كانت المشكلة الكبرى: بأي صفةٍ سأُبقي مييلا في هذا القصر؟
فالأمر لا يتعلّق فقط بإثبات فاعليّتها أو نفعها.
لو كانت مييلا فنانة موهوبة، لادّعى أنّه يَرعاها.
ولو كانت من عائلة نبيلة فقيرة، لطلبَ من والديه أن يصبحوا أوصياء عليها.
لكن مييلا لم تكن كذلك.
كانت فتاةً عاديّة لا تنتمي لأيّ من تلك الفئات.
‘تبدو وكأنّها ترغب بأن تصبح خادمة، لكن لا يمكنني السماحَ بذلك.’
أن يسمع منها كلمات مثل “سيدي الصغير” بدلًا من “تيتي”، أو أن تخدمهُ؟
لمجرد التفكير بذلك، اقشعرّ جسدهّ كلّه.
بالرغم من طباعه المتغطرسة التي لم تفرّق بين أحد، لم يشأ قطّ أن يتصرّف معها بتكبّر.
‘والأسوأ من ذلك…
لو أصبحت خادمة فعلًا، سأُضطرّ إلى إخبارها بأنّني في الحقيقة “إيسْتين فالوار”.’
صحيح أنّه لا يستطيع إخفاء هويتهُ إلى الأبد.
ففي هذه الفيلا الصغيرة يمكنه التظاهر بأنه خادم، لكنّ في قصر الدوق، هناك المئات من الخدم والموظفين.
وكشف هويته الحقيقية سيكون مسألةَ وقت فقط.
‘كان عليّ أن أُخبرها منذ البداية أنّني وريث دوقية فالوار…’
الندم الآن لا ينفعهُ.
كلّ ما يستطيع فعله هو التفكير بطريقةٍ يُخبر بها مييلا الحقيقة، دون أن يُسبّب لها صدمةً أو شعورًا بالخيانة.
مضت عدّة أيّام أخرى.
وغدًا كان اليوم الأخير من المهلة ذات الأسبوعين التي اتفقَ عَليها مع ريجينا.
كان عقل إيسْتين على وشكِ الانفجارِ من التفكير، لكنه كان متظاهِرًا بالهدوء، جالسًا تحت ظلّ شجرة، يقرأ كتابًا.
‘هممم، القشّ أنعم ممّا توقّعتَ.’
كان يستند إلى حزمةٍ من القشّ اليابس، وسط ظلّ أوراق الشجرة الكثيفة.
ورغم أنّ الوضع مريح، لم يستطع التركيزَ.
‘ما الشيء الممتع في جزّ صوف الخراف؟ لماذا تبتسمَ هكذا؟’
راح يختلس النظر إلى مييلا التي كانت تقصّ صوف إحدى الخراف القريبة.
وحين تلتفت نحوه، يتظاهرُ بالانشغالِ في الكتاِب.
ومع كلّ هذا، لم يبدو أنّها لاحظت نظراتهُ.
ربّما لأنها بطيئةُ الملاحظةٌ أصلًا.
“تيتي!”
نادتهُ فجأةً وهي تركضُ نحوهُ.
يبدو أنّها انتهت من قصّ صوف الخروفِ.
“انتظرتَ كثيرًا؟”
“لا، ليس كثيرًا.”
هزّ إيسْتين رأسه نفيًا، قبل أن يشعر بنظراتها تُركّز على جبينه.
“……لماذا تنظرين إليّ هَكذا؟”
“آه! آسفة، كنتُ أحدّق دون قصد.
في الحقيقةِ، شعركَ طال قليلًا، وفكّرتُ أنّني يُمكنني قصّهُ لكَ.”
كانت بيدها مقصٌّ يلمع في ضوء الشمس.
بالنسبة لها، لا فرق بين شعر الإنسان وصوف الخروف.
كلاهما يجب قصّه.
“هل أنا خروف؟”
سأَل بنبرةٍ جافّةٍ.
فلوّحت مييلا بيديها بسرعة.
“لا طبعًا! لن أقصّه مثل الخروف!
ثق بي فقط هذه المرة، تيتي. سأرتّبه بشكلٍ جميل!”
“حسنًا، مرّة واحدة فقط.”
وافق، على مضض، فترك لها مقدّمة شعرهُ.
لكنّه ندم بشدّة بعد دقائق.
اللعنة! هذه الفتاة لا تعرف شيئًا عن قصّ الشعر!
مجرد هاوية تجيد قصّ الصوف فقط!
“آآه، آسفة! تيتي، أنا آسفة جدًّا!
ما الذي فعلتُه؟!”
تخبّطت مييلا بعدما شوّهتَ شعره.
قصّت المقدّمة بشكلٍ عشوائي ومُشوّه، حتى أصبح كأنّ فأرًا قضمهُ!
“هاااه…”
تنهد إيسْتين بعمقٍ.
