.:
الفصل 34
يُورهان فالوار. كان رجلًا لا يتزعزع بسهولة أمام أيّ ظرف.
لقد كان ربّ عائلة الدّوق، والسّدّ الذي يَتقدَّم دومًا ليتصدّى للعواصف التي تُهدِّد العائلة.
كان يمتلك قلبًا قويًّا، إلى حدّ أنّه عندما حلّت اللعنة على ابنه، لم يُذرف دمعة واحدة، وكتم شعوره بالحزن العميق بقلبٍ من فولاذ.
“هُه.”
لكنّ هذا… كان وضعًا مذهلًا بما يكفي ليُربك حتى رجلاً حديديًّا مثله.
”يعني… هذه الطفلة الصغيرة هي كنّتي المستقبليّة؟ هل تسخر منّي الدنيا؟”
لكن، مهما فركَ عينيه، لم يكن هذا حُلْمًا، بل حقيقةً واضحةً.
راح يُورهان يُراقب الطفلة أمامه بعينَيه الزّرقاوَين بدقّة، بنظرته الحادّة التي تُشعر النّاس بالرهبة دون سبب.
توقّع أن ترتعد الطفلة خوفًا أو تهرب، لكن على عكس ما توقّع، نظرت إليه بثبات.
“أ-أنا اسمي مييلا! حضرة الدّوق. يُسعدني لقاءُكَ…!”
كانت تبدو متوتّرة قليلًا، لكنّها لم تستطع إخفاء نظراتها البريئة والمضيئة.
وإن استمرّ النّظر إلى تلك العيون، شعر بأنّه سينجذب إلى عُمقها فجأةً!
‘هذا… خَطِر.’
دون أن يشعر، أبعد يُورهان نظره عنها. ثمّ بدأ يسترجع ما جرى قبل أيّام.
”سيّدي، وصلَت رسالة عبر جهاز الاتّصال.”
”مِمَّن؟”
”المرسلة هي السيّدة.”
”ريجينا أرسلت رسالة؟”
كانت من النوع الذي لا يُراسل إلا عند الأمور الطّارئة، لذا تجهّم وجه يُورهان على الفور.
”وما محتوى الرسالة؟”
”الأمر هو…”
تلفّت الخادم حوله بحذر، ثمّ خفَض صوته وقال:
”اللّعنة الّتي أصابت العائلة قد زالت، والسيّد الصغير استعَاد صحّته.”
”ماذا؟”
ظنّ يُورهان أنّه سمع خطأً، فقد بدا له الأمر غير معقول.
لكنّ ما صدمه حقًّا كان ما قِيل بعد ذلك.
”وأيضًا… هناكَ كنّة جديدة.”
”ماذا؟ ما معنى هذا؟”
”كـ… كما قلت تمامًا. ويبدو، على الأرجح، أنّ بين الخبرين صلة. لكن السيّدة قالت إنّها ستشرح بالتّفصيل عند عودتكَ إلى القصر.”
حتى الخادم الذي نقل الرّسالة بدا مرتبكًا جدًّا.
سادت لحظة صمت بين الرّجلَين. ثمّ تكلّم يُورهان، وقد ارتسمَت على وجههِ علامات الحيرة الشّديدة:
”سأعودُ إلى القصر. حالًا. استعدّوا.”
”أمركَ.”
منذ تلقّيه الخبر الطّارئ في العاصمة إلى لحظة عودته للقصر، استغرقت الرحلة يومَين لا أكثر.
كم من الأفكار داهمته في طريقه؟
‘هل حقًّا زالت اللعنة؟’
بدأ قلبه ينبض بالأمل، لكنه ما لبث أن تدارك نفسه:
‘لا تتعجّل، فقد يكون كذبًا.’
خطر في باله احتمال سيّء: ماذا لو استغلّ من أطلقوا اللّعنة غيابه، واستولَوا على القصر، وأجبَروا ريجينا على إرسال رسالة مزيّفة؟
مع أنّها فرضيّة سخيفة، إلا أنّه لم يشأ أن يُهمل احتمالًا واحدًا، حتّى الأسوأ.
“لكن… تبيّن أنّها كانت حقيقيّة.”
إنّه أمر يصعب تصديقه فعلًا. لعنة أرّقت العائلة طَوال العُمر، تختفي فجأة كما يذوب الثلج؟
ومُزيل اللّعنة ليست إلّا هذه الطفلة الصغيرة أمامه؟
بل، وهي خطيبة ابنه المُستقبليّة أيضًا!
‘ما الذي حدث بحقّ السّماء في غيابي؟’
لو سألَه أحدهم من قبل: “وماذا لو حصل هذا؟”، لَردّ عليه قائلًا: “كفّ عن التّفاهات.”
لكنّ كلّ هذا قد صار حقيقة!
“همم…”
أطلق يُورهان تنهيدةً خفيفة. حاجباه القويّان وفكّه الحادّ ونظرته الحادّة بدَت وكأنّها ترتجف قليلًا.
وجهه عبّر عن شيءٍ من عدم الرّضا.
شعرت مييلا بالتوتّر الشّديد.
‘أيعقل… أنّه لا يُحبّني لأنّني فتاةٌ فقيرة بلا قيمة؟’
لكنّ سبب امتعاضه لم يكن ما ظنّتْه، بل…
“إنّها نحيلة وصغيرة جدًّا.”
“ماذا؟”
تفاجأت مييلا ولم تفهم أنّه يقصدها. سرعان ما هزّ يُورهان رأسه، وهو يقطّب حاجبَيه.
“من غير اللّائق أن تكون زوجة وريث عائلة قالْوَار النبيلة هزيلة هكذا.”
“……!”
كلمة “غير لائقة” غرسَت نفسها في أُذُن مييلا.
رغم أنّه جرحها دون قصد، فإنّ يُورهان لم يُلاحظ ذلك، بل استمرّ بالكلام.
“صحيح أنّ إيستين صار ضعيفًا بسبب اللّعنة، لكنّ أفراد عائلة فالوار في الأصل ينبغي أن يكونوا أقوياء جسدًا وروحًا.”
“إذًا، أنا…”
كانت تريد أن تقول: “أنا، رغم ما أبدو عليه، صحّتي جيّدة! وأجيد الأعمال الزراعيّة والأشغال المنزليّة!”… لكنّ صدمتها جعلت صوتها لا يخرج.
حينها، التفت يُورهان فجأة نحو كبير الخدم، دايسِن، وأمره قائلًا:
“أطعِمْها جيّدًا.”
وبوجه جادّ، رسميّ، حازم، بدأ يُصدر أوامر متعدّدة:
“أطعِمْها ثلاث وجبات يوميًّا من خبزٍ طازج، ولحوم دسمة، وخضراوات وفواكه طازجة.”
“أمركَ!”
وما إن انحنى الخادم وغادر، عاد نظر يُورهان إلى مييلا.
“إذًا، اسمُك مييلا.”
كانت نبرته ألطف قليلًا من ذي قبل، بالكاد يمكن تمييزها، لكنها موجودة.
“نـ-نعم.”
لم يكن يبدو أنّه سيطردها. راحت مييلا تُراقب تعبيرات وجهه، وتنهدت براحة خفيّة.
‘هل… هل هذا يعني أنّني بأمان؟’
كانت لا تزال تشعر بالخوف منه، لذا انخفض صوتها قليلًا.
وعندما أدرك يُورهان أنّه تسبّب بتوتّرها، سارع إلى تلطيف الجو.
“أعتذر، لم أُجب على تحيّتكِ في البداية. أنا يُورهان فالوار.”
“……!”
أشرقت ملامح مييلا. الدّوق عرّفني باسمه بنفسه!
“أ-أممكنني أن أُناديك بـ سيد يُورهان؟”
ليس لأيّ سبب خاص، بل لأنّها كانت تنادي الدّوقة ريجينا بـ ” سيدة ريجينا”، وأرادت أن تكون عادلة في النّداء.
“اللقب؟ كما تشائين.”
أومأ يُورهان بالموافقة بسلاسة. وهذا وحده جعل مييلا تشعر أنّ المسافة بينهما تقلّصت، ففرحت.
ثمّ ابتسم يُورهان أيضًا، وغيّر ذلك من ملامحه الجادّة تغيّرًا تامًّا.
“رغم أنّه متأخّر، إلّا أنّني أرحّب بكِ في قصر فالوار. لنتعايش سويًّا على خير.”
“نعم! أشكركَ يا سيد يُورهان!”
أجابت مييلا بحماسة، عاجزة عن كتم مشاعر الفرح الّتي اجتاحتها.
* * *
“فُووو…”
بعد لقائها مع يُورهان، ولمّا أصبحت وحدها مجدّدًا مع إيستين، استطاعت أخيرًا أن تُطلق أنفاسها. خرجت كلمات قلبها دون قصد:
“لكنّني سعيدة أنّ الدّوق… لا، سيد يُورهان لم يكرهني.”
“ماذا؟ ومن ذا الّذي قد يكرهكِ؟”
رفع إيستين حاجبَيه بدهشة. لو أنّ هناك أحدًا يكره فتاة بريئة مثلها بلا سبب، فلا بدّ أنّ قلبه قلبُ شيطان.
“في الماضي، أهل القرية لم يُحبّوني كثيرًا…”
“هم الّذين كانوا سيّئين. وتخمينك خاطئ. والدي لا يكرهكِ، بل أعجب بكِ كثيرًا.”
“حقًّا؟”
نظرت مييلا إليه بتعبير متردّد، فأجابها إيستين بصوتٍ واثق:
“أكيد. أبي لا يتفوّه بكلام فارغ. ولا يُحسن ضيافة أحدٍ لا يعجبه.”
“أنا مرتاحةٌ جدًّا.”
ضحكت مييلا بسعادة، فقد بدّد كلامه كلّ مخاوفها.
لا أحد هنا يكرهها كما ظنّت، وهذا وحده كان كافيًا ليغمر قلبها بالفرح.
“لكن، مهلاً… أين نحن؟”
لم تُدرك مييلا تغيّر المكان من حولها إلّا بعدما تاهت في الحديث مع إيستين.
في الجانب الأيمن من الرواق، نافذة زجاجيّة عريضة تغمر المكان بالشّمس، وفي الجانب الأيسر، لوحات مُعلّقة على مسافات متساوية. منظرٌ يُثير الفضول.
“هذا الرواق يُعلّقون فيه لوحاتٍ لأسلاف عائلة فالوار في شبابهم.”
“……!”
التعليقات لهذا الفصل " 34"