الفصل 15
صرخت ميِريا بصوتٍ حادٍّ غاضب، ففزِع الأطفال من حولها.
‘:صـ-صحيح… هذا ما اتّفقنا عليه…”
”إذا كرّرتُم مثل هذا الكلام، فلن أشارككم أيّ حلوى مجددًا!”
كانت تلك مجرّد تهديد بسيط، لكنّه كان فعّالًا جدًّا على أطفال في نفس العمر.
‘أوه لا! لن نُعيدها أبدًا!’
”آسفين! لن نكرّر الخطأ!”
ما إن بدأوا يعتذرون بخوفٍ حتى عاد إلى وجه ميِريا ذلك التعبير المنتَشي المنتصرُ.
لكنّ شعور النقص الذي اختبرتهُ حينها بقي عالقًا في قلبها رغم مرورِ الوقت.
وحين فقدت مييلا والدتها وأصبحت وحدها، شعرت ميِريا بتفوّق خفيّ لم تستطع البوح به.
لكن الآن…
‘لا يمكنني تقبّلُ هذا! لماذا هي، وليس أنا، من تُدعَى إلى فيلّا النبلاء؟!’
كانت تغار. بصدقٍ.
لكنّها أبدًا لم تكنَ لتعترفَ بذلك.
لأنّها إن فعلت، فستشعر وكأنّها هُزِمت تمامًا أمام مييلا.
…
“أنتم… هل تُضايقون مييلا مجددًا؟”
عاد الحاضر فجأة، واخترق صوتٌ غريبٌ آذان الأطفال المحيطين بمييلا.
“ماذا؟ نُضايقها؟! لا، طبعًا لا!”
نفت ميِريا ذلك بسرعة، وكأنّها خائفةً من أن تُكتشف.
لكنّ الوضع كان واضحًا، عدّة أطفال يحيطون بفتاةٍ واحدة ويُطلقون التعليقات عليها.
“مَن… مَن هذا؟! لا تقل… أنت تيتي؟! فعلًا؟!”
حتى مييلا نفسها لم تتعرّف على إيسْتين في البداية، إلى أن لاحظت ملامحه جيدًا.
فمظهره كان مختلفًا تمامًا عن المعتاد، أشبه بدميةٍ من القش، مترنّحة المظهر.
“مييلا، يبدو أنّكِ محظوظةٍ، ها؟
كلّما وقعتِ في ورطة، يظهر لكِ الأمير من القصص الخياليّة.
آه لا، ليس أميرًا… بل خادمُكِ، أليس كذلك؟”
قالت ميِريا بسخريةٍ فاضحةٍ، تخفي من ورائها غيظًا شديدًا.
أن يُقلب الموقف كلّه بسبب ظهور هذا الصبي؟
كان ذلكَ إهانةً لكبريائها.
لكنّها شعرت أنّ من الأفضل الانسحابَ في الوقت الحالي.
رغم أنّ الفتى يبدو سخيفًا بملابسه تلك،
إلّا أنّ في هالته شيئًا مريبًا، لا يُستهان به.
“حتى جيران القرية لا يمكنهم الحديث مع بعضَ؟!
هاه، لا بأس، لا نريد الحديث أصلًا.
هيا يا رفاق، فلنذهب!”
قالتها ميِريا وانسحبت مسرعةً ومعها الأطفال.
وتركوها وراءهم، وسط حقل الجزر، برفقة إيستين وكبير الخدم الذي راقبَ كلّ شيء عن بُعد.
نظر إيسْتين إلى الأطفالِ المغادريَن وقال:
“أخبِريني، مييلا. لقد كانوا يُضايقونكِ، أليس كذلك؟”
“هممم… لم يُضايقوني كثيرًا.
فقط قالوا إنّني أُناسِبُ التراب أكثر من الفيلات الفاخرةِ.”
قالتها ببرود، لكنّ إيسْتين بدا عليهِ الغضبُ أكثر من أيّ وقت.
“وتتجاهلين إهانةٌ مثل هذهِ؟!”
“هي ليست إهانةً تمامًا… في الواقع، لديهم بعض الحق.”
لو كان هو من سمع كلامًا كهذا، لكان لقّن المتحدثَ درسًا لا يُنسى.
لكن هذه الفتاة… تبتسم رغم كلّ شيء،ٍ دون أن تتأثّرَ.
يا لها من ساذجةٍ بلا حيلةٍ.
ضغط إيستين على جبهته وتنهّد.
“حسنًا، كفى. توقّفي عن العمل في الحقل.”
“ماذا؟!
لكنه لم ينتهِ بعد… لا يزال أمامي الكثير…”
“ولهذا تحديدًا أقول لكِ أن تتوقّفي.
هل تظنّين من الطبيعي أن تقومي وحدكِ بقطف كلّ هذه الكمية؟!”
هذه أوّل مرّة ترى فيها مييلا تعبيرًا غاضبًا على وجه تيتي.
رغم مظهره الصغير، بدا مختلفًا فجأةً.
“تيتي، لماذا تغضبَ؟ لا أفهمُ السببَ.”
“…لأنّني قَلِق.”
تفجّرت الكلمات من فمه دون أن يستطيع كَبحها.
“قلق… عليّ؟”
“أجل.
أنا قَلِق من أن تُصابِي بأذى وأنتِ تعملين هنا.
أو أن تسقطي فجأةً من الإرهاقِ.”
رغم نبرة صوتهٌ الحادّة، إلّا أنّ كلماته كانت صادقةً للغايةٌ.
منذ وفاة والدتها، لم يهتمّ بها أحد بهذا الشكل.
أن تشعر بهذا الدفء من فتىٍ أصغر منها وأضعفَ منها،
كان شيئًا غير متوقّع.
فجأة، احمرّت عيناها.
“…شكرًا… لأنّكَ قَلِق عليّ.”
لحسن الحظ، كانت تعرف كيف تكبت البكاءَ.
أغمضت عينيها مرّتين، فجفّت الدموع سريعًا.
“لكن… إن تركتُ العمل، فلن أحصل على الأجرة.”
قالت ذلك بهدوء، فعبس إيسْتين.
“أجرة؟ كم يدفعون لكِ؟”
“تختلف كلّ مرّة.
عادةً ما أحصل على عشرة دوانـ.
وأحيانًا، يعطونني خبزًا قديمًا بدل المال…”
“عشرةُ دوان؟!”
حدّق إيسْتين بعينين متوسّعتين.
هذا المبلغ لا يُساوي سوى وجبة بسيطة في مطعمٍ عاديّ!
وليس حتى في العاصمة، بل في هذه البلدة الصغيرة.
“تعملين يومًا كاملًا لأجل هذا الفُتات؟!”
“نعم… لا يُعتبَر كثيرًا.
يقولون إنّني ما زلت صغيرةً، ولا أستحقّ أجر البالغين.”
“هذا هراءٌ.
ما علاقة السنّ بجودة العمل؟
الأهم هو الجهد المبذول… لا، بل الأهم…”
فجأة، تذكّر تلكَ اللحظة.
حين استيقظ لأوّل مرّة في منزل مييلا.
تذكّر الخبز اليابس، والنقانق الباردة التي قدّمتها له.
وقتها ظنّها مجنونةً.
لكن الآن، فهم أنّها كانت تُقدّم له طعامها الخاص، ثمرة تَعبها.
‘هذا كثيرٌ جدًّا.’
تنهد بعمقٍ.
كان يحمل في يده دفترًا صغيرًا، يدّون فيه صفات مييلا.
ولكن حتى الآن، كانت ملاحظاته بسيطة جدًا:
[تعمل بجدّ. بلا فائدة تقريبًا.]
[نزيهة في معظم الأوقات. لا تجيدُ الكذبَ.]
[تحبّ الطعام اللذيذ، لكنها تأكل أيّ شيء. هل يُعتبَر هذا ميزةً؟]
أخرج قلمه وكتب شيئًا جديدًا:
[تحترم العقود والاتّفاقات، حتى وإن كانت غيرَ عادلةً.]
“ماذا تفعل يا تيتي؟”
قالت مييلا فجأةً، ففزِع وأغلق دفتره على عجل.
“أه… لا شيء.”
“كنتَ تكتب شيئًا، صحيح؟”
“هل رأيتني وقرأتِ ما كتبتُ؟”
“لا، لا!
أصلاً لا أعرف حروف الإمبراطوريّة.”
“…حقًّا؟”
تنفّس إيسْتين الصعداءَ.
كان مُعتادًا على كون أغلب الناس في الإمبراطوريّةِ لا يقرأون، فمييلا لم تكن استثناءً.
لكنّها أكملت بابتسامة فخورةً:
“لكنّ أمي علّمتني حروفًا خاصة.”
“حقًّا؟ أيّ لغة؟”
سأل بفضول، فأجابت بتردّد:
“في الحقيقة… لا أعرف بالضبط.
قالت إنها من بلاد بعيدة جدًّا.
هل تعطيني الدفترَ قليلًا؟”
“تفضّلي.”
ناولها الدفتر والقلم.
بدت متردّدةً في استخدامهِ، وبدأت تلمس القلم بفضول.
“غريب… يخرج الحبر من داخله!”
“نعم، أفضل من غمس القلم بالحبرِ كلّ مرةً.”
تذكّرت فجأة أدوات الكتابة التي كانت تصنعها والدتها لها.
رماد من نارٍ مُطفَأة يُخلط مع زيت قديم، فيُنتِج حبرًا خفيفًا.
ريشة من طائرٍ سقطت على الطريق تتحوّل إلى قلمٍ.
أوراقٌ مصنوعةٌ من قشٍّ أو أوراق شجر مجفّفة.
وبينما تسترجع ذكرياتها، كتبتَ في الدفتر.
ثمّ أعادته له.
“ما هو هذا؟”
نظر إلى الكتابة، بدت لطيفة ومستديرة، تشبهها.
لكنّه لم يفهم شيئًا.
“ما معناها؟”
ابتسمت بخجل:
“شكرًا، تيتي.”
“هاه؟”
“هذا ما كتبتُه. لأشكركَ فقط.”
وقف مذهولًا.
شعر بشيءٍ يرتجّ بداخله.
وعندما بقي صامتًا، شرحتَ له:
“الكلمة الأولى تعني ‘شكرًا’
والثانية… اسمك: تيتي.”
“…أفهَم.”
نظر إلى الدفتر حيث كُتبت:
[تيتي]
أربعة مربّعات تقريبًا، تشبهُ الأطفال حين يخطّون كلمَاتهم.
لكنه لم يكرهها. على العكسِ، بدت جميلةً جدًّا.
فتح دفترهُ وكتبَ شيئًا جديدًا.
اقتربتَ مييلا وقالتَ بفضولٍ:
“ماذا كتبتَ؟”
“سرّ.
لن أخبرك الآن.”
رغم خيبة أملها، لم تُلحّ بالسؤال.
[تُجيد الكتابة بلغةٍ غير مألوفة.
موهبة نادرة ومُذهلة.]
ربّما هذه المهارة ستُثير اهتمامَ والدتهٌ أخيرًا…
❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً في واتباد وقناة الملفات،
حسابي واتباد : _1Mariana1_
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات