“يا لوقاحتكِ! أتعرفين أي عائلةٍ أنتمي إليها وتتفوهين بهذا الهراء؟”
“عائلة هايسن؟ وما شأن عائلة هايسن أصلًا؟ ثم من تكون أنتَ تحديدًا؟ أنتَ غارون هايسن الذي نبذته عائلة هايسن نفسها.”
“.……”
“فكّر قليلًا. على الأقل تظاهر بأنكَ تُشغّل ذلك الرأس الغبي.”
“….…”
“حتى جلالة الملكة لن تستطيع فعل شيء. جريمة إهانة النبلاء؟ أنا ابنة الدوق روسيريكا. نصف دمي يجري فيه دم أحد أعظم الدوقات في هذه المملكة، دوقٌ لا يجرؤ أحدٌ على إنكار مكانته.”
“هـ، هذا تلاعبٌ سخيف! إذا كان الأمر كذلك فكل أبناء العاهرات في هذا العالم—”
“وفوق كل ذلك، أنا أدميرالٌ في البحرية، تطمع بي مملكةٌ عدوة. وأنا من أمسكَ بكل الخطط التكتيكية الأساسية لبحرية سيفيا.”
عند كلمات إليسا المتتابعة، لم يجد غارون ما يقوله وأطبق فمه.
من الواضح أنه في أيام الأكاديمية العسكرية كان هو الأجدر بالترقية! فاجتاحه شعورٌ بالمرارة والظلم.
لكن ذلك أيضًا لم يكن سوى وهم من أوهامه. ففي الأكاديمية العسكرية، لم يسبق لنتائج غارون أن تفوقت على إليسا ولو مرةً واحدة، حتى في فن الرمح الذي كان يظن نفسه بارعًا فيه.
والسبب الوحيد الذي جعل المدربين يولونه اهتمامًا أكبر من إليسا كان بسيطًا جدًا. إليسا كانت ابنةً غير شرعية، أما هو فكان الابن الأكبر والوريث المستقبلي لعائلة هايسن.
لكن ذلك البريق الزائف قد زال الآن. وبمجرد زواله، صار وضعه أدنى حتى من وضع إليسا شوتر ذات الأصل الوضيع.
“برأيكَ، من الذي ستعاقبه جلالة الملكة؟”
“….…”
“أنا؟ أم أنتَ، المطرود من الأكاديمية العسكرية، والمنبوذ من عائلته، الذي صار لا قيمة له؟ برأيكَ، أي خيارٍ ستتخذه جلالة الملكة، وأي خيارٍ سيتخذه والدكَ الذي تثق به إلى هذا الحد؟”
قالت إليسا ذلك وهي تنتزع خنجرها المغروس في الحائط، ثم أخذت تدور ببطء حول غارون المقيّد.
عندها فقط، أدرك غارون حقيقة الوضع. لن يحاسبها أحدٌ على ما جرى هنا. لا جلالة الملكة، ولا حتى….والده.
فارتمى غارون أرضًا منبطحًا، وضرب جبينه بالأرض باتجاه مصدر الصوت. و دوى صوت ارتطامٍ قوي، وبدأ الدم ينزف من جبينه.
كان المشهد بائسًا حقاً.
“حـ، حسناً، لقد أخطأت.”
“في ماذا؟”
“إ، إهانتكِ حين وصفتكِ بابنة عاهرة.”
“وأيضًا؟”
“و، والمراهنة القذرة التي عقدتها في الأكاديمية العسكرية، معتمدًا فقط على أدريان أوبرون.”
تجعدت ملامح إليسا بشدة.
أنظر إلى هذا. كل ما قاله أدريان أوبرون الليلة الماضية كان كذبًا محضًا.
تذكّرت وجهه وهو يتفوه بوقاحةٍ بأنه مختلفٌ عنهم، فعاد الغضب ليتفجر في صدرها.
وبدلًا من أدريان غير الموجود أمامها، ركلت إليسا جسد غارون هايسن بكل قوتها. و مع صوتٍ خانق مقزز، انكمش غارون على نفسه كحشرة مصابة.
“ثم؟”
“لـ، لن أظهر أمامكِ مرةً أخرى أبدًا، لا اليوم ولا غيره.”
“وأيضًا؟”
“و، وبالطبع لن أفشي ما حدث اليوم لأي أحدٍ، أبدًا.”
كانت قد سمعت كل ما تريد سماعه. وإطلاق سراحه الآن هو أسهل طريقٍ لتجنّب المتاعب لاحقًا.
“لو كان الأمر بيدي….”
رفعت إليسا ذراعها الممسكة بالخنجر عاليًا، ثم غرزته بقوة بجوار خد غارون مباشرة.
دوّى صوت المعدن الحاد وهو يخترق الأرضية الخشبية، فارتجف جسد غارون بعنف.
لم يكن يرى شيئًا، لكن الخوف من أنه كان على شفير الهلاك كان واضحًا في كل خليةٍ من جسده.
“كنت أفكر في غرسه في لسانكَ.”
“أ، أعتذر! أرجوكِ، لن أفعلها مرة أخرى، فقط هذه المرة، أرجوكِ.…”
أخذ غارون يرتجف وينتحب، بينما تختلط دموعه بلعابه وهو يتوسل.
كان يخلط بين صيغة الاحترام والكلام العادي، وكأنه لم يعد يدرك ما الذي يقوله.
“حسنًا. هذه آخر فرصةٍ أمنحكَ إياها. عليكَ أن تفي بوعدكَ وألا تظهر أمامي مرةً أخرى. إن لم تفِ بكلمتكَ، ففي المرة القادمة سيُقطع لسانكَ.”
“نـ، نعم! نعم سأفعل! شكرًا، شكرًا لأنكِ أبقيتِ على حياتي.”
وبينما كان إينوك ونيكسون يفكّان الحبال التي قيّدت غارون، استدارت إليسا فجأةً وكأنها تذكرت شيئًا.
“آه! هناك أمرٌ آخر.”
“م، ما هو؟”
“بلّغ الثلاثة الآخرين بالأمر نفسه.”
“مـ، من تقصدين؟”
“لا تتظاهر بالغباء. تلك الزمرة التي كانت تتبع أدريان أوبرون كذيله.”
“….…”
“أخبرهم أن تجاهل هذا التحذير، وعدم الابتعاد عني، سيجعلهم ينتهون بالمصير نفسه.”
“سـ، سأفعل. أعدكِ أنني سأبلغهم.”
وهي تراقب ارتجافه البائس، سكبت إليسا آخر قطرةٍ من ويسكي نيكسون العزيز في فمها، ثم أمرت إينوك.
“أطلقوا سراحه.”
وقبل أن تكمل كلامها، كان إينوك ونيكسون قد تحركا بالفعل.
كان جسد غارون متيبسًا من طول التقييد، فلم يستطع التحرك جيدًا. و ركل نيكسون من الخلف جسده المتمايل، فسقط غارون مجددًا أرضًا بعد أن كاد يستعيد توازنه.
“ألا تستطيع التحرك بسرعة؟”
“نـ، نعم! أنا مخطئ!”
عند كلمةٍ واحدة من نيكسون، أخذ غارون يكمش كتفيه ويجبر جسده الذي لا يطاوعه على الحركة.
و اتسعت عينا نيكسون دهشةً لرؤية ابن نبيلٍ رفيعٍ يذل نفسه هكذا أمامه، ثم سرعان ما انفجر ضاحكًا مستمتعًا بالمشهد.
كان هذا أمرًا يستحيل تخيّله لو كان غارون هايسن على طبيعته المعتادة.
أمثال إليسا وإينوك، خريجي الأكاديمية العسكرية، كانوا قلةً نادرة في البحرية. لم تكن تُقارن إطلاقًا بفرسان المملكة الذين لا يُعيَّن فيهم إلا النبلاء، وحتى بالمقارنة مع فرسان الشمال كانت نسبتهم ضئيلةً جدًا.
و في البحرية، كان هناك أبناء صيادين، وأناسٌ باعوا أنفسهم للراتب العسكري لأنهم لا يملكون مالًا. وكان نيكسون واحدًا منهم.
ذهب نيكسون ليرمي غارون بين الجموع الثملة، ولم يبقَ في المقصورة السفلية سوى إينوك وإليسا.
“إن كنتِ ذاهبةً للنوم فسأرافقكِ.”
“هل جننتَ؟ أأدخل بقدميّ غرفةً من المؤكد أن أدريان أوبرون فيها؟”
“إذًا إلى أين تنوين الذهاب؟”
“لأتمرّد على أبي.”
“ماذا؟”
“قلتُ لأتمرّد.”
***
تاركةً إينوك ينظر إليها بقلقٍ لأنه لا يفهم ما الذي تنوي فعله، وصلت إليسا إلى قاعة المأدبة حيث كان الحفل في ذروته.
كانت الملكة وملك شلويد قد غادرا مقاعدهما منذ وقتٍ طويل، أما كبار النبلاء ممن تقدم بهم العمر فقد أنهوا المجاملات الشكلية باكرًا وصعدوا ليستريحوا.
وهكذا بدأت وليمة الشبان والشابات على حقيقتها.
وُضعت رهاناتٌ غير لائقة على طاولات البوكر، وانفجرت زجاجات الشمبانيا كالألعاب النارية.
وسط أولئك المنغمسين في الشراب والاحتفال، أخذت إليسا بدورها كأس شمبانيا واختارت مكانًا مناسبًا لتجلس.
كانت تخطط لتمضية الوقت هنا قليلًا، ثم ما إن يطلع الفجر حتى تنزع هذا الفستان المزعج وترتدي الزي العسكري وتنزل إلى المقصورة مباشرة.
فستانٌ طويل متدلٍّ، حذاءٌ قاسٍ ذو كعب عالٍ، حُليّ ثقيلة، وقفازاتٌ بيضاء رقيقة تجعلها تخشى تمزيقها فلا تكاد تستخدم يديها بحرية.
لم يكن لزيّ اليوم أي فائدة تُذكر، سوى مرةٍ واحدة فقط. حين سحقت فخذ غارون، عندها فقط أعجبها الكعب العالي مرةً واحدة.
عدا ذلك، كانت تفضّل ألف مرةٍ الزي العسكري المثقل بالأوسمة.
اقترب بعض الناس من إليسا وهي تقضي وقتها وحدها. و كان بينهم من ثمل لدرجة أنه لم يتعرّف حتى على إليسا، بطلة الحفل غير المعلنة، وراح يغازلها سائلًا عن اسمها وعائلتها.
أما من بقي لديه شيءٌ من الوعي، فكان يسألها صراحةً عن مكان أدريان، مظهرًا رغبته في التقرب منه. و أجابتهم إليسا بعبارةٍ مناسبة، قائلة أنها سترسل لهم دعوةً بعد انتهاء حفل الخطوبة، فصرفوا نظرهم.
“سيادة الأدميرال!”
نعم، هكذا تُنادى. كم يبدو هذا اللقب جميلًا.
“سيادة الأدميرال، أنا هنا!”
تمايل شعرٌ بني ناعم أمام عيني إليسا. كانت فتاةً صغيرة بيضاء البشرة، أنهت لتوها حفل ظهورها الاجتماعي، تقف أمامها.
“الآنسة ميتيلّا؟”
“لماذا تنادينني بهذه الرسمية! قلت لكِ مراتٍ أن تناديني براحة: ريا.”
قالت ذلك واحمرّ خداها بخجل.
قبل سنوات، حين اختطف القراصنة والدها الكونت ميتيلّا، كانت إليسا والبحرية قد أنقذوه، ومنذ ذلك اليوم صارت إليسا بالنسبة لريا بطلةً من الأساطير.
“لماذا تأخرتِ هكذا؟ ظننتُ أن سيادة الأدميرال قد ذهبتِ للنوم بالفعل.”
“لا، كنتُ هنا في قاعة الحفل منذ فترة.”
كذبت إليسا بكل بساطة. لكن ريا، التي كانت تؤمن إيمانًا مطلقًا بأن إليسا لا تكذب، أمالت رأسها في حيرة، وانسدل شعرها البني الغزير كالشلال.
“هل يمكن أنني كنتُ ثمِلةً قليلًا فلم أركِ؟”
“يبدو ذلك! نعم، لا بد أن هذا ما حدث.”
‘كلام الأدميرال صحيح دائمًا، بلا استثناء.’
