الفصل 12
ردّ إيسْتين على استجواب والدته بالكلمات التي أعدّها مسبقًا وكأنّه كان ينتظر تلك اللحظة.
“إنّها فتاةٌ مسكينة. قد يبدو ظاهرها مشرقًا، لكن من الصعب ملاحظة معاناتها.”
ريجينا لم تُخفِ اهتمامها طيلة استماعها لكلامهِ.
ليس فقط بسبب مأساويةِ قصة مييلا غير المتوقعة، بل لسببٍ مختلف تمامًا:
‘ألم أكن أعلم أنّك تملك هذا الوجه يا بنيَ؟
يا للعجب، يا إيسْتين.’
من يكون إيسْتين فالوار؟ إنّه الفتى المعروف بلقب “الابن الحديدي الملعون”.
لم تَرَه والدته يبكي قطّ منذ أن كان رضيعًا، وكان من النادر جدًا رؤيته يبتسم،
وكان يُظهر لامبالاةً حادّة تجاه معظم الأمور.
‘كم مرّة ظننتُ أنّ دمي لا يجري في عروق هذا الولد؟’
لكنّه الآن، يتحدّث بحرارة، وكأنه محامٍ يدافع عن فتاة.
“تعيش وحيدةً بلا وصيّ. ورغم طيبتها وبراءتها، فإنّ الأطفال في سنّها يتنمّرون عليها،
وهي لا تملكُ القوة للدفاع عن نَفسها. أشعر ُبالقلق من تركها في هذه القرية.”
كان يبدو متوتّرًا، يبتلع ريقه عدة مرات وهو يتكلّم…
مشهدٌ بشريّ نادر الحدوث منهُ.
في تلكَ اللحظة، كادت ريجينا أن تسألهُ على الفور:
‘أيمكن أن يكون أبنيَ قد أصبحَ يشعر بتعاطف مع الآخرين؟
منذ متى حدث هذا؟’
وحين أنهى حديثه، غيّرت ريجينا ملامحها لتردّ عليه بنبرة هادئة.
“قصّتها مؤسفة فعلًا.
لكن هناك كثيرين مرّوا بحياة قاسية، ليست وحدها.
ما أريد معرفته هو: لماذا يجب أن تكونَ مييلا بالتحديدِ؟”
“لكن أماه، ألم تقولي قبل قليل إنه من الطبيعي ردّ الجميل لمن أنقذ حياتنا؟
ظننتُ أنّك ستُلبّين هذا الطلب البسيط.”
لم يستطع إيسْتين إخفاءَ خيبتهِ.
كان يتوقّع أن توافق والدته بسهولة.
‘هل وصل بها الأمر إلى أن تكرهُ مييلا إلى هذا الحَد؟
لكن… لا، لا أظنُ.’
‘أنا متأكّد أنني رأيتُ ابتسامة خفيفة على وجهها حين كانت تتحدث مع مييلا.’
حلّ الصمت.
وفي عيني ريجينا الخضراوين الهادئتين، ظهر أثرٌ من الصراع الداخلي.
ولها أسبابٌ في تردّدها عن القبول.
‘رغم مظهرها البسيط، كانت الفتاة صادقةً جدًّا. أعجبتُ بها.’
كانت حياتها القاسية في هذا السنّ مؤثرة حقًّا.
لكن هل يكفي هذا لتأخذها إلى قصر الدوق؟
طفلةٌ من عامة الناس، لا يُعرف أصلها. لا يمكن قبولها بهذه البساطةِ.
‘لكن من جهة أخرى، سيكون من القسوة أن أرفض ذلك ببرودٍ.’
نظرت ريجينا إلى إيستين نظرةً خاطفةً.
لا يزال يُحدّق بها بعينين تتوسّلان بإخلاصٍ.
‘هل أصبحتْ هذه الطفلة بهذه الأهميّة لهُ في أيام قليلةٍ؟’
لم يسبق أن أبدى إيسْتين اهتمامًا بأي طفلٍ في سنّه، بغضّ النظر عن طبقتهم الاجتماعية.
لطالما كان منطويًا، حذرًا، مشبعًا بالريبةِ والعداء.
‘لكن أن يتغيّر بهذا الشكل فجأة… يا له من أمرٍ عجيب.’
ربّما لن ترى هذا الموقف مجددًا في حياتها.
لذا، وبعد تفكيرٍ طويل، أجابت أخيرًا:
“حسنًا، إيستين. أمنحك أسبوعين.”
“أسبوعين؟”
“نعم. أثبت خلالها أنّ مييلا قادرة على أن تكون ذاتَ فائدةٍ.
حين تعود إلى بيت العائلة بعد فترة النقاهةِ، سأسمح لك بأن تَصطحِبها معكَ.”
“… مفهوم، يا أمّي.”
وقد بدا في عينيه إصرارٌ لا يتزعزع على تحقيق ذلك الهدف.
* * *
بعد ذلك، خرج إيسْتين في نزهةٍ مع مييلا في الحديقة الخلفية.
يبدو أنها تناولت التحليةَ بشهيّة، إذ كانت تبدو مثل سنجابٍ صغير شبعَ حتى التُخمة.
‘رأسي ممتلئ بالأفكار. عليّ المَشي قليلاً.’
رغم موافقته الفورية لطلب والدته، إلا أنّه شعر بالضياع عندَ التنفيذ.
‘ما معنى أن يكون الإنسان “ذو فائدةٍ” أصلًا؟
لو فكرتُ بهذا الشكل، سينتهي بي الأمر إلى أزمة فلسفية!’
ثمّ شعر بنظرةٍ تترصّده.
رفع رأسه بسرعةُ وقال:
“مييلا.”
“هـ-هاه؟ نـ-نعم؟”
تفاجأت من نظراتهِ المفاجئةِ، وارتبكتَ، ثم بدأت تُزيح نظرها هنا وهناك.
ضحكَ بلا قصد.
نسي كلّ ما كان يُقلقه.
“لماذا تواصلين النظر إليّ بطرف عينك هكذا؟ هل لديكِ شيء تريدين قوله؟”
“آه، هـ-هل لاحظت؟!”
ضحكت بخجلٍ، وكأنها لم تتوقّع أن يُلاحظ.
هزّ كتفيه بلا مبالاةٍ.
“لم أكن لألاحظ فقط، بل شعرتُ كأنّكِ تحاولين ثقب جبهتي بنظراتكِ.”
“أوه، آسفةٌ. في الواقع…”
“تكلّمي، لا بأس.”
تردّدت قليلًا، ثم اعترفت:
“هل كان الحديث بينك وبين السيدة ريجينا حديثًا مهمًّا؟”
‘كما توقّعت.’
لو كانت مييلا على طبيعتها، لانشغلت بالمنظر من حولها وأبدت إعجابها.
لكنها لم تكن كذلك، بل كانت تنظر إليهِ فقط.
‘يبدو أنها كانت قلقة…
ربّما خشيتْ أن أكون قد تعرّضتُ للتوبيخ بسَببها.’
تساءل إيستين إن كان من الأفضل أن يُخبرها بالحقيقةِ ويطلبَ منها التعاون.
أن يُطلعها على شروط والدته ويُخطّطا معًا لإثباتِ فائدتها.
‘لا، ليست فكرةً جيّدة.’
والدته ذكيّة جدًّا. تكتشف نواياهُ بسهولةٍ.
‘بل قد تأتي بنتائجٍ عكسيّةٍ.
وفوق هذا كله…’
يبدو أنّ مييلا لن تُحبّ الفكرة أصلًا.
بل قد تتساءل بغضب: ولماذا عليّ أنا أن أفعلَ هذا؟
وللحق، سـأوفقـها الرأي.
‘هي أصلاً مذهلةً بما فيه الكفاية.’
رغم سنّها الصغير وغياب أي وصيّ عليها، كانت تساعد أهل القرية،
تتصرّف بإيجابية وتواجهُ الحياةَ بابتسامةٍ رغم صعوبتها.
‘قد تبدو ساذجةً، لكنها تعرف الكثير.’
لو كان مكانها، لما استطاع تحمّل نصف ما واجهتهُ.
أحسّ باحترامٍ خفيّ تِجاهها.
لكنه أخفى ذلك، وتظاهرَ باللامبالاةِ.
“نعم، كان حديثًا مهمًّا.”
“آه… فهمت.”
واضحٌ أنها أرادت أن تعرف تفاصيل ذلك الحديث.
لكن حين قطعَ عليها الطريق بإجابةٍ حاسمة، لم تستطع أن تسأل، وبقيتَ متردّدة.
بدا له تَفكيرها واضحًا تمامًا.
فقال لها بنبرةٍ مازحة:
“لماذا؟ هل أنتِ فضوليّة؟”
“لا، أبدًا؟!”
ثم بعد لحظةٍ، تراجعت عن كلامها:
“… في الحقيقةِ، نعم.”
“أفهم. لكن لا أستطيع إخباركِ.
الدوقة طلبت منّي أن أحفظَ السر.”
بمجرّد أن قالها، شعر أنه كان قاسيًا.
حتى لو أجابتَ عليه ساخطةٍ بـ: “لماذا تخبرنيَ إذًا؟”، لَما استطاع الردّ.
لكن مييلا اكتفت بهزّ رأسها:
“أجل، طالما أنه سر، فلا بأس.”
“أنا آسفٌ.”
وبسبب ردّها الهادئ، ازداد شعوره بالذنبِ.
شعر وكأنّه كان حقيرًا معها.
لكنها بادرت بنفي ذلكَ:
“لا، لا بأس.
كانت أمي تقول دائمًا إن أسرار الآخرين لا ينبغي التنقيب َعنها.”
“كانت والدتكِ سيّدة رائعة.”
“نعم. كانت رائعة، عظيمة، وطيبةً جدًّا…”
نظرت إلى السماء، وكأنها تتذكّرها بشوقٍ.
وللحظة، بدا أن دموعًا تترقرق في عينيها البنيّتين.
“… أوه، لقد تأخّرتُ. يجب أن أذهبَ الآن. تيتي، شكرًا لكَ مجددًا اليوم.”
ثمّ ابتسمت، ابتسامة عريضة ضيّقت بها عينيها.
كانت ابتسامتها المعتادة…
لكن إيسْتين شعر أنها تخفي بها حزنًا ما.
وربّما، لكي لا يُلاحظ، بدأت تتحدث بسرعة، قاذفةً بالكلمات مثل الرصاص:
“بالمناسبة، كان الطعام لذيذًا!
وأيضًا، حين دافعت عني أمام الأولاد الآخرين، كنتَ حقًّا رائعًا!
آسفة، كنتُ محرَجة ولم أستطع قولها وقتها.
رغم أنّني الأخت الكبرى، فإنني دائمًا أستند إليك في كلّ شيء…”
“انتظري، لماذا لا تبقين قليلًا بعد؟”
حاول إيسْتين أن يُوقفها.
لكنها بدت محرجةً.
❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً في واتباد وقناة الملفات،
حسابي واتباد : _1Mariana1_
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات