمر بسلاسة.”
كان هاريسون وينتربورن، مدير المتجر، والدها بالتبني. ومنذ سنوات، وبكل كرم، عهد إليها بإدارة المتجر. أليكسيا أحبت إيفرهارت، العلامة التجارية التي نشأت على حلم والدتها الراحلة، وكانت فخورة بالدور الذي تؤديه الآن. ولذلك، لم تكن تريد أن تخيب أمل والدها بهذا الموقف.
تماسكي. ربما لم يتعرف إليك.
بذرة أمل ضعيفة راودتها. أومأت برأسها، وتقدمت وحدها بخطى ثابتة، وإن كانت عيون الموظفين تتبعها بشكل غير طبيعي رغم تظاهرهم بالانشغال.
وعندما تجاوزت العمود، رأت أمام واجهة العرض شابًا وفتاة واقفين. وجهت نظرها أولًا إلى المرأة، وهي شابة من النبلاء بملامح متكبرة، كانت تشتكي بصوت عالٍ لموظفة متوترة أمامها. أما الشاب الذي يبدو أنه رافقها، فكان يتأمل قفازات خلف الزجاج بنظرة ملّ منها.
آه…
تنهدت أليكسيا بصمت.
ما زال يحمل تلك الهالة الباردة، كبركة متجمدة في منتصف الشتاء. الوقار والثقة بالنفس يحيطان به كأن لا شيء في العالم يمكن أن يزعزع مكانته.
رايموند بيلسماير.
لم تستطع أن تمنع نفسها من استرجاع أول لقاء وآخر وداع جمعهما.
شاب في الثامنة عشرة التقت به تحت ضوء الشمس، وشاب في التاسعة عشرة ودعته تحت وابل من المطر.
لكن رايموند بيلسماير، الذي وقف حينها على حدود الطيش والريبة، لم يعد موجودًا. من يقف أمامها الآن هو دوق بيلسماير، وريث اللقب الذي يحظى بإعجاب الجميع. حضوره وحده كان كفيلًا ببعثرة سكونها.
“سمعت أنك طلبت مقابلة المسؤول.”
قالت أليكسيا بصوت خافت مبحوح، كمن ينتزع الكلمات من حلقه. رفع الرجل رأسه ببطء، وقد كان حتى الآن يظهر لامبالاة تامة بكل ما حوله.
وتلاقت أعينهما في الهواء.
عيناه الخضراوان الداكنتان، تلك التي يخالطها رماد الحذر، تحدقتا فيها بحدة، تضيقان شيئًا فشيئًا، وكأنهما تفحصانها، أو حتى… تدينان وجودها. ثم لمع بريق خافت في تلك النظرة، تلاه ابتسامة خفيفة على شفتيه.
رايموند استعاد هدوءه، وأومأ لها بتحية بسيطة.
ربما لم يتعرف إليّ… كم بدت هذه الأمنية التي راودتها منذ دقائق، ساذجة ومضحكة الآن. ردّت أليكسيا التحية بأدب، وفي داخلها سخرية مُرّة من نفسها.
كيف لا يتذكرني؟ أنا ذلك الشائب الوحيد في حياته المثالية، الذكرى التي لا تُمحى، وإن أراد.
“هل أنتِ المسؤولة عن هذا المتجر؟”
قاطعتها الشابة النبيلة، تلوّح بإصبعها بشكل غير مهذب، وكأنها تأمرها بالتقدّم.
“نعم، يا ليدي. يمكنك مناداتي الآنسة وينتربورن.”
نظرت النبيلة إليها بشك، لكنها بدت متلهفة للتخلص من إحباطها أكثر من إثبات هوية أليكسيا، فقالت:
“حسنًا، آنسة وينتربورن، سأوضح لكِ المشكلة. أولًا، يد هذه الموظفة… قبيحة جدًا.”
ابنة الكونت كانت في غاية الجدية.
