معلمي قد جُنّ [ الفصل 63 ]
توقّفت العربة عند مدخل أحد الأزقّة الخلفيّة القريبة من ميناء بيرن.
كونها عربة ساحرٍ عظيم، لم يكن من الحكمة جذب الأنظار إليها.
طَق—
نقر جايد بأصابعه بخفة، مفعّلًا تعويذة تخفي العربة عن أعين العامة.
شدّ الثلاثة أرديتهم ورفعوا أغطية رؤوسهم.
فميناء بيرن يعج بالسفن والناس، وهذا يعني… كثيرًا من العيون المتطفّلة.
ترجّلوا بحذر، متفادين لفت الانتباه.
ولحسن الحظ، كان الزقاق هادئًا.
تسلّل كوسيليكو برأسه من تحت قبّعة مييل، يراقب ما حولهم بفضول.
“ تبقّى خمس دقائق لإقلاع سفينة لجزيرة هاربن!”
“ عشر دقائق على انطلاق جولة كوروبو البحرية!”
كما هو متوقع من مدينة ميناء شهيرة، كانت الأجواء صاخبة ومزدحمة.
النداءات تتعالى باستمرار، والركّاب يتدافعون هنا وهناك.
وكانت منطقة بيع التذاكر أشد ازدحامًا، تتنوّع فيها الأعراق والهيئات.
توجّهت مييل برفقة جايد وتوروي إلى هناك.
‘ هذا العالم بحاجة ماسّة إلى نظام حجز إلكتروني…’
تمتمت مييل في نفسها وهي تنضم إلى طابور التذاكر.
يقدّم ميناء بيرن طرقًا بحرية إلى قارات وجزر لا تُحصى، ولهذا كان الازدحام مبرّرًا.
وكان من بين الحشود أقزام ومخلوقات نصف حيوانية نادرًا ما تُرى، وأشخاص ذوو بشرة بلون غير مألوف.
‘ بشرة زرقاء… أيّ عرق هذا؟‘
كما صادفت عددًا قليلًا من الأشخاص بملامح آسيوية شرقية، على الأرجح قادمون من القارة الشرقية.
رؤية هؤلاء أثارت بداخلها إحساسًا غريبًا بالألفة.
بالطبع، لا يشبهونها في هيئتها الحالية، ولكن…
‘ لا بد أن الذكريات من حياتي السابقة هي السبب.’
ابتسمت برقة وتقدّمت خطوة بخطوة مع الطابور.
“ أغلب الظن أنهم من القارة الشرقية“
تمتم جايد بصوت منخفض.
“ نعم. يختلفون عنّا كثيرًا، لكن لهم جمالهم الخاص.”
ردّ توروي بنبرة هادئة.
وأثناء تبادل الحديث، وصل دورهم أخيرًا.
قالت مييل:
“ ثلاث تذاكر إلى القارة الشرقية، من فضلك.”
بطبيعة الحال، تقدم توروي للدفع.
وكان السعر باهظًا، فالسفر إلى القارة الشرقية ليس بالأمر الهيّن.
‘ يعادل ذلك أجر شهر كامل لعامة الناس… لا عجب أن معظمهم لا يحلمون حتى بهذه الرحلة.’
تأمّلت التذاكر في يدها.
ورغم أن هذا المبلغ لا يُقارن بدخلها كساحرة، فإنه يظل رقمًا كبيرًا.
“ يبدو أن أمامنا بعض الوقت قبل أن تُبحر السفينة. هل نتمشّى قليلًا؟“
قالت مييل وهي تُسلّم التذاكر للرجلين.
“ قرابة ثلاثين دقيقة متبقية.”
“ لنأكل شيئًا قبل أن نصعد.”
اقترح الاثنان.
أومأت مييل، وكانت المنطقة المحيطة بالميناء قد تحوّلت طبيعيًا إلى سوق تجاري صاخب.
“ أوه، ذلك المكان يزدحم بالناس.”
أشارت إلى مطعم صغير يعج بالزوار.
لم يكن فخمًا، لكن رائحة اللحم المشوي كانت قوية لدرجة لا تُقاوم.
“ همم. يبدو أنه مفضّل لدى السكان المحليين.”
“ إن أردتِ تجربته، فلنجربه.”
شقّ توروي وجايد طريقهما إلى الداخل بسهولة، فقد كانت أجسادهما الضخمة تفتح الطريق وسط الزحام.
لحقت بهما مييل.
داخل المطعم، تنوّع الزبائن لفت النظر.
وتمكّنوا بصعوبة من حجز الطاولة الأخيرة.
‘ يبدو أن الزبائن لا يمكثون طويلًا، الطعام يُقدّم بسرعة على الأرجح.’
نظرت مييل حولها، لكنها لم تجد قائمة طعام، ما أثار حيرتها قليلًا.
“ ثلاث وجبات!”
صرخ أحد الموظفين ووضع الطعام أمامهم.
اتّضح أن هذا المطعم يقدّم طبقًا واحدًا فقط.
‘ غالبًا هذا النوع من المطاعم هو الأفضل.’
أومأت بجدية وهي تتأمل الطبق:
قطع من لحم الخنزير البني اللامع، مُغطاة بصلصات مختلفة.
‘ لنجرّبه…’
تذوّقت مييل أول لقمة بحذر، فاجأها الطعم: مزيج بين الحلاوة والملوحة والحرارة.
‘ يا إلهي. مذهل!’
اللحم كان متوازنًا تمامًا بين الدهن والعصب.
وبلا وعي، بدأت تلتهمه برغيف الخبز المرافق.
رؤية مييل وهي تأكل بشهية، دفعت الرجلين إلى حمل شوكاتهم أيضًا.
“ لذيذ حقًا. عينك لا تخطئ يا مييل. كما هو متوقّع من تلميذتي.”
ابتسم جايد وهو يراقبها.
انسدل خصلة من شعر مييل إلى الأمام، فمدّ يده دون تفكير ورفعها بلطف خلف أذنها.
“ شـ.. شكرًا لك.”
تمتمت وهي تبتسم بخجل، قبل أن تتابع تناول طعامها.
في تلك اللحظة، تجمّدت ملامح توروي للحظة، لكنه سرعان ما تمالك نفسه.
“ هاك يا كوكو. كُل.”
مزّقت مييل قطعة لحم وناولتها إلى داخل قلنسوتها.
خرج كوسيليكو بنصف رأسه وبدأ يلتهمها بنهم.
“ آآه! هذا الطعم…!”
غرّد الطائر بحماسة قرب أذن مييل، التي تابعت طعامها مبتسمة.
“ هذا ألذ طبق لحم أتناوله في حياتي!”
“ أليس كذلك؟ ظننتُ الشيء نفسه.”
استمتعوا جميعًا بوجبة دافئة ومشبعة.
وبعد انقضاء الثلاثين دقيقة، غادروا المطعم متجهين نحو منطقة الصعود إلى السفينة المتجهة للقارة الشرقية.
كانت السفينة راسية في عمق الميناء.
“ إنها ضخمة…”
همست مييل وهي تخرج دواء دوار البحر وتشربه.
ثم ناولت كوسيليكو جزءًا منه.
“ لابدّ أن تكون كذلك. فطريق القارة الشرقية طويل.”
علّق توروي.
“ نعم. الرحلة تستغرق وقتًا، لذا هم بحاجة إلى سفينة تستوعب مؤنًا كثيرة.”
أوضح جايد.
أومأت مييل، واصطفّ الثلاثة في الطابور.
كان الحشد قد بدأ بالفعل بعرض التذاكر على المفتشين عند المرسى.
وأكثر من نصف الركاب بدوا من القارة الغربية، لكن بينهم أعراق مختلفة كذلك.
‘ إن لم تخنّي الذاكرة، فالرحلة إلى القارة الشرقية تستغرق يومًا تقريبًا.’
تقدّمت خطوة مع الطابور، حين—
اندلع فجأة شجار خلفهم.
“ أرجوكم! دعوني أصعد!”
صرخ شاب يائسًا، محاولًا التسلّل إلى السفينة.
أسرع موظفو الميناء لإيقافه.
‘ ما الذي يحدث؟‘
التفتت مييل بطبعها نحو مصدر الضجة.
“ أرجوكم! عليّ إيصال هذا إلى الآنسة… حياتها قد تكون معلّقة بها!”
كان الرجل يحمل كيسًا صغيرًا في يده، يتوسّل، لكن الموظفين ظلّوا متشبثين بالرفض.
“ نعتذر يا سيدي، لكن لا يمكنك الصعود من دون تذكرة.”
“ إن لم أصعد اليوم، فقد تموت!”
كانت الدموع تلمع في عينيه وهو يستجديهم بشدة.
‘ يبدو في مثل سني تقريبًا…’
ما الشيء الذي يحمله وجعله يتوسّل بهذا الشكل؟
“ أقسم أنني لم أُضِع التذكرة عمدًا! لقد اشتريتها فعلًا، اسألوا الموظف عند الكشك!”
“ مع ذلك، ومن دون إثبات مادي، لا يمكننا السماح لك بالصعود.”
اشتد الجدل، وبدأ الركّاب من حولهم يتذمّرون.
“ إن كان قد أضاعها، فليشترِ أخرى!”
“ كفى ضجيجًا، إنه يثير الفوضى فقط…”
لكن رغم الانتقادات المتزايدة، لم يتوقف الشاب.
كان على وشك الانهيار.
‘ إنه لا يكذب.’
نظرت إليه مييل بدقة.
ملابسه من الطراز الغربي، لكنها لا توحي بأي رفاه.
‘ يبدو إنه من عامة الناس، على الأرجح… ولهذا يستجدي بهذا الشكل.’
فثمن التذكرة إلى القارة الشرقية ليس بالبسيط.
عادةً، لم تكن مييل لتتدخّل.
كغيرها من المارة.
لكن، منذ أن بدأت تبحث عن تلك المرأة من رؤياها( حلمها)… بدأ قلبها يتغيّر.
“… اعذروني. سأتكفّل بثمن تذكرته.”
قالتها بصوتٍ جعل الجميع يلتفتون نحوها بدهشة.
__
ترجمة : سنو
فتحت جروب تيليجرام يضم هذه الرواية PDF وأقسام طلبات لرواياتي ومستقبلاً نسوي فعاليات وهيك قسم للسواليف عن الروايات ويمديكم ماتسولفون وبس تقرأون ♥️ .
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك : https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 63"