فابتسمت ريا بضحكةٍ خفيفة، وقد احمرّ خداها أكثر، ثم طلبت كأس نبيذ من نادل كان يمرّ. وبعد قليل، ناولت إليسا الكأس بفخر.
“هذا هو الذي تفضلينه، أليس كذلك؟”
رغم أنها كانت قد شربت الكثير من الويسكي، لم يكن هناك سببٌ للرفض. فإليسا تؤمن بأن عدم الشرب حين يتوافر هو خسارةٌ محققة.
وهكذا بدأت زجاجات النبيذ تتكاثر على طاولتهما واحدةً تلو الأخرى.
كان وجه إليسا يبدو ثابتًا على نحو لا يُصدّق رغم الشراب، بينما كانت أذنا ريا قد احمرّتا منذ زمن.
“أثملتِ بالفعل؟”
“لااا! أنا لستُ ثمِلةً إطلاقًا! انظري، ما زلتُ بخير تمامًا.”
وقالت ذلك وهي تحاول النهوض فجأة. فأمسكت إليسا بكتفيها وسحبتها إلى الأسفل.
“اجلسي فورًا. ماذا تحاولين أن تفعلي؟”
“لكن….هناك من كان يقول قبل قليلٍ أن سيادة الأدميرال لا يجب أن تتزوج السيد أوبرون، وكانوا يسيئون إليكِ. سأوبّخهم بدلًا عنكِ.”
لكن المكان الذي أشارت إليه أصابع ريا الثملة كان خاليًا. لم يكن هناك سوى طاولةٍ فارغة.
“كفى. لا يوجد أحدٌ هناك الآن.”
بعد ذلك، واصلت ريا القفز من مكانها محاولةً افتعال الشجارات مع أي شخص، بتهمةٍ واحدة: إهانة إليسا.
وبينما كانت إليسا تحاول تهدئتها بشق الأنفس، سألتها ريا فجأة،
“لكن….سيادة الأدميرال، هل ستتزوجين حقًا؟”
“إن كان زواجًا فهو زواجٌ فعلًا، هل يوجد زواجٌ حقيقي وآخر مزيف؟”
بالطبع، كانت إليسا أكثر من يوقن أن هذا الزواج مزيف، لكنها لم تجد داعيًا لتحطيم أوهام فتاةٍ صغيرة تؤمن بالحب.
لكن ما قالته ريا بعد ذلك كان غير متوقع.
“لا يصح….سيادتنا يجب أن تتزوج شخصًا طيبًا حقًا.”
“أليس الزواج أدريان أوبرون مصاهرةً ممتازة، بل فوق ما أستحق؟ الجميع يقول ذلك.”
“بالطبع لا!”
قالت ريا ذلك بحزم وهي تشد ذراع إليسا.
“إياكِ أن تقولي هذا الكلام في أي مكان. ولا تختلطي بمن يقولونه. مفهوم؟”
وأضافت بصوتٍ متذمّر سكران، فوضعت إليسا يدها على جبينها.
كيف تتعامل مع هذه الآنسة الصغيرة الثملة؟
“لماذا؟ لماذا لا؟ باقي الآنسات يقلن أنهن يتمنين حتى رقصةً واحدة مع أدريان. و أنتِ لا؟”
“السيد أوبرون من الشمال. وهذا يعني أنكِ ستذهبين يومًا ما إلى الشمال. وعندها لن تعودي أدميرالنا بعد الآن.”
“…….”
“أنتِ الأجمل حين تكونين في البحر. لذلك….السيد أوبرون لا يصلح.”
“….…”
“لكن….بما أنكِ تقولين أنكِ تحبينه، وبما أنكِ تقولين أنه شخصٌ طيب، فسأتغاضى عن الأمر مرةً واحدة فقط.”
أنهت ريا كلامها على هواها، وفي اللحظة التي كانت ستسقط فيها من شدّة الثمالة بين ذراعي إليسا، امتدت ذراعٌ فجأة وأمسكت بها، مانعةً إياها من لمس إليسا.
“أدريان أوبرون؟”
___________________
جا ابو العيال اخيرا✨
ريا ذي كيوت تجنن وشكلها حلوه بعد اطالب بولد الحلال ياخذها 🤏🏻
التعليقات لهذا الفصل " 24"