الطابق الأعلى من برج السحر، غرفة سيد البرج.
كانت أشعة الشمس تنهمر من خلال نافذة عملاقة يزيد ارتفاعها عن مترين.
لكن حرارة شمس الصحراء اللاهبة تحوّلت بفعل سحر النافذة إلى دفء لطيف يبعث على الراحة.
على سطح المكتب الذي غمره الضوء الدافئ، توقفت يد تمسك بريشة كتابة قبل أن تلامس الورقة.
“ ما الذي يفترض بي أن أكتبه؟“
كان جايد عاجزًا عن كتابة أي كلمة بسهولة.
لقد أرسل العديد من الرسائل في السابق، ومع ذلك لم يكن يحتار فيما يكتبه.
كان يكتب فقط ما هو ضروري. أما الآن، فالأمر مختلف.
لم يكن يدري ما الذي ينبغي أن يقوله لـ مييل.
حتى بعد التفكير مطولًا، لم يصل إلى نتيجة.
لقد مرّت بضعة أيام منذ أن عاد بالزمن إلى الوراء،
ومنذ ذلك الحين، خالج جايد شعور غريب لم يفارقه.
في البداية، لم يكن سوى الذهول.
كان من الصعب عليه استيعاب أنه عاد عامين إلى الوراء، إلى ما قبل يوم وفاته.
لكن ما لبث أن غمره سؤالٌ كان قد راوده في تلك اللحظة:
“ لماذا حاولت مييل إنقاذي؟“
وما إن طرأ اسمها على ذهنه، حتى بدأت الأسئلة تتوالى، واحدًا تلو الآخر.
لقد بدأت ذكريات ماضية تهاجمه…
أمور كان قد مرّ بها من قبل، وها هو الآن ينظر إليها بعينٍ مختلفة.
في البداية، لم يدرك ما يجري، لكن لم يلبث أن فهم أن كل ما حدث له قبل عودته بالزمن كان يبدو وكأن شخصًا ما كان يحرّكه بخيوط خفية.
عندها، وضع أفكاره عن مييل جانبًا، وبدأ بإعادة النظر في حياته.
ليكتشف أن هناك الكثير من الأمور الغريبة.
وأكثر ما أثار استغرابه كان هوسه الشديد بـ لوين.
تلك المرأة التي، في ذلك الحين، كان يتوق إليها بشدّة.
لا يعرف السبب، لكنه منذ اللحظة الأولى التي رآها فيها، شعر وكأن شيئًا ما جذبه إليها بشكل غير طبيعي.
كل اهتمامه كان منصبًّا عليها وحدها، وكل تصرفاته كانت لأجلها.
قاتل ريهارت، الذي كان دائمًا إلى جانب لوين، قتالًا دمويًا، وفي النهاية، خسر.
تلك الفترة، كان يشعر وكأن ضبابًا كثيفًا يملأ رأسه.
وكان يعيش حياته فقط لأجل لوين، كما لو أن أحدهم أملى عليه ذلك.
بل إنه كلما حاول تذكّر التفاصيل بوضوح، شعر وكأن حجابًا خفيًّا يحجب رؤيته.
لكن الآن، لم يعد الأمر كذلك.
ذهن جايد صافٍ، كأنه أفاق من حلمٍ طويل.
اختفى الضباب، واستعاد وعيه الكامل.
حتى عندما يتذكّر وجه لوين أو اسمها، لا يشعر بأي شيء.
بل العكس، يندهش من برودته تجاهها.
حتى ريهارت، الرجل الذي كان يبغضه ويزدريه، لم يعد يثير فيه أي شعور.
وكأن مشاعره قد جُرّدت منه.
“ لماذا؟ ما الذي أعجبني في تلك المرأة حتى تعلّقت بها هكذا؟“
لم يستطع طرد هذا السؤال من ذهنه،
وقضى ثلاثة أيام وهو يفكّر.
“ لماذا قمت بتلك الخيارات آنذاك؟“
“ لماذا كنت مهووسًا بها إلى هذه الدرجة؟“
رغم كثرة الأسئلة، كانت النتيجة واحدة:
ما حدث في الماضي لم يعد يهم.
بل إن مثل تلك الأمور لن تتكرر أبدًا.
فهو لم يعد ذلك الرجل الذي كان عليه آنذاك.
لم يعد هناك مكان لتلك الحماقات مرة أخرى.
ما حدث في حياته الماضية كان نتيجة قراراته وقتها،
لكن إن واجه الآن نفس الخيارات، فسيختار طريقًا مختلفًا تمامًا.
وهكذا، قرر جايد أن يطوي صفحة الماضي.
فلا جدوى من التفكير فيها؛ لن يجد إجابة، وسينتهي به الأمر في متاهة من الارتباك.
لذا، قرر أن يعيش حياته الحالية بأقصى قدر من الوعي والجدية.
وبعدما اتخذ هذا القرار، توجّه مباشرة إلى المكتبة.
كان يتساءل عن سبب منحه فرصةً ثانية.
فكّر أنه ربما، فقط ربما، هناك سحر زمني لا يعرفه حتى هو سيد البرج.
لكنه، رغم تقليبه لكل كتاب في المكتبة، لم يجد شيئًا من هذا القبيل.
ثم بدأ يبحث بين السحرة المقيمين في البرج، أولئك الذين أبدوا اهتمامًا بسحر الزمن.
“ سحر الزمن؟ لقد قرأت الكثير من الأبحاث عنه،
لكن لا يوجد أي حالة نجاح مؤكدة حتى الآن.”
“ يُقال في الروايات القديمة إن الحكيم العظيم نفسه حاول ذلك وفشل.”
حتى بين السحرة، لم يكن هناك من يعرف شيئًا مفيدًا.
منذ أن وُجد السحر في الإمبراطورية، حاول السحرة التلاعب بالزمن،
لكن لم ينجح أحد.
ببساطة، سحر الزمن مستحيل.
وإن كان كذلك…
فقد طرأت في عقل جايد فرضية واحدة فقط.
إن لم يكن ما حدث سحرًا، فلا بد أن يكون شيئًا آخر…
ربما كان حاكم ما، أشفق عليه، ومنحه هذه الفرصة.
رغم أن جايد لم يكن يؤمن بالحكماء قط،
إلا أنه لم يجد تفسيرًا منطقيًا غير ذلك.
وها هو اليوم، ذلك الذي لطالما كان ملحدًا، يجلس غارقًا في حيرة من أمره، لأن فكرة وجود حاكم بدأت تزرع الاضطراب في ذهنه من جديد.
ومرة أخرى، أمضى يومين كاملين في التفكير، حتى توصّل إلى قرار.
“ سواء أكان ماضٍ أم عودة بالزمن… لا جدوى من الانشغال بذلك، من الأفضل أن أركّز على ما عليّ فعله فحسب.”
لقد مرّ الآن قرابة ستة أيام منذ أن عاد بالزمن إلى الوراء. ولم يتمكن سوى في هذا اليوم من البدء في فعل ما ينبغي عليه فعله.
[ مييل، لدي ما أقوله لك. عودي إلى برج السحرة فوراً. ]
“… ليس جيداً .”
نظر جايد إلى الجملة التي كتبها بتثاقل على الورقة، وتنهد بخفة.
ثم ما لبث أن مزّق الورقة بصوت خافت، وأخرج أخرى جديدة.
وبينما كان يستعد للكتابة مجدداً، وجد نفسه مثقلاً بالتفكير في تلك الفتاة التي لم تفارق ذهنه.
لم يتذكر مييل إلا البارحة، بعدما كان قد نسيها مؤقتاً بسبب كثرة انشغاله بالأفكار المختلفة.
فبينما كان منشغلاً بإنهاء الأعمال المتراكمة في البرج، علم أنها خرجت حالياً في مهمة ما.
وحينها، عادت إلى ذهنه الأسئلة التي حاول دفنها داخله.
“ مهلاً… لمَ حاولت مييل إنقاذي؟ لا أظن أن لديها سبباً يدعوها لذلك.”
عاد جايد بذاكرته إلى اللحظة التي دخلت فيها مييل البرج لأول مرة.
منذ أول لقاء، لم يُعجَب بها قط.
لقد قبل بوجودها داخل البرج فقط لأن الحكيم العظيم طلب ذلك، لكنه لم يكن راضياً عن إدخال ساحرة لم تثبت قدراتها بعد.
حتى بعد أن أصبحت تلميذته، لم يكلّف نفسه بتعليمها أي سحر. كل ما فعله هو إرسالها في مهمات متتالية.
سمع لاحقاً أنها تتعلم السحر على يد الشيخ شولاين، لكنه لم يُعر الأمر اهتماماً.
كان من الطبيعي أن لا تكنّ له مييل أي مودة.
فمنذ البداية كانت العلاقة بينهما متصدّعة، وقد اتسعت الفجوة لدرجة بات من المستحيل إصلاحها.
حتى إنه لاحقاً لم يتحدث إليها إلا في المناسبات السنوية الخاصة بالبرج.
ومع ذلك، لماذا كانت مييل حاضرة في قلعة شوليدن، في اليوم الذي لقي فيه حتفه؟
بل ولمَ ألقت بنفسها عليه محاولة إنقاذه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة؟
“ لماذا؟“
نادراً ما يضحي المرء بنفسه من أجل الآخرين.
ربما يفعلها شخص من أجل عائلته، أو صديقه المقرب، أو حبيب لا يستطيع العيش بدونه. لكن عدا ذلك، الأمر شبه مستحيل.
“ أيمكن أن تكون… ؟!”
خطرت في ذهن جايد فكرة لم يستطع تجاهلها.
“ هل كانت مييل تُكنّ لي مشاعر حب؟“
وحين أعاد التفكير، وجد أن كل شيء بدأ يتّضح.
يوم لقائهما الأول، حين كانت تحدّق فيه بفم مفتوح كالمندهشة.
ثم كيف كانت تنفّذ كل المهام التي يطلبها منها دون تذمر أو شكوى.
بل وحتى عندما كان منشغلاً بامرأة أخرى، كانت تراقبه من بعيد، وفي النهاية ظهرت لتنقذه حتى على حساب حياتها.
وفجأة، اجتاحت قلبه مشاعر لا يمكن وصفها.
رغم أنه لم يكن أستاذاً حقيقياً لها، ولم يمنحها شيئاً سوى الأعمال، إلا أنها ظلّت تحبّه.
لقد كانت تحمل له من المشاعر ما يجعلها تضحي بنفسها من أجله.
لم تكن ملامحها الباردة تخبر بشيء، ولهذا لم يستطع أن يدرك تلك المشاعر حينها، لكنه الآن أدركها، بعد فوات الأوان.
تنهد جايد.
مشاعر متداخلة اجتاحت صدره، أسف، وامتنان، وأشياء لا يمكن أن تُقال.
ولذلك قرر أن يفعل ما لم يفعله من قبل. أن يمنحها ما حرمه عنها سابقاً.
لكن لفعل ذلك، كان عليه أولاً أن يراها.
لذا قرر أن يرسل لها رسولاً بعد غياب طويل.
غير أنه لم يكن يعرف ما الذي يجب أن يكتبه في الرسالة.
“ لا يمكنني حتى أن أسأل شولاين عن الأمر…”
مرّر يده بين خصلات شعره وهو يئن من الحيرة. لقد مزق ما يقارب عشر أوراق وهو يحاول صياغة كلمات مناسبة.
كان يريد أن يوصل الرسالة دون أن يُظهر مشاعره، وبنبرة هادئة ومحايدة، لكن لم يعرف كيف.
وبعد طول تفكير، بدأ يكتب أخيراً بخط هادئ.
حتى اكتملت الرسالة التي احتوت فقط على الغرض المطلوب:
[ عودي إلى البرج فوراً.]
تردد قليلاً إن كان عليه إضافة شيء آخر، لكنه هز رأسه نافياً، ثم نفخ في الورقة طاقته السحرية.
فتوهّجت الورقة بلون أحمر يعكس طاقته، وتحولت إلى شكل جديد، ثم طارت من النافذة المفتوحة، متوجهة إلى وجهتها.
في تلك الأثناء…
كان شولاين، أحد شيوخ البرج، يخرج دفتر ملاحظاته على عجل، فقد رأى رسالة تنطلق من غرفة سيد البرج.
وبسرعة، دوّن تاريخ وساعة إرسالها. إذ بدأ منذ بضعة أيام في تسجيل كل تحركات سيد البرج.
وكان ذلك في اليوم الذي شعر فيه باضطراب هائل ينبعث من طاقته السحرية.
منذ ذلك الحين، بدأ يراقب سيد البرج سراً، بعدما لاحظ أن سلوكه بات غريباً.
صار فجأة يبحث عن معلومات تخص سحر الزمن، وأصبح يلازم غرفته لساعات طويلة دون أن يظهر.
كان الأمر مريباً فعلاً، وكأنّه يحاول التورط في سحر محظور.
لذلك بدأ شولاين يسجل كل تصرفاته المريبة.
“ أتمنى فقط أن لا يكون يتورط في سحر محظور…”
قالها وهو يمرّر يده على لحيته بوجه مليء بالقلق.
حينها، صاح أحد السحرة من خلفه وهو يراقب ما يفعل:
“ شولاين! ما الذي تفعله في هذا الوقت؟ نحن مشغولون!”
“ آه، يا إلهي… لقد شرد ذهني، عذراً عذراً! سآتي حالاً.”
ركض عائداً إلى عمله، غير مدرك أن مخاوفه، رغم غرابتها، قد لا تكون بعيدة عن الحقيقة…
ترجمة : سـنو
واتباد :
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 7"
شكرا علي ترجمتك الممتعه ولا تنسينا بفصول جديده 😍😍😍🥰
سوء فهم مش طبيعي مع البطل 😭🤣🤣🤣🤣