في كَنَفِ والدي، كان ارْتِيَادُ الأَسْواقِ مجرد اِنْسِيَابٍ مُتَغَاضٍ. قائمة البُنُودِ السِّتَّةِ المُضْبَطَة كانت مُجَرَّدَ خَيْطٍ وَاهِنٍ يَنْفصِمُ عند أولِ فِتْنَةٍ بَصَرِيَّة.
كنتُ أَغْدُو وأَرْحَلُ في أروقة العرض، أَقْتَني ما تشتهي عيني، ولا يَعْتَرِضُ أبي سبيلي إلا فيما يمسُّ جَوْهَري السليم. وغالباً، كان يتخلى عن حَقِّ المَنْعِ، ليُبْدِعَ في إيجاد بَدِيلٍ صِحِّيٍّ مُدَبَّرٍ، فيصبح الاعتراض بعدها عُذْراً مُبرراً لا قيداً.
طوال تلك الحِقَبِ الغَضَّة، كانت عيناي مُعْفَاتَيْنِ من النظر إلى شَطْرِ السعر. لا أذكرُ مُطلقاً أنني سألت عن تَكْلِفَةَ ما اشتهيت، سواء كنت في كَنَفِ أبي أو بصحبة إخوتي وأعمامي وأخوالي. كنتُ أَستَملِكُ ما رغبتُ، ويبقى ثمنه سراً لا يعنيني. _ _____ _ _____ _ _____ _ _____ _ _____ _ _____ _ _____ _ _____ _ _____
ثم جاء ذلك اليوم، يوم الرحلة المدرسية. كنتُ أحمل مَصْرُوفَ الجَيْبِ الوَفِيرَ. كان دَيْدَنِي هو إِغْدَاقُ الهِبَة على كل طَالِبٍ لِعَوْنٍ؛ بَذَلْتُ لِصَاحِباتي، وكنتُ في نَشْوَةٍ لِرُؤيةِ شِرَائِهنَّ ما يَهْوَى الفؤادُ.
تجولتُ باحثة عن تِذْكارٍ مُتَمَيِّزٍ، ولاحت لي جَوْهَرةٌ بَصَرِيَّةٌ أخَّاذة: كانت الدُّمْيَةُ الخَاصَّةُ بـ شَخْصِيَّتِي المُفَضَّلَة. حملتها، وانْسَبَبْتُ نحو مَحَطَّةِ الحِساب. وضعتها أمام السيدة، وأَفْرَغْتُ كامل مَصْرُوفي المُتَبَقِّي.
حَسَبَتْ السيدةُ المبلغَ، ثم أَخْبَرَتْنِي بـ لَهْجَةٍ مُحَايِدَةٍ أن المَال لا يَكْفِي، وأنَّ أَرْبَعَةَ رِيَالاتٍ فقط هي الفَصْلُ النَّاقِصُ بيني وبين المُرَاد المُبْهِر.
أربعُ ريالاتٍ فقط.
نظرتُ إلى صديقاتي اللاتي اسْتَسْقَيْنَ مني، وداهمني فكرٌ آثم: “لو استرددتُ ريالاً من كُلِّ واحدة…” ثم اجتاحني الخِزْيُ كـ طُوفَانٍ صامت. هل سأبيعُ حَفاوةَ العطاء بثمن زهيد؟
قررتُ أن أَتَخَلَّى عن المُنى المُتَسَرِّبة. شَكَرْتُ السيدةَ، واسْتَعَدْتُ الرُّقَيْمَاتِ التي لم تُتِمَّ الصفقةَ، وأعدتُها إلى مَحْفَظَتِي بِـ وَجُومٍ. كنتُ أَشْخَصُ إليها، مُتَسَائِلةً في خَلَجَاتِ الروح: “لماذا حدث هذا؟ دائماً حين أكون مع أَبِيَّ يكفيني المَدَدُ، لماذا نَقَصَ الآن وأنا وَحْدِي؟”.
حين عدتُ، تغيرت بَوصلةُ عيني. في الرحلة التالية مع أبي، كنتُ أَتَقَصَّى كل سعر، أَحْجُمُ عن كل شيء يتجاوز خَمْسَةَ عَشَرَ رِيالاً.
سألني والدي عن هذا التَّشَدُّدِ المُسْتَجَدّ؛ فَأَفْضَيْتُ إليه بـ حادِثَةِ الإِفْلاسِ العَاطِفِيِّ والمَادِّيِّ.
حينها، طَبَعَ أبي قبلةً على جبيني، مُؤكداً أن صَنِيعِيَ كان صَائِباً نَبِيلاً. لكنه لَقَّنَنِي دَرْساً أَبْقَى: كان يَتَعَيَّنُ عليَّ أن أَسْتَشِفَّ مَعْلَمَةً لِـ التَّخَاطُبِ مَعَهُ، لِيُرْسِلَ المَعُونَةَ المَالِيَّة لِـ إتْمَامِ المُرَاد.
لقد كانت تلك لَحْظَةَ الفِطَامِ عن رَغَدٍ مُتَناهٍ، نحو إدراك قيمةِ السَخاءِ المَحْفُوظِ.
التعليقات لهذا الفصل " 7"