“ماذا؟”
تفاجأ إيستين بشدّة.
”كيف عرفتِْ؟!”
في تلك اللحظة، ابتسمت الفتاة ابتسامةً محرجةً، وقالت:
“في الواقع، لأنّ وجهكَ غريبٌ عليّ.
وسمعت مؤخرًا أن نبَلاء كبارًا انتقلوا إلى القصر خلفَ التلِ.
فخطرَ لي أن أسَأل فقط.”
“آه، فهمتُ…”
أومأ إيستين برأسه وقد بدا عليه بعضُ الاقتناعِ.
رغم ملامحها البريئةِ، كان استنتَاجها حادًّا بطريقةٍ مدهشةٍ.
‘قالت والدتي إنّ قصرنا قد بُنِي في أهدأ قريةٍ في الإمبراطورية.’
كم كان الوضع غريبًا!
ففي أراضي الدوقية، اسم “فالوار” وحده كان كفيلًا بإرعابِ الجميعِ.
أما هذه الفتاة أمامهُ، فقد خمّنت أنهُ من طبقةِ النبَلاء،
ورغم ذلك تحدّثت معهُ وكأنه جارٌ عادي.
ذلك التناقضُ كان يبعثُ على الضحكِ.
‘هذا… ممتعٌ.’
عادةً في مثل هذا الموقف، كان ليصرخ قائلًا:
“أنا وريث دوق فالوار، ألا تحسنين اختيارَ ألفاظكِ؟”
لكن الغريب… أنه لم يشعر بالرغبةِ في فعلِ ذلكَ الآن.
صفاءُ الفتاةِ الغريبُ جَعل إيستين أكثَر هدوءًا مما اعتادَ.
‘هذا ليس من طبعَي أبدًا.’
فهو معروفٌ بطبعه الحادّ،
وجسده المريض بسبب اللعنة جعله دائم الانفعال.
ورغم سمعته السيئة المنتشرة في العاصمة والدوقية،
يبدو أنّ هذه القرية لا علم لها بشيء من ذلك.
‘عدم معرفتهم لي… رُبّما أمرٌ جيّد.’
حين أرسله والده، دوق فالوار، إلى هنا ليُقِيم،
أوصاه بألا يكشف هويّته تحت أي ظرف.
ولهذا قرّر إيستين أن يُخفي اسمهُ ونسبهُ.
فقال بعد تفكيرٍ:
“صحيح، أنا أعيشُ في القصِر خَلف التلِ.
لكن لستُ من طبقةٍ مرموقة، فلا تسئي الفهم.”
“أوه! لا، لم أقصدَ ذلك!”
شهقت مييلا واتّسعت عيناها، ولوّحت بيديها في ارتباكٍ.
في تلك اللحظةَ، خطرت في ذهنهِ فكرةٍ:
‘تبدو كالسنجاب.’
وجنتاها الممتلئتان، وشعرها البنيّ،
ذكّرته تمامًا بالسنجابِ الصغير الذي رآه في حديقةِ القصر بالأمسِ.
فجأةً، قالت مييلا:
“هل أنتَ جائع؟ أتحبّ أن تأكل شيئًا؟”
ثم أسرعت إلى الطاولة وفتحت لفافة صغيرة.
بداخلها:
بضعة أرغفة من الخبز اليابس،
ونقانق مغلفة بصلصة مختلطة بشكلٍ فوضوي.
كان منظر الطعام كافيًا لسدّ الشهية،
فقال إيستين تلقائيًّا:
“لا، لا أشعر بالجوع.”
لكن في اللحظةِ نفَسها…
قررر….
صدر صوتٌ محرج من معدته.
‘اللعـ… لعنة!’
خدعتهُ بطنهُ.
احمرّ وجهه بشدّة وأراد أن يدفن رأسهُ خجلًا.
‘لماذا الآن بالذات؟!’
والآن، سيبدو كأنه يرفض الطعام تكبّرًا،
رغم أنّه لا يحبّ التفاخر أبدًا.
قالت مييلا، وهي تحاول التداركَ:
“آه، آسفة. ربما هذا الطعام لا يناسب ذوقك.َ
هل تحبّ الفاكهة؟ لديّ بعض التفاح قطفته بالأمس من خلف الجبل.”
واتّجهت إلى المطبخ.
بعد قليل، عادت بتفاحتين حالتهما… سيئة.
كانتا مليئتين بالبقع والرضوض.
ضاقَ بصرُ إيستين عند رؤيتهما.
‘هذه ليست تفاحات قُطِفت بالأمس بالتأكيدِ.’
انتبهت مييلا إلى ردّ فعله، فأسرعت لتوضيح الأمر:
“أم، لا تقلق! هي ليست فاسدة.