لم يحتج لرؤية مرآة ليدرك حجم الكارثة.
يكفيه ما يشعر به على أطرافَ أصابعه.
“أوه، شعرَ الدّو… الدّو… الدّوقٓ!”
الخادم العجوز الذي كان يراقب من بعيد كتم ضحكته بصعوبة، وشدّت التجاعيد على جبينه من فرط المقاومة.ِ
‘لا بأس. فلأُفكّر بشكلٍ إيجابي.
لا أحد هنا سيراني، فهذه ليستَ القصر.’
أقنع نفسه بذلك، لكنه لم يستطع أن ينسى أنّ شعره الأسود اللامع الفخورَ لعائلةٌ فالوار قد تحوّل إلى شعرٍ شبيه بالكلابِ الضالةِ.
“بما أنّه حدث، فلا فائدةَ من الأسف.
لا بأس يا مييلا، لا تُقلقي نفسكِ كثيرًا.”
قال ذلك بصوتٍ هادئ، لكن نبرتهُ كانتَ حزينةً.
حين يعود إلى الفيلا، سيطلب من رئيسة الخدم أن تُصلحه له.
رغم أنّها ليست ساحرة، إلّا أنّها تستطيع ترتيبهّ قليلًا على الأقل.
“آسفة، لم يكن عليّ أن أحاولَ…”
“قلتُ لا داعي للاعتذار.”
“لكنّني السبب…”
بينما كان إيسْتين قد سلّم بالأمر، بدت مييلا وكأنّها سَتبكي.
ثم اختفت فجأة، وعادت بعد قليل وهي تحمل سلةً صغيرة مليئة بالتوت الأحمر اللامع.
“ما هذا؟”
“توتٌ جبلي. حلوٌ ومنعش. جرّبه.”
تناول حبّة واحدة، وفجأة انفجر الطعم الحلو في فمه.
راقبتهُ مييلا بقلقٍ شديدٍ.
عندها، فهم إيسْتين.
كانت هذه طريقتها في مصالحتِه.
“لذيذ. فعلاً لذيذ.”
“أليس كذلك؟!”
ابتسمت مييلا بارتياحٍ، أخيرًا.
شعر إيسْتين بشيءٍ غريب.
هل الأمر يستحق كلّ هذا؟
إنّه مجرد شعر… سيعود للنمو!
‘لو كنتُ مكانها، لتظاهرتُ بعدم حدوث شيء وانتهَى الأمر.’
مشكلتها الوحيدة أنّها طيّبةٌ أكثر من اللازم.
“تفضّل، خذ الباقي.”
ناولته السلة كلّها.
أخذها، ثم اختار أكبر حبّة، ووضعها قرب فَمِها.
“أتعطيني هذه؟”
“أنتِ من جلبها.
لن يكون من العدل أن آكلها وحدي.”
“شـ-شكرًا.”
وبينما كانا يأكلان التوت، صبغت عصارتُه الحمراء أطراف أصابعهما.
حين قاربت السلة على الفراغ، وقفتَ مييلا فجأةً.
“أ-أذهب لأحضرَ المزيد؟ هناكَ الكثير.”
“لا داعي لذلكَ.”
هزّ رأسه نافيًا.
ثم رأى خدشًا صغيرًا على يدها لم يكن موجودًا من قبل.
لا بدّ أنّه من الأشواك.
“يدكِ! لقد خُدِشَتْ!”
“آه، هذا؟ لا شيء. سَيشفى خلال يومين.”
هزّت كتفيها بلا مُبالاةٍ.
لكنّ إيسْتين لم يفهم.
أليس البشر أنانيين بطبعهم؟
لماذا تُقلّل من شأن ألمها هكذا؟
‘غريب… وكأنّها خُلِقَت بالمقلوب!
لو كانت حيوانًا، لانقرضتَ منذ زمن!’
“لا تقولي كلامًا كهذا.
أرِني يدكِ.”
“همم…”
استسلمت في النهاية، وأظهرت يدها.
أخرج إيستين زجاجة صغيرة من جيبه.
دواءٌ شفائي، صُنع على يد أعظمِ السحرةٌ.
كان يحتفظ به دائمًا، لأنّه كثيرًا ما يمرضُ فجأًة.
“ما هذا؟”
سألت بفضول.
ولو أخبرها بالحقيقة، لرفضتَ استخدامهُ.
لذا، أجابها ببساطة:
“دواء لتسريع الشفاء. سأضعهُ على الجرح.
قد تشعرين ببعض اللّسع.”
“لا بأس! أنا أتحمّلُ الألم جيدًا!”
صرخت بثقةٍ، لكن حين لمس الجرحَ، أغلقت عينيها بقوّةٍ.
ولم تُدرك أنّ الخدش قد اختفَى في اللحظة ٌالتي لامسهُ فيُها الدواءُ.
❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً في واتباد وقناة الملفات،
حسابي واتباد : _1Mariana1_
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات