أخذ نَفَسًا عميقًا ليُهدّئ نفسه قليلًا، ثمّ قال بصوتٍ أكثر هدوءًا:
“على كلّ حال… يبدو أنّكِ بحاجة إلى تنظيفٍ خاصّ.”
“تنظيف؟! لا أعلم ما هو بالضبطِ، لكنّه لا يبدو شيئًا مخيفًا، صحيحٌ؟ أليس كذلك؟”
أمام الكلمة الغريبة، والوجَه الجدّي الذي اتّخذه تيتي، شعرتَ مييلا بالخوفِ دون أن تفهمَ.
“يعني أنّك ستستحمّين. وبشدّة. إلى أن تختفي كلّ الأوساخ، ولا يبقى سوى بشرتكِ الناعمةِ.”
“أوووه… لا أحبّ الأشياء التي تُؤلم.”
“لا تقلقي. لحسن الحظّ، أعرف خبيرًا ماهرًا في غسل البشر تنظيفًا خاصًّا. ولن يُؤلم أبدًا. بل ستشعرين بالانتعاش عندما تختفي كلّ الأوساخُ القديمةُ.”
وبينما يتحدّث، صفّق إيستين بيديهِ.
فخرج أحدهم من جانب الغرفة وكأنّهُ كان بانِتظارَ الإشارة.
“مرحبًا، أنا رئيسة الخادمات، أميليز.”
كانت استقبالاتها رشيقة ومُتقنة،
فقد سبق أن أخبرها الحارس آشيل بالوضعِ.
“آه!”
فزعت مييلا للحظةٍ من ظهِورها المفاجَئ،
لكن عندما ابتسمت أميليز بلُطفٍ، شعرت بالاطمئنانٍ وقالتَ بخجلٍ:
“أنا… مييلا.”
“نعم، الآنسة مييلا. هل تأتينَ معي؟ سأُرافقكِ إلى الحمّام.”
“حسنًا، اذهبي الآن، مييلا. سأنتظرُ هنا.”
كان تيتي يلوّح لها بإحدى يديهِ بخفّةٍ، بَينما الأخرى في جَيبهِ.
بعد قليل…
خرجت مييلا من الحمّام برفقةِ أميليز،
وقد أصبحَت مختلفةً تمامًا.
كلّ الأوساخ التي كانت تُغطّي جسدها اختفَت، وعاد إليها لون بشرتها الأصليّ المُشرق.
منذ وفاةِ أمّها، لم تَكن قد خَضعِت لاسَتحمامٍ حقيقيّ مثل هذا.
‘لم يكن كصابون المتجر الذي اعرفهُ… كان على شكل زهرةٍ، ورائحتهُ كانَت فعَلاً مثل الورد!’
احمرّت وجَنتاها.
الذي اختبرته للتوّ، كان يشبهُ الحمّام الذي وصفتُه لها أمّها في حكاياتِ الأميرات:
حوض زهرِيّ يفيض برغوةٍ عطرةٍ لا تنَتهي.
‘هل كنتُ أحلُم؟ كنتُ أظنّ أن مثل هذا لا يحدث إلا في قصص الجِنّيّات…’
ثمّ خطر ببالهَا وجهُ تيتي.
شعره الأسود، عيناهُ الخضَراء كلون أوراق الشجرِ، جسدهُ الصغيرُ النَحيل…
‘ربّما… تيتي هو جنيّ حقيقي؟ مظهرهُ يوحي بذلكَ تمامًا!’
صحيح أنّه لا يملك شخصيةً رقيقة، بل كان متحفّظًا حادّ النظراتِ…
لكنّه بدا كجنيٍّ من نوعٍ خاصٍ.
وفي خضمّ أفكارها، فُتحت أمامها خزانةٌ فيها ملابس جديدة.
فما إن لامستها، حتى شهقت بدهشة.
“واااه! كم هي ناعمة! كأنّها زغب كتكوت صغير!”
“ههه، أعجبتكِ؟”
ابتسمت أميليز برضا.
بدَتْ مييلا الآن كطفلةٍ جميلةٍ ولامعة، بعدما غُسلت جيّدًا وتغيّرت ملابسها.
“هيّا بنا. السيّد تيتي في انتظاركِ.”
سارت مييلا بخفّةٍ وهي تعبر الممرّ بخطواتٍ مبهجة، على عكس ما كانت عليهُ قبل قليلٍ.
فتحت الباب كما أخبرتَها الخادمة،
فرأت ظهر شخصٍ صغير يجلس على الأريكة يقرأَ كتابًا.
اقتربت بهدوء، وقالت وهي تحكّ خدّها:
“تيتي، هل انتظرتَ كثيرًا؟”
حينها فقط شعر إيستين بوجودها، فاسَتدار ينظرُ نَحوها…
وفجأة، انفتحت عيناهُ على وسِعهَما.
“……!”
حدّق فيها صامتًا، لدرجة أنّها شعرتَ بالارتباكِ.
“آه، أقصد… أنا الآن لا أبدو متّسخة، أليس كذلكَ؟
أميليز قامت بغسلي جيّدًا لدرجة أن الأوساخ اختفت تمامًا!
ثمّ انظر! أرتدي ملابس نظيفةً وناعمةً أيضًا!”
دارت مييلا في مكانِها بسعادةٍ،
كأنّها ترقص، رغم أنّ ما ترتديهُ ليَس فستانًا ملكيًا.
“ههه، ما هذا؟”
“كيف أبدو؟ جيّدةً، أليس كذلك؟”
كان وجهها يتلألأ كالبحرَ في ظهيرةِ صيفٍ.
‘ليست فقط جيّدةٌ… بل… جميلةٌ جدًّا!’
شعر إيستين بصدمةٍ لطيفةٍ.
ربّما لأنّها لم تَعُد منكمشةً كما كانتَ،
بل أصبحت مشرقةً بوجهها الواسع، وابتَسامتِها النقيّةُ.
لو كانت بالأمس أشبه بسنجابٍ متّسخٍ،
فهي الآن كأنّها سنجابٌ صغيرٌ نَظِيف بعد موسمَ تبديل الفِراء.
“ممم… لا بأس بكِ؟”
لم يستطع أن يُظهر إعجابه،
فهو طفل لا يجيدُ التعبيرَ عن المديحِ.
“حقًا؟ الحمد لله.
شكرًا لك، تيتي. هذا كله بفضلك.”
لحسن الحظ، مَييلا لم تكن من النوع الذي ينَهار من كلمةٍ حادّة.
بل إنّ عبارة “لا بأس بها” كانت بمثابةِ مديحٍ كبير بالنسبة لها.
كاد إيسْتين يقول: “أنتِ في الحقيقةِ جميلةٌ جدًّا!”
لكنّه اكتفى بهزّ كتفيهِ.
“أنتِ تبالغين يا مييلا.”
“أنا لا أبالغُ!
هذه أوّل مرّةٍ أرتدي فيها ملابس هَكذا،
وأوّل مرّة أجرّب فيها حمّامًا مليئًا بالرغوةِ!”
ابتسم وهو يراقب حماسها،
ثم نادى على الخادم الواقف جانبًا.
“أيّها السيّد الخادم.”
“نعم، سيّد تيتي.”
“أخبر كبير الطهاة أن يُحضِر الطَعام هنا، وليس في غرفةِ الطعام.”
“هل ستتناولُ الطعام مع الآنسةُ الصغيرة؟ وما الأطباق التي تودّونها؟”
أشار إيستين إليه ليقترب،
ثمّ همسَ له بشيءٍ ما.
“مفهومٌ. سأُبلغه فورًا.”
وبعد قليل، بدأت الخادماتَ بالدخولِ واحدةً تلوَ الأخرى.
امتلأت الطاولةُ فجأةً بطعامٍ ساخنٍ وفاخرٍ.
مييلا لم تعرف كيف تُعبّر،
ولم تخرج من فمها سوى “واو!” و”أوه!” كلّما رأت طبقًا جديدًا.
“غَلوووب…”
رأى إيستين بعينيه مييلا وهي تبلع ريقها.
عندها أشار للجميع أن يخرجوا.
“يمكنكم المغادرة الآن.”
“نتمنّى لكما وجبةً طيّبة. إن احتَجتم شيئًا، سـ نكونَ بالخارجِ.”
الآن، بقيت هي وإيستين وحدهما في الغرفة.
قالتَ مييلا بخجلٍ:
“تيـ-تيتي… ما كلّ هذا؟”
“كنتِ جائعةً، ألستِ كذلك؟
فكّرتُ أن تتناولي شيئًا قبل أن ترَحلي. اعتبريهِ شكرًا لما فعلتِ.”
لكن مييلا لم تُصدّق بسهولةٍ.
“حقًّا؟ هذا كلّه طعام؟! فيه لحم! وفيه كعكة!”
“أجل. باستثناء الصحون والمناديل… كلّ شيء هنا يُؤكَل.”
في العادة، كانت ستسألهُ ما مَعنى “مناديلٍ” أو “صحونٍ”،
لكنّ رائحةَ الطعامِ شَغلتها بالكاملِ.
ومع ذلك، لم تُمدّ يدها نحو الطعام فورًا.
“هل حقًّا يُمكنني الأكل؟… هل هذا لي أنا؟”
شعر إيستين بالضيقِ قليلاً،
لكنّه أحسّ أيضًا بالحزن،
فقد تخيّل نوع الحياة التي عاشتَها هذهِ الفتاة.
قبل قليل فقط، كانت تتناول خبزًا يابسًا بكلّ سعادةٍ.
“نعم، هذا كلّه لكِ.
كُلي ما تشائين.
السيد في القصر سمحَ لكِ بذلكِ.”
“آآه! حقًا؟!”
أمسكت الملعقةٍ بخفّة،
ونظرت إلى طبق الحساء الكريميّ.
كان الحساء يغلي،
ويحتوي على قطع من الدجاج والبروكلي،
ورُشّ فوقه الفلفل الأسود النادر.
في نظر مييلا، بدَت حُبيبات الفلفلِ وكأنّها ذهب!
بيدٍ ترتجف، رفعتَ الملعقةَ إلى فِمها…
“لذيذٌ! لذيذٌ جدًّا…! هـهق!”
وبعد لحظات، اغرورقَت عيناها بالدموعِ.
كانت دموع تأثّرٍ حقيقَي.
نظر إليها إيسْتين بوجهٍ يقول: “غريبةٌ هذهِ الفَتاة…”
“إن كان لذيذًا… لماذا تبكين؟”
“لأنّه لذيذ جدًّا…! لكن، تيتي… أنتَ، ألا تأكل؟”
قالت ذلك وقد ملأت فمها بقطعة خبزٍ دافئة.
كان يُمكنه أن يصحّح وضع ملعقتها،
أو يُعقّب على آداب المائدة كما يُفترض بأبناء النبلاء…
لكنّه لم يفعل.
فوجهها الذي انغمر في السعادةِ،
كان يستحقّ أن يُتركَ كما هو.
“سأبقى أشاهدكِ تأكلين.
كلّي على مهلكِ.”
كأنّ رؤية مييلا وحدها كانت كافيةً ليشعرَ بالشبعِ.
التعليقات