سقطت من السلّة حين كنت أقطفها، ثمّ غسلتها في النهر.
إنّها آمنةٌ تمامًا!”
“هممم…”
تخيل إيستين الفتاة وهي تتسلّق الأشجار بذراعيها النحيفتين.
ثم لاحظ اللون الأزرقَ على ذراعِها.
“هل أُصبتِ حينها؟”
“آه؟ هاها… نعم، رأيتَه ، واضحٌ ، اليس كذلك؟”
ضحكت وهي تحكّ خدّها خجلًا.
“أنا عادةً أتسلّق جيدًا، لكن…
حتى القردُ يقع أحيانًا من الشجرة، كما يقولون!”
نظر إليها بتعجّب.
لم يسمع بهذا المثلِ من قبل.
“لم أسمع أحدًا يقول ذلك.”
“قالته لي أمّي… قبل أن تموتَ.”
تجمّد لسانهُ.
لو قال أيّ شيءٍ آخر، لأخطأ بَحقّها.
فقال على الفور:
“أنا آسفٌ.”
“لا، لا بأس… إذًا، لا تريد أن تأكلَ شيئًا الآن؟”
“نعَم.”
أومأ برأسهِ.
فقالت مييلا بحذرٍ:
“هل يمكنني أن أتناول طعامي وَحدي؟”
“كما تشائين.”
“حسنًا، شكرًا!”
بدأت تأكل الخبز الصلب بثباتٍ.
بدت وكأنّها سنجاب يحمل جوزةً ويقضمها بحرصٍ.
ضحك إيستين داخليًّا.
‘إنها تأكله بشهيّةٍ حقًّا، رغم أنّه يبدو كالصخرِ.’
وخطرت له فكرة غريبة:
‘أريد أن أقدّم لها خبزًا طريًّا حقيقيًّا.
أريد أن أرى وجهها حين تتذوقهُ.’
‘إن ذهبتُ إلى القصر الآن، سأقدرُ على ذلك بسهولة.
حتى لو لم يكن فاخرًا مثل طعام القصر الكبير.’
‘نعم، هذا أقلّ ما يمكنني فعلهُ مقابل إنقاَذها لي.’
فكّر للحظة… ثم قالَ:
“أعتقد أن الوقت قد حان لأعود إلى القصر.”
“هاه؟! بهذه السرعة؟ هل أصبحتَ بخير؟”
اقتربت منه بقلقٍ، تحدّق في وجهه.
كان شعور الاهتمام لطيفًا.
وضع يده على جبهتهُ، وقال:
“لستُ بخير تمامًا، لكن لديّ طبيبٌ خاصّ في القصر.”
“طبيبٌ خاص؟”
استغربت الكلمة.
فقال موضّحًا:
“أي: طبيبٌ يعالجني وحدي فقَط.”
“آه، فهمت. صحيح، البقاءُ في القصرِِ أفضلُ لكَ.”
أومأت وهي تبتسم،
فاستعدّ ليدعوها لمرافقته.
“إذًا، لما لا تأتي معـ”
“سأذهب لأُحضَر أحدًا من القصر ليساعدك!
شخصًا قويًّا يستطيع حملك!”
“ماذا؟!”
كان يخطّط لأن تُرافقه،
لكنّ خطّته باءت بالفشلٌ.
‘تبًّا… كيف أقنعها أن تأتي؟’
فكر لوهلة، ثم قال:
“لكن… لو ذهبتِ وحدكِ، فلن يدخلكِ الحارسُ.”
“حقًّا؟!”
اتّسعت عيناها بصدمةٍ.
ابتسم قليلاً.
“طبعًا. الغرباَء لا يُسمح لهم بالدخولِ.
وإن غبتِ وانهرتُ مجددًا؟ ماذا سيكون مصيرَي؟”
كان كلامهُ أقرب إلى تهديدٍ مبطّن،
لكنّه نجحَ.
كادت تبكي من الحيرةِ:
“إذًا… ماذا أفعلُ؟”
“هذا سهلٌ. اسنديني بكتفكِ.”
مدّ يدهُ إليها.
أمسكت بها بلا وعي،
ثم فوجئت بمدى نعومتها.
‘كم يدُه ناعمة… على عكسي تمامًا.’
خشيت أن يكره ملمس يدها الخشنة.
لكنّه لم يُبعد يده،
بل أمسكَ بها بإحكامٍ.
“ماذا تنتظرين؟ لنذهب معًا.”
ثمّ تقدّم، يقودها وكأنّه معتادٌ على ذلكَ،
رغم أنّه أقصر منها برأسٍ كاملٍ.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"