.:
الفصل 32
“تبدو كأنّها أكثر من مئة قطعة… ستصبح ضيّقة علي قبل أن أرتديها حتى.”
وفي النهاية، لم تستطع مييلا أن تمنع دموعها وهي تحدّق بإيلينا. لكنّها شرحت لها بلُطف:
“لا بأس، آنِسة مييلا! ملابسي تُصنع يدويًّا بالكامل، لذا لا يمكنني إنجاز أكثر من ثلاث قطع في الأسبوع!”
“آه، إذًا…”
“نعم، الفساتين في دفتر التصاميم هذا سأرسلها إليكِ تدريجيًّا على مدار نصف عام. وسأزوركِ كلّ شهر لأخذ قياساتكِ من جديد.”
للملاحظة، عدد الفساتين في دفتر التصميم كان خمسين فستانًا فقط. لم تكن مئة أبدًا! لكنّ مييلا شعرت وكأنّها مئة فعلًا.
وبالنسبة لسيّدات النبلاء المنحدرات من عائلات مرموقة، فخمسون فستانًا يُعدّ الحدّ الأدنى والأساسي.
من الواضح أنّ مييلا ما زالت لم تدركَ تمامًا واقعها الجديد.
‘أعتقد أنّني سأرى هذا الوجه المندهش مثل السنجاب كثيرًا من الآن فصاعدًا.’
شعر إيستين بالسعادة لفكرة أنّه سيُشاهد هذا التعبير اللطيف مرارًا.
“سأنصرف الآن. أراكِ لاحقًا.”
وأخيرًا غادرت مصمّمة الملابس إيلينا. وبدأت مييلا تلتقط أنفاسها لأول مرة.
“فيوو…”
“لم ينتهِ الأمر بعد، مييلا.”
جاءها صوت إيستين كالصّاعقة من الخلف، وفيه شيء من المزاح الخفي.
“مـ-ماذا؟!”
“علينا أيضًا أن نطلب ملابس المنزل، والقبعات، والأحذية، وكلّ الملحقات. أم تريدين التجوّل حافية القدمين؟”
“لـ… لا…”
أجابت مييلا وهي تهزّ رأسها بضعف. بدأت تشعر بأنّ قواها تتسرّب منها كليًّا.
حتى العمل في الحقل طوال اليوم لم يُرهقها إلى هذا الحد.
عندها، همس إيستين بكلمات مشجّعة:
“تحمّلي قليلًا فقط. وقت الغداء قد اقترب.”
“غـ-غداء؟!”
وفورًا، عادت الحياة إلى عينيْ مييلا. حتى لعابها سال بشكل انعكاسي.
‘يا لها من فتاة بسيطة.’
ضحك إيستين في سرّه.
* * *
‘إنّه ناعم جدًّا لدرجة أنّ كلّ خطوة تُشعرني بغرابة! لا بدّ أنّ الحذاء الجديد لن يُسبّب بثورًا حتى إن كان جديدًا تمامًا.’
كان الأمر غريبًا بعض الشيء أن ترتدي حذاءً جلديًّا بعد أن اعتادت أحذية خشبيّة صلبة.
والجدير بالذكر أنّ الحذاء القديم الذي كانت ترتديه هو نفسه الذي اشترته لها أمّها قبل وفاتها.
لم تكن قد رمتْه رغم أنّه بات ضيّقًا ومُهترئًا، ليس فقط لأنّها لا تملك مالًا، بل لأنّها كانت ترغب في الاحتفاظ بأيّ ذكرى تربطها بوالدتها.
‘حين لبسته لأول مرّة، دخلت شظيّة خشب في قدمي وتورّمت كثيرًا. أعتقد أنّني كنتُ أمشي بالطريقة نفسها حينها…’
وبينما كانت تستغرق في الذكريات، بدأت مييلا تمشي بخطوات صغيرة في أرجاء الغرفة. عندها علّق إيستين من بعيد:
“تبدين وكأنّك فرخ دجاج خرج لتوّه من البيضة.”
“فـ، فرخ دجاج؟ ماذا تقصدُ…؟”
ظنّت للحظة أنّه يعاتبها لأنّ تصرّفها لا يليق بابنة الأرستقراطيّين. لكنّ إيستين ابتسم وأضاف:
“أعني أنّكِ… لطيفةٌ.”
“……!”
انفتحَ فم مييلا بدهشة. لم تكن معتادة على أن يُقال لها إنّها لطيفة من شخص ألطف منها!
في الحقيقةِ، هذا أدهشها.
لم تكن تدري أنّها تضعفُ بهذا الشِكل أمام المديحِ.
في كلّ مرة تسمعه، كانت تشعر أنّها على وشك أن تطير من الفرح.
“يا لها من خصلات جميلة، مثل شاي الحليب المركز! هذا اللون نادر فعلًا. سيلائمك الوردي الفاتح، والأزرق السماوي، وحتى الأخضر الباهت!”
ومع مديح مصمّمة القبّعات، لم تستطع شفَتا مييلا إلا أن ترتجفا بابتسامةٍ خجوَلةٍ.
‘واو، هذه أول مرة يقول لي أحد إنّ شعري جميل. لطالما سخروا منه وقالوا إنّه يشبهُ القش.’
بالطبع، حين كانت أمّها حيّة، كانت تمدحها دائمًا.
لم يكن هناك شيء فيها إلا وكانت تقول إنّه جميلٍ ومحبوب.
”يا ابنتي، حتى ضحكتكِ كأنّها ضحكةُ ملاك، أليس كذلك؟ هممم؟”
لكن بعد وفاتها، لم تتلقَّ أيّ كلمة طيّبة.
فقط النقد والكلمات القاسية.
ولعلّ هذا ما جَعلها تنَكمشُ أكثرَ فأكثر.
على أيّ حال، للكلمات الجميلة سحرٌ غريب.
الخدّان يحمّران، وتشعر فجأة بأنّك تريد أن تهربُ من المكان، ورغم ذلك تتمنّى أن يُقالَ لكَ المزيد.
‘آه، لا يجب أن أعتاد على هذه المشاعر…’
في لحظات مثل هذه، عندما يبدأ قلبها في الذوبان، كانت تحاول تذكير نفسها بالحقيقة:
حين تعود البطلة لاحقًا، عليها أن تُسلّم مكانها كامرأة نبيلة في عائلة فالوار. لا يجب أن تتعلّق كثيرًا بهذا القصر. لكن، رغم هذا العزم…
بمجرّد أن دخلت إلى صالة الطعام، نسيتَ كلّ شيء.
“……!”
كان طاولة الطعام أمامها أطول بمرّتين أو ثلاث من تلك التي في الفيلا.
وثريّات تتدلّى من السقف مثل النجوم، تجعل المكان يبدو كعالم آخر تمامًا.
“و، واااااو…!”
اتّسعت عيناها البنيّتان إلى أقصى حد، وفغر فمها من الدهشة. صدى صوت تعجّبها تردّد في أرجاء القاعة الضخمة.
وااااو- وااااو- وااااو-
“همم. تبدين مذهولةً فعلًا. هل فاجأكِ هذا القدر؟”
بدت ردة فعل مييلا غريبة بالنسبة لإيستين.
فبالنسبة له، هذا الحجم من صالة الطعام يُعتبر عاديًّا.
أما صالة الطعام في الفيلا، فكانت بسيطة للغاية.
قاعة الولائم في القصر الإمبراطوري أكثر فخامة بكثير.
‘لو اضطررنا إلى زيارة القصر، يجب أن أنتبه. قد تصاب مييلا بالإغماء من شدّة المفاجأة.’
استجمعت مييلا شجاعتها وسألت بتردّد:
“هـ-هذا المكان كلّه… مخصّص للطعام فقط؟! حقًا؟!”
“بالطبع. أحيانًا نستخدمه كقاعة ولائم أو لاجتماعات كبيرة.
يتمّ استدعاء عشرات الخدم ويجلسون على الجانبين، فيما يجلس والدي – ربّ العائلة – على ذاك المقعد هناك.”
وأشار إيستين إلى الكرسي في نهاية الطاولة، والذي كان أكثر فخامة من سائر الكراسي.
“أما نحن، فنجلس هنا، مييلا.”
وسحب لها الكرسي المجاور للمقعد الرئيسي. ثم جلس هو في المقعد المقابل.
“في بعض الأحيان، نتناول الطعام كعائلة.
في هذه الحالات، يجلس والدي ووالدتي على الكراسي المجاورة للمقعد الرئيسي، متقابلين.
ونحن نجلس بجانبهما. فهمتِ؟”
كان إيستين يُعلّمها الأساسيات حتى لا تُخطئ من غير قصد.
مييلا فكّرت للحظة قبل أن تهمس:
“أمم، فهمت. لكن، إيستين… أليس الجلوس على هذه الطاولة الطويلة، نحن فقط، يبدو… وحيدًا بعض الشيء؟ ألا ترى ذلك؟”
“ممم، لم أفكر في الأمر من هذا الجانب من قبل…”
هزّ إيستين كتفيه. فمشاعر مثل “الوحدة” كانت غريبة عنه.
‘رغم أنّها بدت دائمًا قويّة حتى عندما تكون بمفردها… يبدو أنّها لا تحبُ الشعورَ بالوحدةِ.’
أمرٌ لم يكن يتوقّعه. كأنّها نبات لا يستطيع العيش دون دفء وحنان.
وعندها، عقد العزم مرّة أخرى: عليه أن يحرص على أن لا تشعر بالوحدة، وأن يرافقها يومًا بيوم.
في هذه الأثناء، دخل الخدم وهم يدفعون العربات الصغيرة.
“المقبّلات. حساء المأكولات البحرية بالكريمة المصنوعة من حليب الماعز الطازج.”
“واااه!”
عيون مييلا لمعت. المأكولات البحريّة!
سمعت عنها فقط من أمّها، ولم تتذوّقها يومًا. بل لم ترها حتى.
فقد قضت كلّ حياتها في قرية صغيرة بين الجبال.
وكانت تتخيّل شكل البحر فقط في أحلامها.
‘حتى هذا القصر لا يبدو قريبًا من البحر تمامًا…’
فكّرت مييلا في الأمر. كيف يُمكن أن يحصلوا على مأكولات بحريّة طازجة هنا؟
‘آه، ربما… بفضل السحر؟!’
وسرعان ما وجدت الجواب بنفسها.
فكلّ ما بدا لها مستحيلًا في هذا القصر كان مرتبطًا بالسحرِ.
“هاه… لذيذ…!”
ارتسمت الدهشة على وجهها وهي تتذوّق أول ملعقة من الحساء.
ظنّت أنّه سيكون مالحًا جدًّا أو ذا رائحة كريهة.
لكنّه كان في غاية النعومة، والكريمة تذوب في فمها!
“آنِسة مييلا، إن احتجتِ أيّ شيء، ما عليكِ إلا هزّ الجرس لندخل فورًا.”
ثم انسحب الخدم وهم يجرّون العربات الفارغة.
لقد كانت هذه بادرة من إيستين، حتّى لا تُصاب مييلا بالتوتّر من وجود الخدم طوال الوقت.
وعندما تأكّدت مييلا من أنّهما وحدهما، سألت بحذر:
“بالمناسبةِ، إيستين… هناك شيء أودّ أن أسألكَ عنهُ.”
التعليقات لهذا الفصل " 32"