الفصل 14
“لو رآك أحد الآن، لظنّ أنّكَ فزّاعة.”
“أوه، إلى هذه الدرجة؟”
لم يشعر إيسْتين بأيّ ضيق من تشبيهه بفزّاعةٍ، بل شعر بالفخر لنجاحه في التنكّر.
ألم يتجوّل منذ الفجر بين البستانيين والخدم طالبًا استعارة ما يلزم لهذا التنكّر؟
“لكن، الآنسة مييلا تبدو مُرهَقةً جدًّا. لا تقول إنّها تحاول قطف كلّ تلك الجزر وحدها؟”
قال كبير الخدم بقلق وهو يُراقبها من بعيد.
حتى بالنسبة لمن لا يعرف شيئًا عنها، كان المشهد مُثيرًا للشفقة: فتاة صغيرة، تعمل تحتَ شمس حارقة، عرقُها يتصبّب، ولا أحد يعينها.
إيسْتين أيضًا لم يستطع تجاهلَ الأمر.
“حقًّا… لو كان بوسعي مساعدتها لفعلتُ. هل أذهب لأُساعدها…؟”
“لكن، سيدي… هل سبق وأن عملتَ في الزراعة من قبل؟”
خرجت كلماتُ كبير الخدم بغير قصدٍ، ثمّ أدركَ أنّه تجاوز حدّه.
لقد نسي أنّ سيّده رغم هدوئهِ في الآونة الأخيرة هو نفسهُ الفتى اللعين، المدعو بـ”الابن الحديدي الملعون”.
وكان يتوقّع منه ردًّا حادًّا من قبيل: ‘أوه، أتظنّ أنّ منزل فالوار لعبةً؟’
لكن…
“ما هذا السؤال؟ طبعًا لم أجرّبَ.”
ردّ عليه إيسْتين بلا مبالاةٍ، ما جعلَ كبير الخدم يتنهّد بارتياحٍ:
“فيوووه…”
“ما بكَ؟ لماذا تتنهّد؟”
سأله إيستين وهو ينظرُ إليهِ بريبةٍ، فأجاب الكبير متلعثمًا:
“آه، لا شيء. يبدو أنّ تقدّمي في السن بدأ يؤثّر عليّ. جلوسي لفترةٍ يجعل جسدي يؤلمني… أوف…”
“معقول. هل تفكّر في التقاعدِ؟ للأسف لا يَوجدُ من يصلح مكانكَ من بعدكَ.”
قالها إيسْتين بجديّة، ما جعل العرق البارد يتصبّب من جبين كبير الخدم.
“لا، لا… ما زالت فيّ أوجِ عزمي، هوهو.”
“جيد إذًا.”
قالها إيستين بلا تفكير، إذ إنّ كامل تركيزه كان منصبًّا على مييلا.
أخرجَ من جيبهِ منظارًا صغيرًا يُستخدم في عروضِ الأوبرا، وأخذ يُراقبها.
“ما هذا…”
لكن، بدلًا من مييلا، ظهرت وجوه مألوفة في عدسة المنظار… لحظة!
“أليست هؤلاء نفس المجموعة التي أزعجتَ مييلا المرة الماضية؟”
“نعم، أظنّ ذلك.”
أجاب كبير الخدم، فعبّر إيستين بدهشةٍ:
“رائع، تبصُرُك جيّد يا كبير الخدم! رأيتهم من دون منظار؟”
“ربّما لأنّني من سلالةٍ ذات نظر حادّ. لكن، هل تنوي التدخّل، سيّدي؟”
“ومن سيتدخّل إن لم أفعلَ أنا؟”
تلك الجملة القصيرة حملت كلّ ما في قلبهِ من غصّةٍ.
لقد عرف مسبقًا أنّه لا أحد في هذا القرية يساند مييلا.
‘لا عائلة تحميها، ولا أصدقاء. لقد عاشت دومًا في صمت، تتلقّى كلّ شيء وحَدها.’
في العادة، لكان تجاهل الموقف.
قصص الآخرين الحزينة لم تَعد تُحرّكه.
كان جسده قد فسد بفعلَ اللعنة، فلا وقت لديه ليهتمّ بغيرهِ.
لكن مع مييلا… كانت استثناءً.
‘مييلا، ما الذي تفعلينه بي؟ لماذا تغيّرينني هكذا؟’
حتى هو لم يَفهم السببَ بعد.
لكن قبل أن يُفكّر أكثر، كانت قدماهُ قد سَبقتاه.
اندفع نحوها.
“سيّدي! انتظر! دعني أرافقكَ!”
صرخَ كبير الخدم خلفهُ، لكنه لم يسمع شيئًا.
ركض… ركض بكلّ ما أوتي من قوّةٍ.
رغم أنفاسه المتقطّعة، لم يشعر بالتعب.
وحين وصل إلى حقل الجزر، وجدها محاطةً بأطفال الحيّ.
“مييلا، هل استمتعتِ بزيارتك للقصر بعد أن جعلتِني أبدو أحمق؟”
“يا لحظّكِ! لا بد أنّك قضيتِ وقتًا رائعًا!
لكن، تعرفين؟ أنتِ تبدين أكثر انسجامًا مع هذا الوحل من أيّ قصرٍ فاخر.”
كانت مغطاة بالتراب من رأسها حتى أخمص قدميها… حتى وجهها لم يَسلم.
لكن حتى بهذا الحال، لم تستطع الأوساخ أن تُخفي جمال وجهها وملامحها الناعمةِ.
وربّما… لهذا السبب زادت غيرةَ الأطَفال.
‘تبا… لا أهل، لا مال، لكنّها تبدو كالأميرات؟!’
كانت ميِريا تَغلي من الداخلِ.
منذ الحادثة الأخيرة، صار جيروم يتجنّبها.
لقد خسرت تابِعها المخلص، والسبَب؟ تلكَ الحقيرةُ مييلا!
‘لو لم تكن موجودةً!’
رغم أنّها كانت السببَ المباشَر لما حدث،
لكن من الأسهل أن تلوم مييلا بدلًا من لومُ نفسها.
‘أنا مَن؟ ابنة صاحب البقالةِ الوحيدُ في القرية!’
منذ صغرها، كانت توزّع الحلويات واللحوم المجفّفة لكسب قلوَب الأطفال.
وبذلك أصبحت قائدةً غير رسميّة لجماعتِهم.
لكنّ مييلا كانت الوحيدة التي لم تُفلِح معها هذهِ الحيلة.
وبدأ كرهها منذ تلك الحادثة قبل سنوات…
”هيي، مييلا. خذي هذه الحلوى.”
”هم؟”
”لكن، هناك شرط.
إذا أكلتِها، عليكِ أن تطيعيني دومًا.
في تمثيليّة اليوم، أنا الملكة، وفي لعبة الشرطة واللصوص، أنا القائدةُ. فهمتِ؟”
حينها، وقفت مييلا مذهولةً من كلامها ثم أجابتَ:
”أوه… شكرًا، لكن…”
”لكن ماذا؟ هل هناكَ شيءٌ؟”
”في الحقيقة، أمي قالت لي ألّا آكل الحلوى. قالت إنّها تُفسَد الأسنان.”
في هذا العالم الساحر، لا توجد عيادات أسنان حقيقيّة.
لا حشوات، لا زراعة، لا معالجة أعصاب.
فقط الأرستقراطيون والأثرياء كانوا يستفيدون من السحر العلاجي لعلاج أيّ تسوّس.
لكن مييلا لم تكن مَنهم، لذا كانت والدتها تُحذرها بشدّةٍ من الحلوياتِ.
”أوه، لا بأس. لا تُخبري أمّكِ، وانتهى الأمر! ما الصعب في ذلك؟”
بالطبع، كلّ الأطفال يتلقّون التوبيخ أحيانًا، لكنّ معظمهم يأخذ الحلوى على أيّ حال.
إلا أنّ مييلا قالت:
”آسفةٌ. لا أستطيعُ كسَر وعدي لأمي. أقدّر نيتكِ، لكن خذي الحلوى، لن أقبلها.”
هذا الردّ فاجأ ميِريا.
”ماذا؟ أي نوعٍ من الأطفالِ أنتِ؟”
لم تكن تلك الحادثة الوحيدةَ.
بل هناك واحدة أخرى أوقدت نيران غيَرتها أكثر:
”هيا يا أطَفال! لنلعب مسرحيّة “الأميرة والفقير”! ما رأيكم؟”
ميِريا هي من تقرّر دومًا موضوعَ المسرحية. ودور الأميرة دائمًا لها.
‘من يريد أن يكون وصيفة الأميرة؟ تهزّ المروحة وتقول “هل أنتِ بخير يا مولاتي؟”‘
لكن، لأوّل مرّة، رفع أحد الأطفال يده.
وكان “توبي”.
”ما الخطب يا توبي؟ تريد أن تكون وصيفتي؟ لا، أنت صبيّ، سَتكون الحارس.”
”لا، لديّ سؤال. لماذا لا نُفكّر في شخصٍ آخر لدورٍ الأميرة؟”
لم تكن تتوقّع هذا الرد، فزمّت شفتيها.
”ماذا؟ من يَقترحّ ذلك؟ قل لي.”
قال توبي بثقة:
”أظنّ أنّ مييلا تناسبُ هذا الدور كثيرًا.”
وبدأ الأطفال يهمسون:
”آه، هي؟ فعلًا، شِكلها جميل.”
”لكنها نادرًا ما تخرجَ من البيتٌ، دائمًا مع والدتها.”
ولم تدم الهمسات طويلًا…
فقد صرختَ ميِريا بغضبٍ:
”ما هذا الهراء؟! ألم نَقل إنّ دورَ الأميرةِ لي وحَدي؟!”
❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً في واتباد وقناة الملفات،
حسابي واتباد : _1Mariana1_
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات