لم أستطع أن أغمض عيني طوال الليل.
رغم أن أفكاري وقراري كانا راسخَين، إلّا أنّني لم أجد الشجاعة لمواجهة ذلك الرجل من جديد، والخوف من الماضي لم يزل عن قلبي تمامًا.
لكن، إن عاد الإمبراطور إلى القصر ولم تُقدِّم له الإمبراطورة التحيّة، فسأتعرّض لوابلٍ من الانتقادات.
فمجتمع هذه الإمبراطوريّة قاسٍ بقدر برودة عيني كايين.
“جلالتكِ، الاستعدادات انتهت.”
على صوت آنيس أفقتُ من شرودي، وإذا بالمرآة تعكس شعري البلاتيني المرفوع بعناية.
رغم أن وجهي الشابّ المتألّق لم يحتج إلى زينة أو مساحيق، فإنّ كايين، حتى هو، لن يجد في هذا مأخذًا.
“لنذهب.”
توقّفت العربة أمام جناح الإمبراطورة بعد غياب طويل.
صعدتُ إليها برفقة آنيس، وسرعان ما بدأ منظر حدائق القصر الفسيحة يمرّ أمام أعيننا، حتى وصلنا إلى المبنى الذي يباشر فيه الإمبراطور شؤون الحكم.
“ينبغي أن تنزلي هنا.”
ترجّلتُ من العربة، وبمساعدة آنيس وقفتُ أمام قاعة المثول.
كان الوقت لا يزال مبكرًا جدًّا.
“نحيّي جلالة الإمبراطورة.”
انحنى الخدم الذين يحرسون القاعة بانفتارٍ واضح، وكأنّ موكبي البسيط لم يثر فيهم سوى الفتور.
فذكّرني ذلك بمكاني الحقيقي في هذا القصر.
قال هاوارد، كبير خدم الجناح: “جلالة الإمبراطورة جاءت لتحيّة جلالة الإمبراطور.”
فأجاب خادم القاعة: “لكن جلالة الإمبراطور لم يصل بعد. فلتنتظروا في قاعة الاستقبال.”
كانت قاعة المثول متصلة بعدة قاعات استقبال، إذ يتردّد الكثيرون لطلب لقاء الإمبراطور.
“نعتذر، لكن القاعات لم تُجهَّز جميعها بعد، لذا ستنتظرون في أصغر القاعات، عند نهاية الرواق الأيمن.”
ذلك المكان كان الأضيق والأبسط، يليق بخدم الإمبراطور لا بزوجته التي تلتقيه بعد عام كامل من الغياب.
“كيف يجرؤون …!” ، هتفت آنيس بغيظ، لكنّني رفعت يدي لأوقفها.
“إذن، فلننتظر في قاعة الاستقبال حتى قدوم جلالته.”
ارتسمت على شفتي ابتسامة هادئة.
في حياتي السابقة كنت أتأذّى من مثل هذه الإهانات الصغيرة، أمّا الآن، فهذه أمور لا تستحقّ حتى الالتفات.
***
وبينما كنت أحتسي فنجان شاي، أتى أحد خدّام الإمبراطور ليُبلغني بأن دوري قد حان.
مضت ساعتان منذ وصولي، لكنّني لم أُبدِ أي انزعاج.
“جلالة الإمبراطورة”
فُتحت الأبواب الثقيلة، وأعلن الخادم بصوت عالٍ، فخطوتُ فوق البساط الممتدّ نحو العرش.
خطواتي لم تكن سريعة ولا بطيئة، حتى بلغتُ الدرجات المؤدّية للعرش.
رفعتُ تنّورتي برشاقة، وانحنيتُ بتحيّة.
“أحيّي جلالة الإمبراطور.”
صوتي الرقيق كالجرس ملأ المكان، وتلاه صمت قصير.
خلاله، وقعت عيناي على حذاء عسكري خشن وملطّخ.
كم مرّة في حياتي الماضية فزعتُ من رؤية حذائه الملطّخ بالوحل والدم، فأثار امتعاضه. لكنّ ذلك الآن لم يعد مهمًّا.
“إن سمحتَ، أودّ رؤية وجهكَ، يا جلالتك.”
كان كايين لا يعرف شيئًا عن آداب القصر، وكم مرّة نسيني منحنية لساعات حتى كدتُ أن أفقد وعيي.
لكن هذا اليوم، لم أعد آبه.
“… آه، حسنًا.”
صوته المنخفض جاء بلا اكتراث، وكأنّه نسي وجودي.
كم مرّ من الزمن منذ أن رأيت وجهه آخر مرة؟
رفعت بصوت أنفاسي عينَيّ الزرقاوين لأقابله.
“سمعتُ أنّكِ أُصبتِ بالحمّى. لكنّكِ تبدين سليمة الآن”
قالها بصوتٍ بارد، وهو يستند بذرراع واحدة على العرش.
“نعم. بفضل عناية الجميع، أتيتُ أمامكَ بصحّة جيّدة.”
لحظةً، ثبتت عيناه السوداوان عليّ كأنّهما تنفذان إلى أعماقي.
وكأنّ شيئًا مختلفًا يحيط بي … شيء لم يكن من قبل.
“تبدّلتِ قليلًا”
لم يكن يقصد ملامحي، بل شيئًا أبعد … جوهرًا خفيًّا.
“لقد مرّ عام، يا جلالتك”
ارتفع حاجباه قليلًا.
هيئة أنيقة بلا حُلي، ابتسامة هادئة على شفتيّ، ونظرة ثابتة لا تهرب من عينيه … كلّ ذلك جعلني أبدو امرأةً مغايرة عن يوم الزفاف.
“أجل.”
قالها ببرود، يمرّر أصابعه على صدغيه.
كما كنت أذكر، لم يكن يجيد حتى أبسط الحوارات.
“تبدو أنتَ أيضًا في صحّة وعافية.”
“آه … أتقولين هذا عن رجل يقضي أيامه في ذبح البرابرة والعيش وسط القفار؟”
كدتُ أتجمّد، لكنّي أخفيتُ ارتباكي.
ذلك الصوت الساخر الذي كنت أكرهه ويُرعبني سابقًا عاد ليُصدّع رأسي.
“كنتُ أقصد أنّ رؤيتكَ أكثر قوّة يبعث فيّ السرور.”
لن يتغيّر شيء إن أعدت أخطاء الماضي.
ابتسمتُ بهدوء، فجعله ذلك يحدّق بي أكثر، عيناه تضيقان بفضول.
“… هُمم.”
بلغته أخبار بأنّني تغيّرت بعد مرضي، ويبدو أنّه بدأ يصدّق ذلك.
حتى رسائلي اليوميّة له انقطعت منذ الحُمّى، بعدما كنت أُثقل كاهله بترديد تعاليم لوكان بلا توقّف.
“قريبًا سنُنهي حربنا مع البرابرة، لكنّني أفهم جزئيًّا انتقاد من يقولون إنّ الإمبراطور لا يليق أن يهجر عاصمته.”
لكن، بدلًا من أن أفتح موضوع لوكان كما اعتاد، هززتُ رأسي.
“عذرًا، لا أفهم ما تعني.”
وما زالت ابتسامتي الرقيقة على شفتيّ.
“أنا هنا فقط لأعرب عن فرحتي بسلامة عودتكَ.”
بدت الدهشة على وجهه، ولم يفُتني ذلك.
“أهذا كلّ ما لديك لتقوليه لي؟”
“أنتَ بخير … فما عساني أطلب أكثر من ذلك؟”
ارتعشت جفونه وهو يطالعني.
أين ذهبت تلك الفتاة المرتجفة في ليلة الزفاف؟
أين اختفى إصرارها على أن تُغرقني يوميًّا برسائل لوكان؟
“أنتَ حتمًا منشغل بعد عودتكَ، فلن أُطيل. أستأذن بالانصراف”
في عينيّ لم يَبقَ خوف ولا قلق، لا لوم لوكان ولا طموح من دوق نايجل، ولا حتى إخلاص أتباعه المفرط.
فقط هدوء مطمئن.
“إذن … أستأذن”
انحنيتُ برشاقة و غادرت.
“…….”
ظلّ يُحدّق طويلاً في الموضع الذي كانت عينيّ الزرقاوان تستقرّان عليه.
“تلك النظرة … ماذا كانت؟”
تمتم بارتباك، وقد تكدّرت ملامحه.
طالما اعتزّ بقدرته على قراءة القلوب، لكن لقاءً واحدًا قلب يقينه رأسًا على عقب.
***
انقضى الصباح وهو يتلقّى طلبات ومقابلات لا تنتهي.
“النبلاء ما زالوا مقزّزين. لكن على الأقلّ وضوح نواياهم يجعلهم أسهل في السيطرة.”
“صدقتَ” ، أجاب غلين.
ومع ذلك، ظلّت أفكار الإمبراطور مشغولة.
“أجل … هذا هو السبب.”
“ماذا تعني ، جلالتك؟”
“الإمبراطورة … كانت مختلفة”
شيء في الطريقة التي انسحبت بها بسلاسة، ترك في نفسه غصّة.
“بعد عام كامل … كأنّها غدت شخصًا آخر. لم تذكر لوكان، بل أنكرت معرفتها، ثم انصرفت بهدوء”
حتى غلين بدا مشوشًا.
أليست وظيفتها أن تكون لسان حال لوكان بجواره؟
“لعلّ لوكان أرسل لها تعليمات جديدة؟”
“لا. لم أشعر بذلك. إطلاقًا!”
ردّ بحزم.
ففي عينيها لم يرَ مكيدة ولا نفاقًا.
“على أرض المعركة، أقرأ في عيون خصومي خطوتهم التالية. لو كنتُ عاجزًا عن قراءة امرأة واحدة، لَما ظلّ هذا الرأس على كتفي.”
لو كان في نيتها خداع، لاكتشفه منذ اللحظة الأولى.
“يقولون إنّها عانت حُمّى لأيام، وكما يزعمون في لوكان أنّ من يُصاب بحمّى الحكمة يتبدّل ويقترب من الحقّ … ألعله هذا؟”
“هَه.”
هزّ رأسه باستهزاء.
“لو كانت هناك حكمة فيهم، لما كان كهنتهم غارقين في فسادهم.”
كلام يليق بكايين.
“إن شئتَ ، هل أتحقّق من أحوال جناح الإمبراطورة؟”
أشار إليه كايين بالإذن.
لكنّ الأمر ظلّ يثير قلقه.
لم يعهد في حياته غموضًا كهذا.
لقاءٌ قصير معها ترك أثرًا لا يستطيع تحديده، كما لو أنّ قطرة زرقاء لوّنت ماءً ساكنًا.
“ربما الأفضل أن أرى بنفسي.”
“جلالتك؟”
“سأقابلها. ما الطريقة الأنسب؟”
نادرًا ما استشار آراء الآخرين، وكان وجهه هذه المرّة جادًّا.
“أنتما زوجان، فيمكن أن تدعوها إلى مأدبة عشاء … أو وقت شاي.”
“العناء يُزعجني.”
لكنّ أكثر ما أزعجه هو أنّ صورتها لم تبرح ذهنه منذ الصباح.
ابتسامتها، وقَامتها الرفيعة، وظلّ الغموض في عينيها.
“فلنجعلها مأدبة عشاء.”
“كما تأمر.”
إذًا، الشرارة التي بدأت لن تنطفئ بسهولة.
“أخبِروا جناح الإمبراطورة فورًا”
قالها وهو يمدّ ساقيه بتكبّر، كما كان يفعل في ساحة القتال، أو فوق هذا العرش المهيب.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات