“… كلامك صحيح.”
أقرّ جايد بكلام مييل دون حتى أن يحاول الاعتراض عليه، وهو أمرٌ غريب أثار استغرابها، إذ لم تعتد هذا النوع من الرد منه.
في الرواية الأصلية، كان جايد شخصًا أنانيًّا، شديد التعلّق، لا يبالي بأحد سوى البطلة، ويتعامل مع الآخرين ببرودٍ وجفاء.
نشأ منذ صغره في برج السحر وقد اختير ليكون وريثًا لسيد البرج.
ونظرًا لأن البرج كان يعجّ بالسحرة، فقد كان نظامه قائمًا على مبدأ “ الأقوى يعلو“ ، لذلك، كان جايد على دراية تامة بقوته منذ طفولته، وتطبع على احتقار من هم دونه.
صحيح أنه لم يكن يُظهر ذلك صراحةً بفضل تعليمات سيد البرج السابق، لكنه لم يكن يخفي استعلاءه، كما لم يكن يعبأ بمشاعر الآخرين مطلقًا.
بل وكان يمتلك جانبًا قاسيًا كذلك؛ فبعض أولئك الذين آذوا البطلة لوين في الرواية، ماتوا على يده.
‘ من حسن الحظ أنه لم يحدث أن قَتل سيد البرج أحدًا من داخل البرج.’
على كل حال، فإن مييل التي راقبت جايد عن كثب طيلة هذه الفترة، لم تكن تراه شخصًا حسن الطبع.
يكفي النظر لطريقته في التعامل معها خلال العامين الماضيين، لتدرك أنه لم يكن يرى فيها أكثر من تابعة يمكن تجاهلها.
ولهذا كانت قد هيأت نفسها لتلقي غضبه.
لكن، ويا للمفاجأة… لم يغضب! بل وافق على كلامها!
كانت واثقة من أنه سينفجر، لأنها في النهاية تلميذته، وهو لم يكن يطيق وجودها أصلًا.
حتى لو كان نص الرسالة مجرد “ عودي إلى برج السحر“ ، فالمقصود الضمني واضح: “ تعالي وابحثي عني“.
ومع ذلك، فقد تجاهلت هذا الأمر علنًا… وكان من المفترض أن يقابل تصرفها بالتوبيخ.
لكن ردة فعله كانت باردة بشكل غريب، بل بدا وكأنه اقتنع بكلامها!
‘… هذا غريب حقًا.’
في تلك اللحظة، كان الاثنان قد غادرا قاعة الطعام واتجها إلى غرفة الاستراحة في الطابق ذاته.
كان جايد واقفًا عند النافذة يحدّق في الخارج، بينما كانت مييل تراقبه من بعيد، حذرة، تدرس تصرفاته.
ساد بينهما صمتٌ ثقيل.
‘ يبدو طبيعيًّا من الخارج… لكن هناك شيء مختلف، شيء غير مريح. هل طرأ عليه تغيير؟‘
هل حدث شيء خلال الشهرين اللذين غابت فيهما عن البرج؟
وأثناء تفكيرها، التقت نظراتها بعينيه الداكنتين المائلة للحمرة.
لقد التفت نحوها فجأة بعدما كان يحدق خارج النافذة طوال الوقت.
“ مييل.”
ناداها بصوت خافت. فعدّلت من وقفتها المائلة وردّت عليه:
“ نعم؟“
لكن جايد لم يجب، واكتفى بالنظر إليها بصمت.
‘ ما الأمر؟ إن كان لديك ما تقوله، فقله. أنا مرهقة حتى الموت.’
ولا يزال يحدّق بها دون أن يرمش. عندها بدأ وجه مييل بالتجهم قليلاً.
‘ هل أكل شيئًا فاسدًا؟‘
وفجأة، احمرّت أطراف عينيه، ثم خفَض رأسه ببطء، فزالت النظرة المثبتة عليها.
‘ هـ… هل كان يبكي؟ لـ،لا يمكن.’
هذا مستحيل. هذا الرجل هو سيد البرج، أستاذها…
لا يُعقل أن يبكي أمامها. بل لا يمكن تخيّل أن هذا الشخص يعرف البكاء أصلًا.
فتخلّت عن الفكرة سريعًا، وأقنعت نفسها بأن شيئًا ما دخل عينه، لا أكثر.
“… أنتِ أصغر بكثير مما كنت أتذكر.”
تمتم جايد بكلماتٍ غير مفهومة، مما دفع مييل إلى إمالة رأسها باستغراب.
‘ ما الذي يقصده؟‘
لم تفهم مغزى كلامه، بل ولم تكن متأكدة إن كان يخاطبها هي أصلًا، بالنظر إلى شتات نظره.
فقررت تجاهل كلامه وفتح فمها لتتحدث.
“ سيدي المعلم.”
رفع جايد رأسه عند سماع صوتها الجاف.
“ إن لم يكن لديك ما تقوله… فسأنصرف الآن.”
كانت تظن أن مرافقتها له ستكشف سبب استدعائه لها، لكن جايد لم يتحدث بشكل واضح.
ولحسن الحظ، لم يُكلّفها بأي مهام بعد، فربما تنجو من بعض التعب.
لذا، بعد أن انحنت له احترامًا، همّت بمغادرة غرفة الاستراحة، غير أن صوته استوقفها:
“ ذلك… آسف يا مييل. لم أُحسن فهم مشاعرك أو تقديرك.”
اتسعت عينا مييل بدهشة.
رجلٌ لم يفكر يومًا إلا بنفسه، يعتذر؟
كلماتٌ لم تتخيل يومًا أن تسمعها من فم سيد البرج… كلمات أربكتها وجعلتها عاجزة عن استيعاب ما قاله بعدها.
كأن أذنيها توقفتا عن التقاط كل ما جاء لاحقًا، وبقي اعتذاره وحده عالقًا في أعماقها.
جايد… يعتذر؟ يشعر بالذنب؟ ما الذي يحدث بحق خالق السماء؟
‘ يقولون إن من يتغيّر فجأة يموت… هل أصيب بمرضٍ قاتل؟‘
الاحتمال بدا منطقيًا بالنظر لحالته الغريبة.
“ أعتقد أنني كنت مهملًا في حقك طوال الفترة الماضية.”
“ عفوا؟“
“… ولم أُحسن فهمك أبدًا.”
قالها كأنه يحدّث نفسه، بصوت شارد وكلمات مبعثرة.
‘ ما هذه الهراء الآن؟‘
لم تعد مييل قادرة على فهم ما يقوله أو ما يدور في ذهنه.
“ على كل حال، من الآن فصاعدًا، سأحرص على القيام بواجبي كمعلمك.”
وكان هذا هو استنتاجه أخيرًا.
أنه تقاعس سابقًا، لذا عليه الآن أن يؤدي دوره كأستاذها بجدية.
ولا أحد يعلم سبب هذا التحول المفاجئ في تفكيره.
‘ لا أستاذ ولا غيره… كل ما أريده الآن هو أن أرتاح.’
أرادت قولها بصوتٍ عالٍ، لكنّها ابتلعتها بصعوبة، وأجابت بصوت هادئ محتشم:
“ لا بأس يا سيدي المعلم.”
‘ سأتصرّف كأن شيئًا لم يتغير، وسأبقى هادئة… فأنا لا أرغب أصلًا في تعلم المزيد من السحر.’
لكنّ جايد كان مصرًّا بشدة.
قال بنبرة حازمة:
“ أنا لست بخير طوال الفترة الماضية، كنتِ تتعلمين السحر من شولاين، أليس كذلك؟“
“ نعم، هذا صحيح، ولكن…”
“ سأُعلّمك أمورًا أعظم بكثير من تلك التعاويذ التافهة. لن أتوقف عند نُزول النيازك والعواصف السحرية، بل سألقّنك أقوى أنواع السحر!”
أجابت مييل بتنهيدة ثقيلة:
“ أنا لا أطمح لتدمير العالم، لذا لا حاجة لي بتعلم كوارث طبيعية، شكرًا.”
لكن جايد لم يتراجع، بل واصل بحماس.
سيتجاوز الدروس القوية إلى تعليمها فنون التحوّل، والتخفي، والتمويه، وصناعة الجرعات، بل وحتى تربية التنانين…
أمام هذا السيل من الشرح، رفعت مييل الراية البيضاء أخيرًا.
حديثه كان مرهقًا للغاية، جعلها تشعر بالإعياء، وكل ما أرادته في تلك اللحظة هو العودة إلى غرفتها والراحة.
قالت باستسلام:
“ حسنًا، إذن سأذهب الآن.”
ثم انحنت احترامًا، وغادرت الغرفة. كانت مرهقة جسديًّا، ومنهكة نفسيًّا.
لم تتوقع أن يكون أستاذها، الذي لم تره منذ زمن، قد تغيّر بهذا الشكل الغريب.
لا يكتفي بأن يتقبّل كلامها، بل يعتذر أيضًا، ويتفوه بكلام لا يُفهم، ولا يطلب منها عملاً، بل يعرض تعليمها السحر بنفسه!
هل هو فعلًا ذلك الشخص الذي كان لا يبالي بها طوال الوقت؟
كان تصرفه غريبًا جدًّا، مما جعل القلق يتسلل إلى قلبها. بدا جايد وكأنه شخص آخر تمامًا.
‘لا يكون …’
لمعت فكرة في ذهنها:
‘ أن أستاذي قد جن.’
وهكذا، وبعد أن وصلت إلى هذا الاستنتاج، قررت أن تستشير شولاين قريبًا.
“هاه …”
ما إن خرجت مييل من الغرفة، حتى تنهد جايد بارتياح.
حين التقت عيناه بعينيها، شعر بحرارة مفاجئة تغمر عينيه.
في تلك اللحظة، تراءت أمامه صورة مييل وهي تحتضر، تضحي بحياتها لتنقذه.
جسدها الصغير المتهالك، ونظراتها الباهتة قبل أن تنطفئ روحها، ويديها الباردتين وقد فقدتا الحياة…
لم يستطع نسيان تلك الذكرى. لم يكن في حياته من أحبّه بذلك الصدق والحرارة.
كاد أن يبكي أمامها، لكنه بالكاد تماسك وسيطر على مشاعره.
ثم نطق بكلمات لم يكن يتوقع أن يقولها.
اعتذر لها.
جايد لم يكن يعتذر لأحد. مكانته لم تكن تسمح له بذلك. وإن أخطأ، لا أحد يُطالبه بالاعتذار.
لكن مييل كانت مختلفة.
هي الوحيدة التي أظهرت له ولاءً ومحبة صادقة، لذا شعر أن الاعتذار لها لم يكن بالأمر الكبير. لقد أهملها سابقًا، ولم يدرك مشاعرها.
لذا، قرر في هذه الحياة الجديدة، أن يؤدي دوره كأستاذها بكل إخلاص، وأن يُعوضها عن تلك السنوات التي قضاها غافلًا عنها.
كان ذلك نوعًا من رد الجميل… وكفّارة عن لامبالاته السابقة.
قال لنفسه مبتسمًا:
‘ لحسن الحظ، بدا أنها سُرّت بالأمر…’
ابتسم بهدوء. بدا عليه الارتياح بعد أن اعتذر لها ووعدها بأن يُعلمها السحر بنفسه.
صحيح أنها حاولت رفض عرضه بكلمات لا تعبّر عما بداخلها، لكنها كانت مرتبكة فقط.
ولأنه فهم ذلك، لم يترك لها فرصة للانسحاب، بل أصرّ وأغراها بأنواع من السحر كانت تثير الفضول. وفي النهاية، استسلمت.
قال وهو يهمّ بالمغادرة:
“ ما الذي سأبدأ به في أول درس؟“
خرج من غرفة الاستراحة وتوجه مباشرة إلى مكتبته الخاصة. أراد أن يجهز دروسه الأولى.
كان لديه الكثير من الأشياء التي أراد أن يُعلمها لمييل.
ولم يكتفِ بيوم واحد، بل أغلق على نفسه المكتبة يومين كاملين يُحضّر فيها بكل حماس.
وخلال ذلك الوقت، كان يشعر بشيء دافئ يملأ قلبه، يجعله يبتسم دون أن يدري.
لكنّه، حتى حينها، لم يكن يعرف ما هو هذا الشعور حقًّا.
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
قناتي تيليجرام للروايات :
@snowpunny
التعليقات لهذا الفصل " 9"