“أريد شراء قفازات تليق بيدي. لكن، ما الفائدة إن كانت الموظفة التي ترتديها أمامي تملك أصابع قصيرة إلى هذا الحد؟ جربت مع موظفات أخريات، لكن بلا استثناء، جميعهن يفتقرن للمظهر اللائق. وبالطبع لا يمكنني ارتداء القفازات بنفسي، فقد تُخدش يداي.”
لم تكن شكواها الحقيقية متعلقة بجودة المنتج، بل بعدم وجود “يدٍ جميلة” ترتدي القفازات بدلاً منها. إنه ذاك الغرور الأرستقراطي الأجوف الذي غالبًا ما يُصادف عند أصحاب الطبقة الرفيعة. أليكسيا اعتادت على التعامل مع أمثالها—أولئك الذين لا يرون في الموظفين بشرًا مساوين لهم. لكن هذا لا يعني أن الأمر لم يثير في نفسها شيئًا من الغثيان.
“في هذه الحالة، هل تودين إلقاء نظرة على يدي؟ إن راقت لك، فسأقوم بعرض القفازات المناسبة لك بنفسي.”
مدّت أليكسيا يديها فوق الطاولة الزجاجية. المرأة النبيلة أمالت رأسها قليلًا، وأخذت تتأمل تلك اليدين المتوهجتين تحت ضوء المصابيح. كانت أصابعها طويلة، مستقيمة، وناعمة بلا انحناءات ولا ندوب.
أليكسيا ركّزت كل حواسها على الزبونة. لكنها لم تستطع منع نفسها من الشعور بوعيٍ حادّ تجاه نظرات الدوق التي كانت تتفحص يديها أيضًا. حاولت أن تبقي أصابعها مشدودة، لكنها ارتجفت قليلاً من التوتر. وبرغم أنها شعرت بذلك، رايموند لم يتكرّم حتى بمجرد إزاحة نظره احترامًا.
“أريني باطن يدك.”
وفجأة، ومن دون سابق إنذار، قامت النبيلة بطرق ظهر يد أليكسيا مرتين بمروحتها الرفيعة، كمن يتأكد ما إن كانت الجثة حية أم لا.
راقب رايموند ذلك السلوك الوقح بإمالة خفيفة لرأسه. عيناه تحرّكتا من يد أليكسيا إلى وجه المرأة، بانسيابية من يرصد ردود الفعل أكثر من الفعل نفسه.
أليكسيا كانت تملك قدرة على احتمال هذا القدر من الإهانة. لم تفقد ابتسامتها الهادئة، وسمحت للمرأة بتفحّص باطن يدها. وبعد أن أنهت فحصها، عقّبت الأخيرة ببرود، وهي تمط شفتيها:
“لا بأس بها. وإن كانت هناك ندبة صغيرة على أحد الأصابع.”
“جرح قديم، منذ زمن بعيد. شُفي تمامًا، والآن بشرتي نظيفة.”
“جيد. إذًا تفضّلي. بما أنكِ المسؤولة هنا، أعتقد أن بوسعنا الوثوق بذوقك، أليس كذلك؟”
“بكل تأكيد، آنستي.”
بابتسامة ودودة، أرسلت أليكسيا الموظفة التي كانت على وشك البكاء إلى غرفة الاستراحة. ثم شرعت بنفسها في ارتداء ما يقرب من عشرين زوجًا من القفازات، لتعرضها على هذه الزبونة المتطلبة. بدا أن الفتاة الأرستقراطية أعجبت بقفازَين على وجه الخصوص: أحدهما مخصص للفروسية، والآخر دانتيل مزخرف بالورود، يناسب المناسبات الخارجية.
“سآخذ هذين.”
كانت طاولة العرض غارقة في الفوضى، تغطيها القفازات بأشكال وألوان مختلفة. نظرت المرأة من علٍ إلى أليكسيا، التي كانت منشغلة بلف القفازات الجديدة لتغليفها، ثم قالت بنبرة لا تخلو من تهكّم:
“اختيار موفق. لم أتوقع الكثير، فالمتاجر الكبرى لا ترقى إلى مستوى بيوت الأزياء الفاخرة. لكن يبدو أن شراء الإكسسوارات منها لا بأس به فعلًا.”
“أشكرك، آنستي.”
ردّت أليكسيا بلطف، وهي تربط شريطًا أزرقًا حول العلبة. وفي اللحظة التي كانت تشدّ فيها العقدة بخبرة، تدخّل صوت منخفض:
“الآنسة وينتربورن.”
رفعت أليكسيا نظرها تلقائيًا، غير مصدّقة أن من ناداها بذلك هو هو. نظرت إليه، إلى ذلك الرجل الذي طالما كان عصيًّا على الفهم. وكان يحدق بها، بعينيه الخضراوين الداكنتين، بنظرة ثابتة لا تخلو من الإصرار.
ما إن تأكدت أنه قالها فعلًا—”الآنسة وينتربورن”—حتى أطرقت رأسها بخفة.
“أرجو أن تدلي سكرتيرتي إلى قسم الدفع. وسنقوم بحساب باقي المشتريات التي اختارتها الآنسة دوبينز باسمها. سيكون من الأفضل إن تم توصيلها مباشرة إلى منزلها.”
“يا لها من مفاجأة رائعة! أشكركم، يا صاحب السمو.”
أبدت المرأة سعادتها الغامرة، ووجنتاها احمرّتا بحياء رقيق.
هل هما عاشقان؟ أم بصدد أن يصبحا كذلك؟
تساءلت أليكسيا دون أن تدري، قبل أن تفزع من نفسها. كيف خطر لها أن تفكّر بهذا؟ استعادت توازنها، ثم نادت على أحد الموظفين القريبين. تولى الموظف إرشاد السكرتيرة، وغادر الاثنان إلى قسم المحاسبة.
ولأن الفتاة النبيلة أرادت استخدام قفاز الفروسية فورًا، اضطُرّت أليكسيا إلى إنهاء التغليف أمام ناظري الدوق نفسه. وعندما ناولته الصندوق بعناية، هو من استلمه نيابة عن السيدة.
“شكرًا لك.”
كلمات مجاملة بسيطة، لكنها محاطة بهدوء ثقيل، لم تنجح في التخفيف من توتر اللحظة. وقبل أن ينهي اللقاء، أضاف من جديد، بنبرة لا مبالاة، الاسم الذي تحوّل فجأة إلى عبء ثقيل:
“الآنسة وينتربورن.”
انحنت أليكسيا انحناءة خفيفة دون أن تلتقي عينيه. ثم سُمعت خطوات مغادرة بطيئة. وما إن ابتعد الاثنان، حتى عاد المتجر إلى صخبه المعتاد، بعدما كان الموظفون يراقبون بصمت ممزوج بالرهبة.
رفعت أليكسيا رأسها أخيرًا، وقد زال التوتر من ملامحها. ضوء الشمس المتسلل من السقف كان ينعكس على الزينة الداخلية، ليمنحها بريقًا كأنها مطلية بالذهب.
كانت هناك لحظة ما، زمن ما، حين بدت حياتها متلألئة هكذا أيضًا. لكنها لم تكن ذهبًا حقيقيًا… ولهذا، بَليت وتلاشت.
ليس كل ما يلمع ذهبًا.
ذلك الدرس تعلمته أليكسيا حين كانت تسكن قصر آل بيلسماير. حينها، لم تكن تُدعى “الآنسة وينتربورن”، بل “أليكسيا بيلسماير”.
وكانت تمضي صيفًا خانقًا، تملؤه الكراهية المتبادلة، تحت سقفٍ واحد مع رايموند.
وكل ذلك… كان نتيجة لزواج والدتها ثلاث مرات.
***
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 1"