الفصل 13
“لا، يجب أن أعود إلى المنزل قبل غروبَ الشَمس.
عليّ أن أغسلَ الملابس، وأقتلعَ الأعشابَ التي نبتتَ في الساحةِ الأمامية.
وفوق كلّ ذلكَ، وعدتُ العم مارتن بأن أساعدهُ في عمل المزرعة منذ الصباح الباكر. لذا عليّ أن أنام باكرًا.”
فقال إيسْتين:
“مفهوم. إذًا سأطلب من أحد الحُرّاس مرافقتكِ إلى بيتك.”
لوّحت مييلا بيديها رافضة:
“أحد الفرسان؟ لا حاجةَ، شكرًا لك. أستطيعُ العودةَ وحَدي!”
“لكن مع ذلك…”
“أقول الحقيقة. أنا أعرف هذه القريةَ أفضلَ من أيّ أحد.
لقد وُلِدتُ هنا ولم أُغادرها يومًا.
حتى لو امتلأت الأجواء ضبابًا ولم أرَ شيئًا، فأنا قادرة على إيجاد طريقي.”
“حسنًا… ما دمتِ تصرّين. سأُرافقكِ بنفسي إذًا. هيا نذهب سويًا، مييلا.”
لا يدري لماذا، لكنّه أراد التمسّك برأيهِ.
ربّما أراد فقط أن يُواسيها.
لكنّه لم يُمنَح الفرصة حتى لذلك.
“أنت تمزح، أليس كذلك، تيتي؟”
“لستُ أمزح.”
ما إن نطق بها ببرودٍ حتى أدركَ خطأه.
بِقامته الصغيرة، لن يترك انطباعًا قويًّا، بل سيبدو كطفلٍ عنيد.
“أنتَ مريض. ماذا لو انهرتَ في طريق العودة من بيتنا إلى القصر؟
عليك أن تستريحَ، هذا أمر، فهمت؟”
وكما توقّع، وبّخته مييلا بنبرةٍ صارمة.
لكن حتى ذلك التوبيخ، بصوتها الرقيق وملامحها الصغيرة، لم يُشعره أنه يُوبَّخ.
“… حاضر.”
‘أوه، مييلا. أنا، بالمناسبة، أبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة!’
كان يريد قول الكثيرَ، لكن كلّ كلماته بدت تافهة، فابتلعها صامتًا.
وفجأةً…
“أحسنتَ، تيتي العزيز.”
“…!”
فوجئ حين شعَر بكفّها تربّت على قمة رأسه.
واتسعت عيناه من الدهشة.
حتى مييلا استغربت كم أصبحت عيناه مستديرتيَن بعدما كانت نظراته حادّة دومًا، فضحكتَ بلطفٍ.
“تبدو كبلّوطٍ غير ناضج. أقصد عيناك.”
“ماذا تعنين؟”
“أعني أنّك لطيفٌ.”
كان غريبًا.
لم يشعر بالإهانة رغم تلكَ الكلمات.
بل أحسّ كأنّها تداعب قلبهُ بلُطف، لا أنّها تجرحهُ.
إحساسٌ لا يشعر به إلا حين يكون مع مييلا.
في صباحِ اليوم التالي، استيقَظ إيستين قبل شروق الشمس.
ولكم أن تتخيّلوا كم كان هذا أمرًا مذهلًا، فقد كادَت رئيسة الخدم أن تُبلغ السيّدة به، ظنًّا منها أنّ شيئًا خطيرًا يحدث.
ولو كانت الدوقة التي عادت إلى القصِر الرئيسي لانشغالها قد علمتَ، لربّما أغمي عليها من الصدمة.
“يا إلهي، سيّدي الصغير! ما الذي يحدث هنا؟!”
ظنّت أنها تحلم حين سمعت صوته.
فهذا الفتى الذي ينام أكثر من الجميع، هل يُعقل أنه استيقظ بالفعل؟
عادت لتستلقي ظنًّا منها أنّها توهّمت…
لكن بعد لحظات، سُمِع طَرقٌ خفيف على بابها.
وحين فتحتهُ…
كادت تسقط أرضًا من شدّة الذهول.
“يا ألهي! يا للهول!”
لم يكن شبحًا شاحبَ الوجه… بل كان السيّد الصغير إيسْتين، واقفًا هناك.
اعتذرَ بخجلٍ على ردةِ فعلها الصاخبة:
“أعتذرُ لإيقاظكِ، لكن هل يمكنك مساعدتي في التحضير للخروج؟”
وهكذا، بدأت المغامرة.
طلب إيسْتين ملابس بسيطة كالتي يرتديها الخدم، بدلًا من قميصه الحَريري المعتاد.
بل وطلب سَلّة طعام مليئة بالوجباتِ الخفيفةِ.
“سيّدي، ما الذي تنوي فعله…؟”
سألته رئيسة الخدم بدهشة، فأجاب بعزم:
“لديّ أمر مهمّ جدًّا.”
“هل تنوي لقاء الآنسة مييلا، التي اسَتضفناها في المِصيف مؤخرًا؟ أليس كذلك؟”
“كيف عرفتِ؟”
أظهر ملامح الذهول وكأنّها قرأتَ أفكاره.
لم يكن يُشبه نفسه المعتاد: تعابيره أصبحتَ أوسع، وتصرفاتهُ أصدَق.
لم يعد ذاك الفتى البارد كما كان.
“هناك أشياء تُفهم من تلقاء نفسها، هوهو.”
ضحكت الخادمةُ ضحكةً خفيفة ذات معنى، بينما رَفع حاجبيهِ بدهشة.
وفي الماضي، لكان قد عبس وطلب منها ألا تمزح، لكنه لم يقل شيئًا هذه المرة.
“سيّدي، السندويشات التي طلبتها جاهزةً!”
ركض الطباخ المُرافق من القصر الرئيسي وهو يقدّم سَلّة الطعام.
لقد أعدّها بكلّ عناية، إذ نادرًا ما كان السيّد الصغير يطلب طعامًا بنفسهِ.
“شكرًا لكَ. سأستمتعّ بها.”
“نعم، سيدي! عُد بالسلامة!”
أن يقول السيّد الصغير “شكرًا”…؟
كان هذا وحده يُعتبر معجزةً في هذا القصر.
حقًّا، إن كان هذا ممكنًا، فربّما يأتي اليوم الذي يُفكّ فيه لَعنُه…
أملٌ راود كلّ مَن في هذه الفيلا يومًا ما.
“هيه، مييلا! لا تستخدمي المجرفةَ بهذه القسوةِ! ستتلفين الجذور الصغيرة! كوني أكثر لطفًا!”
“آسفةٌ. سأحرصُ أكثر لاحقًا.”
“همم… سنرى.”
استدارت السيّدة مارتن بوجهٍ ممتعض بعد أن وبّختها، فتغيّرت ملامح مييلا.
‘لكن إن كنتُ ألطفَ من ذلك، سيستغرق الأمر ساعات طويلة لاقتلاع واحدة فقط.’
لو كانت عاملة أخرى في مكانها، لقالت: ‘ما هذا؟ يدفعون أجرًا زهيدًا، ويتوقّعونَ نتائجَ عظيمة؟’
وربّما تركت العمل وغادرت غاضبة.
لكن مييلا، التي كانت مؤسفةً في اجتهادها، لم تتركَ عملًا قطّ قبل أن تُنهيه،
حتى لو أرهَقها التعب.
“لا بأس. إن اجتهدتُ أكثر، سأنهي العمل قبل المساء. وعندها، سيزيد العم مارتن أجرَ اليومَ.”
كان مارتن مالكَ أكبر مزرعةٍ في القرية.
لكن أن تعمل فيها طفلة واحدة فقط؟ منظرٌ يثيرُ التساؤل…
ومع ذلك، لا أحد في هذه القرية وجد ذلكَ غريبًا.
”مرحبًا، سيّدتي. هل لديكِ عملٌ لي؟ سأقوم بأيّ شيء!”
كان ذلك قبل عامٍ تقريبًا.
حينها، أنفقت مييلا ما تبقّى من المال بالكاد كان يُعدّ إرثًا لإقامةِ جنازة والدتها.
فأصبحت بلا مأوى ولا مُعيل.
وبدأت بالطرق على أبواب الجيران تعرضَ خَدماتها.
لكن ردودهم الأولى كانت باردةً:
”آه، ستيفاني ماتت؟ يا للمسكينةِ… لكن، فتاةٌ صغيرة مثلك، ماذا عساها تفعل؟”
”لا، أستطيعّ فعل الكثير. أغسل الصحون، وأقتلع الأعشاب، وأسقي الزرع، بل حتى أُتقن الخياطة!”
”حقًّا؟ حسنًا، سنجرّبكِ مرّةً واحدة.”
…ولم يتوقّع أحد أنّها ستُنجز العمل بهذا الإتقان!
تعمل دون كسلٍ، ويدها ماهرةً، ولا تشتكي أبدًا حتى لو كان الأجر زهيدًا.
بالطبع، الناس الطبيعيون لا يستخدمون الأطفال بهذه الطريقة،
لكن المؤسف أنّ هذه القرية كانت تفتقر إلى مثل هؤلاء الراشدين.
“هيا، لنكمل بقوّةٍ! لنفعلها!”
رغم توبيخها، شجّعت مييلا نفسها.
رأت أمامها كومة كبيرة من أوراق الجَزر التي ما زالت تنتظر الاقتلاع…
لكنها قررت أن تُنهيها كلّها.
“…ما الذي تفعله؟ تعمل وحدها؟”
خلف إحدى الصخور البعيدة،
شخصٌ ما كان يُراقبها.
مييلا لم تنتبه أبدًا.
وصاحب النظرةِ تلك لم يكن سوى إيسْتين.
لم يكن وحدهُ.
“هل تظنّ أنها لم تلاحظ وجودي، يا كبير الخدم؟”
“نعم، يبدو أنها لم تفعل…”
أطلّ كبير الخدم رأسه بجانبه، وتفرّس في هيئة سيّده.
“في الحقيقة، حتى لو لاحظت وجود شخصٍ ما، لن يخطر ببالها أنّه أنتَ، سيدي.”
“هل هذا رأيكَ أيضًا؟”
“نعم.”
أومأ بثقةٍ.
وبحقّ، مظهر إيسْتين كان لا يُصدّق:
قبعة قشّ كبيرة تغطّي حتى فمهُ،
وقميص وسروال أكبر منه، كأنّه استعار ملابس شقيقه الأكبر.
لكن كبير الخدم حرص على انتقاء الكلمات بدقّةٍ، فكلمة “طفل صغير” قد تُثير غضب إيسْتين، بناءً على تجاربٍ سابقةٍ.
❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً في واتباد وقناة الملفات،
حسابي واتباد : _1Mariana1_
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات