حتّى بعد نقله إلى غرفة النّوم، لَمْ يُفِقْ إيستين لفترةٍ طويلة.
وقد شخَّص الطّبيب الخاص حالته بوجهٍ جادّ.
“يبدو أنّ أعراض السيّد الصّغير قد ساءتْ أكثر في هذه الأثناء.”
وبما أنّ إزالة أصل اللّعنة أمرٌ مستحيل، كانوا يعالجون الأعراض النّاتجة عنها من حينٍ لآخر فحسب.
أمّا الآن، فقد كان جسد إيستين يغلي من شدّة الحُمّى.
“بعد الفحص، تبيّن أنّ علامة اللّعنة أصبحتْ أكثر قتامةً من ذي قبل.”
على ظهر إيستين، كانت هناك زخرفةٌ غريبة. لم تكن وشمًا ولا رسمًا، بل كانتْ علامةَ لعنةٍ بحقّ.
اللّعنة تنمو تدريجيًّا بينما تنهشُ الجسد الذي اتّخذتهُ وعاءً لها.
وإذا تعرّضَ المرءُ لصدمةٍ جسديّة أو نفسيّة، فإنّها تتسلّل من خلال ضعف الجسد لتغرسَ جذورَها أعمق.
“إنْ استمرّ الوضع على ما هو عليه، لا أدري إلى متى يستطيع السيّد الصّغير تحمُّل ذلك.”
وللعِلم، فإنّ الحُمّى كانت دليلًا على أنّ الجسد يُقاومُ اللّعنة.
وعلى الرّغم من استخدام منشفةٍ مبلّلة بماءٍ بارد وجرعات تبريدٍ فعّالة، كان جسدهُ لا ينفكّ فيَسخن مجدّدًا.
“لقد جئنا إلى مكانٍ هادئٍ للراحة عن عمدٍ، ومع ذلكَ وصل إلى هذه الحالة؟”
هزّتْ ريجينا رأسها بأسى.
ثمّ سأل الطّبيب الخاصّ بتردّد:
“هل قام السيّد الصّغير مؤخرًا بالخروج من المنزل كثيرًا؟”
“لا أعلم… إيستين ليس من ذلكَ النّوع من النّاس.”
ضيّقتْ دوقة الدّوق عينيها. وحينها تكلّم كبير الخدم، الّذي كان يراقب الوضع بصمت حتّى الآن:
“في الواقع، منذ أسبوعين تقريبًا، كان السيّد الصّغير يخرجُ كلَّ يوم تقريبًا.”
“ماذا؟ إيستين؟ ولأيّ سببٍ؟!”
تفاجأتْ ريجينا بشدّة. ولم يكن ذلك غريبًا، فحين كان إيستين في قصر الدّوق، بالكاد كان يخرج من غرفته.
“كان يخرجُ دائمًا لمقابلة الآنسة مييلا. بل وكان يرتدي ملابسَ الخدم للتّنكر أثناء خروجه.”
“مستحيل. إيستين يفعلُ مثل هذا؟!”
شهقتْ ريجينا مرّةً أخرى. ولمّا كان الخادم لا يكذب، فلا بدّ أنّ ذلك صحيح.
لكن حتّى لو حاولتْ أن تتخيّل الأمر، لم تستطع رؤية إيستين وهو يرتدي زيّ الخدم ويتجوّل بالخارج.
“نعم. بل ومنذ بضعةِ أيّامٍ، مرّ بالإسطبل وعمّدَ إلى تلويث حذائه بروثِ الخيل.”
“لا يُصدَّق. إيستين يهتمّ بالنّظافة مثلما أفعل تمامًا. أنْ يذهب بنفسه إلى الإسطبل؟!”
فغرتْ دوقة الدّوق فاها بدهشةٍ ولم تستطع إغلاقه.
وفي تلك اللّحظة، انضمّتْ رئيسة الخادمات إلى الحديث قائلة:
“بل إنّهُ بالأمس، فجأةً قصَّ غرّته. وبما أنّ القصّ بدا غيرَ متقن، يبدو أنّ الآنسة مييلا هي من قصّته له.”
“……حقًّا؟ كنتُ قد لاحظتُ أنّ شكله تغيّر بشكلٍ طريف.”
وجّهتْ ريجينا نظرها إلى شعر إيستين الممدّد. كان أسلوب شعره القصير يُظهِر حواجبهُ وأكثر من نصف جبينه.
حتّى في أيّام طفولته، لم ترَهُ بهذه الطّريقة.
كان يبدو لطيفًا على غير عادته. وبعبارةٍ أخرى، لعلّه لم يكن راضيًا عن مظهره الحاليّ.
“هو بالكاد يسمح للآخرين بلمسه، فكيف سمحَ لتلك الفتاة مييلا؟…”
انخفض صوتُ دوقة الدّوق بنغمةٍ ذات مغزى.
وفي تلك اللّحظة تحديدًا طَق، طَق طَق. سُمِعَ صوتُ طرقٍ خافتٍ ومُتحفِّظ.
“أعذروني، أنا مييلا… هل يمكنني الدخول؟”
وحين فُتح الباب وظهرتْ ملامح الفتاة من خلفه، أدرك الجميع فجأةً غفلتهم: لقد انشغلوا تمامًا بإغماء إيستين المفاجئ ونسوا أمر مييلا!
‘لقد نسيناها لأنّها هادئةٌ لدرجةٍ أنّها لا تكاد تُلاحظ.’
ولحُسن الحظ، لم تكن الفتاة تشعر بأيّ استياءٍ من ذلك، بل فقط بالقلق.
“تيتي، لا، أقصد إيستين… هل هو بخير؟”
“……كما ترين، ما زال لم يُفِقْ. للأسف.”
عند سماع كلمات دوقة الدّوق، أسرعتْ مييلا نحو السّرير وتفقّدتْ حاله.
“هُو… سيستيقظ، أليس كذلك؟ أليس كذلك؟!”
استعادتْ مييلا في تلك اللّحظة ذكرياتٍ من عامٍ مضى.
أمّها، الّتي أغمضتْ عينيها على سريرٍ مهترئ، لم تستيقظ مرّةً أخرى.
فماذا لو حدث الشّيء نفسُه مع إيستين؟! تسرّبَ الخوفُ إلى عينيها على الفور.
“أ… أنا لم أكن أعلم شيئًا. لم أكنْ أعرف أنّ تيتي هو في الحقيقة السيّد الصّغير. كنتُ أعلم أنّه مريض، لكن لم أتصوّر أنّه بهذه الخطورة…”
قالتْ مييلا وهي في قمّة الذُّعر، فربّتتْ ريجينا على كتفها تُهدّئها بوجهٍ كئيب.
“نعم، أعتذرُ لأنّنا أخفينا الحقيقةَ. لكن كان لدينا ظروفٌ خاصّة. عائلة الوار لديها الكثير من الأعداء، لذلك وجبَ علينا إخفاء نقاط ضعفنا.
أعلم أنّ الأمر قد يصعبُ فهمه عليك.”
عند سماع ذلك من دوقة الدّوق، بدأتْ مييلا تستجمع أنفاسها.
“لا، أنا أفهم تمامًا. لقد فعلتم ذلك لحماية إيستين، أليس كذلك؟”
“صحيح، هذا ما حدث.”
وبينما استمعتْ إلى إجابة ريجينا، أمسكتْ مييلا بيد إيستين بإحكام.
كانت يده باردةً ومبلّلةً بعرقٍ بارد، على عكس جبينهِ المحموم.
“تيتي، رغم أنّك خدعتني… لا بأس. سأسامحكَ، فقط أرجوكَ، استيقظَ…”
لم يستطع أحد لا دوقة الدّوق، ولا الطّبيب، ولا كبير الخدم أن يمنعها من همساتها المليئة بالشّجاعة.
كان كلُّ ما يمكنهم فعلُه هو التّرقب بصمتٍ بالقرب منها.
هذا كان ما حدث بعد ذلك…..
فبعد الفوضى المفاجئة، ومعرفة مييلا بالحقيقة عن هويّة تيتي الحقيقيّة، تعرّضتْ لصدمةٍ كبيرة.
لقد تُركتْ وحدها تمامًا وسط بهو الفيلا، بعد أن غادر الجميع من دوقةٍ وخدم.
“ما كلّ هذا؟! لا أصدّقُ ما حدث.”
ارتمتْ مييلا على الأرض منهارةً بعد أن خارتْ قواها، ثم بدأتْ تُراجع ما حصل بهدوء.
‘صحيح، أتذكّر أنّ تيتي تمتم لنفسه بشيءٍ بعد أن أفاق يومها. قال إنّ أعراض اللّعنة تفاقمت، أو شيء من هذا القبيل.’
في ذلك الحين، لم تفهم معنى “أعراض اللّعنة”، فغيّرتْ الموضوع.
‘إذًا، هل سقوطه أمام المنزل كان بسبب اللّعنة؟’
وبعد التّفكير، بدا أنّه كانت هناك تلميحات منذ البداية، حين أمسكتْ بيده للمرّة الأولى وذهبتْ معه إلى الفيلا.
‘أحد الفرسان صاح وقتها: السيّد الصّغير هناك؟ لكن تيتي قال إنّه ليس من النبلاء، لذا ظننتُ أنّه لا يقصد تيتي.’
ثم ظهرتْ ريجينا، واكتشفتْ أنّ الفيلا تابعة لعائلة فالوار.
ولكن حتّى تلك اللّحظة، لم يخطر ببالها أنّ تيتي هو نفسُه ابن تلك العائلة.
‘في الرّواية الأصليّة التي أخبرتني عنها أمّي، كان البطل رجلًا عنيفًا ومرعبًا.
كانت هناك شائعاتٌ بأنّه يسيءُ للخدم لدرجة أنّ أحدًا لا يجرؤ على البقاء.’
لكن تيتي كان مختلفًا تمامًا.
كان لطيفًا، عطوفًا، لم يتجاهلها يومًا وهي تتألّم.
فكيف يمكن توقّع أنّه نفسُ الشخص؟
‘بل حتّى في الرّواية، لم يُذكر أنّ البطل قضى أيّامًا في قريةٍ ريفيّةٍ في طفولته.’
بعد مراجعة جميع سوء الفهم الّذي وقعَ منها تجاهه، شعرتْ بالحرج الشّديد.
كيف لها أن تتصوّر أنّ تيتي، الذي تظاهر بأنّه خادم، هو في الحقيقة السيّد نفسه؟!
‘لحظة، إذًا أنا كنتُ أغتابُ تيتي أمامه وهو نفسُه تيتي؟!’
حينها فقط تذكّرتْ تعابير وجه إيستين حين كانت تتكلّم عنه.
اتّضح أنّ ما قالته أمّها صحيح: “لا تتحدّثي بسوءٍ عن النّاس أمامهم أبدًا.”
‘آه، أشعر بالخزي لدرجة أنّني قد أموت…’
لو كان الوقت ليلًا، لركلتْ الغطاء العتيق حتّى يتمزّق من شدّة الإحراج.
دفنتْ مييلا وجهها بين ركبتيها وقد احمرّ خجلًا.
ثمّ خطرتْ ببالها فكرةٌ مهمّة للغاية.
‘انتظري لحظة… إذا كان تيتي هو البطلَ الأصليّ…؟!’
اتّسعتْ عينا مييلا فجأةً.
لقد خطرتْ لها فكرةٌ رائعةٌ لحلّ مشكلته!
‘تلك اللّعنة التي ظلّتْ تؤذيه طوال هذا الوقت… ماذا لو كنتُ أنا من يُزيلها؟!
بعد ذلكَ، راحتْ مييلا تُفتّش أرجاء الفيلا بحثًا عن غرفة إيستين.
لكن، عندما جاء وقت الحديث عن طريقةِ إزالةِ اللّعنة، دبّ فيها الخوف.
‘ماذا لو لم يُصدّقني أحدٌ؟’
الشّخص الوحيد الذي وثق بها ودعمها دائمًا كان تيتي. أمّا الآن وهو طريح الفراش، وجبَ عليها إقناعَ الجميع بقوّتها وحدها.
‘هل يمكن لفتاةٍ مثلي، طالما تمّ تجاهلها، أن تفَعلها وتقنعهمَ؟’
خالجها القلق، لكنّها أدركتْ أنّها لا تملكُ خيارًا آخر.
إنْ أرادت إنقاذ إيستين، فعليها المحاولة.
لقد بدا شاحب الوجه أكثر من ذي قبل.
‘رُبّما… رُبّما أنا السّبب في تفاقمِ اللّعنةِ.’
❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً في واتباد وقناة الملفات،
حسابي واتباد : _1Mariana1_
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات