تزامنًا مع تغيُّر الموسيقى، أصبح الإيقاع مناسبًا تمامًا لتحريك الجسد برفق.
ما إن بدأت حتى أمسكت روبينا بيد مييل وتوجهت بها مباشرة إلى وسط قاعة الحفل.
“ مييل، هيا نرقص معًا.”
لم يكن أمام مييل سوى اللحاق بها، فقد سُحرت بابتسامتها.
وما أهمية عدم إجادتها للرقص، ما دامت نجمتها المفضلة تطلب مشاركتها هذه اللحظة؟
“ نعم، يا صاحبة السمو.”
تشابكت أيديهما وضحكتا بخفة، تتمايلان مع النغمات برقص بسيط.
راقبا جايد وتوروي المشهد بنظرات راضية، وإن كانت أعينهما موجهة بالكامل إلى مييل دون غيرها.
وفي لحظة ما، تلاقت نظرات الرجلين، ولو لثانية لم تكتمل وسرعان ما صرف كل منهما بصره ومضى في طريقه.
توجه توروي نحو مجموعة من النبلاء كانوا بانتظاره، فيما اتجه جايد إلى الإمبراطور الذي لم يلتقِ به منذ زمن.
وبخطوات واسعة واثقة، وقف جايد أمام الإمبراطور وأدى له تحية تليق بمقامه، وإن لم تكن مُتقنة على الطريقة الأرستقراطية المعتادة.
لكن من ذا الذي يمكنه توبيخ جايد؟ حتى الإمبراطور نفسه بدا سعيدًا فقط بلقائه، غير مكترثٍ ما إذا التزم بالآداب أم لا.
“ مرحبًا بك بعد طول غياب يا سيد البرج.”
“ هل أنت بخير جلالتك؟“
ابتسم الإمبراطور كاروت حتى ارتفعت زوايا فمه إلى قرب أذنيه عند رؤية جايد.
“ هاها، أنا دائمًا على ما يرام. وأخبار برج السحر مؤخرًا تذهلني كل مرة أستمع إليها. أشكركم بشكل خاص على علاج جسد روبينا.”
“ مجرد واجب، رغم أن سحرتنا بذلوا جهدًا كبيرًا.”
“ هاها، بالطبع. ولهذا كافأتهم بما يليق.”
لم يعلّق جايد سوى بابتسامة، كأنما يقول ‘ لكننا نستحق المزيد‘ وقد فهم الإمبراطور المغزى، فحوّل مجرى الحديث.
“ هل سمعت عن الامتحان الذي يُفرض على ولي العهد ليستحق العرش؟“
“ تقصد الاختبار الذي يضعه الإمبراطور الحالي لولي عهده؟“
أومأ كاروت برأسه مؤكدًا:
“ نعم. ومؤخرًا وضعت امتحانًا لـ توروي. أردت من خلاله أيضًا تقريبه من برج السحر.”
“… منّا نحن؟ وما نوع هذا الامتحان؟“
تغيرت نظرة جايد فجأة، واكتسبت حدة لافتة.
“ هاها، لا حاجة لكل هذا الحذر. كل ما في الأمر أن عليه إحضار خطاب توصية مكتوب بخط يد الحكيم العظيم.”
ولأن الوصول إلى الحكيم يتطلب المرور ببرج السحر، فقد استخدم الإمبراطور ذلك كذريعة لإصدار مثل هذا الامتحان.
أما جايد، فما إن سمع التفاصيل حتى ابتسم في داخله أولًا ثم على وجهه.
‘ ذلك الأحمق، لا أمل له في الوصول إلى العرش.’
بينما كان يفكر في ذلك، سأله الإمبراطور:
“ هل تعلم أين يمكن العثور على الحكيم العظيم حاليًا؟“
“ نحن أنفسنا لا نعرف.”
أجاب جايد وهو يرسم على وجهه ابتسامة واثقة.
“ يبدو أن ابني سيعاني كثيرًا إذًا.”
ضحك الإمبراطور بمرح، ثم استأنف حديثه مع جايد، وتناولا أمور الإمبراطورية وبرج السحر.
وفي الوقت ذاته تقريبًا، كانت مييل تلهث أنفاسها، واقفة في زاوية القاعة تحتسي مشروبًا بلهفة.
‘ جلالتها استعادت عافيتها… لكن ما هذه اللياقة البدنية الفائقة؟‘
فقد رقصت روبينا معها ثلاث رقصات متتالية، ولم تتركها إلا بعد أن لاحظت عليها التعب.
ومع ذلك، غادرتها وهي تبدو حزينة، إذ كان كثير من النبلاء ينتظرونها.
في هذه اللحظة، وقعت مييل الوحيدة في مرمى بصر توروي.
“ عذرًا، اسمحوا لي للحظة.”
تحرك توروي مبتعدًا عن النبلاء واتجه نحو مييل.
وللحقيقة، فقد راوده اليوم شعور مفاجئ برغبة في التقدم لخطبتها منذ اللحظة التي رآها فيها.
لكن بالطبع، لم يكن في نيته الإقدام على شيء كهذا الآن.
وقد بدت له، وهي ترقص كأنها جنية تتلألأ تحت ضوء القمر.
“ آنسة مييل.”
اقترب منها توروي مبتسمًا.
أما هي، فقد كانت تشرب من الكأس بسرعة قبل أن ترد عليه:
“ نعم، سموّك؟“
“ هل لي بهذه الرقصة؟“
مدّ توروي يده نحوها بأدب كما يفعل النبلاء، طالبًا رقصة معها وكان من الصعب عليها أن ترفض عرضًا رسميًا بهذه اللباقة.
‘ ماذا أفعل الآن… ؟ أنا لا أعرف أي خطوة من خطوات الرقص.’
نظرت مييل إليه بعينين حائرتين، لكنها في النهاية لم تجد بدًّا من مد يدها نحوه.
وفي اللحظة التي همّت فيها بذلك، سبقتها يد كبيرة وأمسكت بيدها.
“ في الحفلات، من قواعد الذوق أن يرقص الشريك مع شريكته، أليس كذلك؟“
قالها جايد موجّهًا حديثه إلى توروي، وهو يرسم على شفتيه نصف ابتسامة.
ثم بوضع طبيعي، وضع يد مييل على ذراعه.
“ ينبغي أن ترقصي معي يا تلميذتي.”
“ معلمي… أنا لا أجيد الرقص.”
ردّت مييل بارتباك، لكن جايد اكتفى بالابتسام.
“ أعلم.”
رغم ذلك، قادها معه نحو ساحة الرقص.
وبما أن حديث جايد لم يخلُ من منطق، لم يجد توروي ما يبرر اعتراضه، فاكتفى بمراقبتهما وهو يقبض على قبضته بغيظ.
تناهت موسيقى هادئة إلى المكان، وابتسم جايد لـمييل ابتسامة خفيفة.
ثم وجّه يدها لتستقر بخفة على خصره، بينما أمسك يدها الأخرى بلطف.
“ تحركي ببطء… وخفة، هذا كل شيء.”
رفعت مييل نظرها إليه باستفهام، وكأنها تقول ‘ وكيف أفعل ذلك؟‘
وربما لهذا السبب، ما إن بدأ الرقص حتى وطأت مييل قدم جايد، وبدت الضربة غير خفيفة، إذ إنها حاولت مواكبة حركاته بتردد.
لكنه لم يُظهر أي انزعاج، بل ظل محافظًا على ابتسامته وكأن شيئًا لم يحدث.
“ آه… آسفة معلمي.”
“ لا داعي للاعتذار. لم أشعر بشيء على كل حال.”
في الحقيقة، كان جايد يستمتع بتلك اللحظة بكل ما فيها.
الحفل الذي لم يتوقع منه شيئًا يذكر، قد منحه سعادة لم تكن في الحسبان.
وما لم يدركه جايد، أن تلك السعادة لم تكن مجرد بهجة عابرة…
نبض … نبض …
نبضات قلبه المتسارعة راحت تدق بإيقاع غريب ولطيف.
* * *
مرّت نحو نصف ساعة بعد انتهاء الرقصة.
كان جايد منشغلًا بالحديث مع بعض النبلاء المعروفين بعلاقاتهم الجيدة مع برج السحر أو بكثرة طلباتهم منه.
أما مييل، فقد وجدت الوقت أخيرًا لتستكمل حديثًا ممتعًا كانت قد بدأته مع روبينا.
بعد قليل، اقترب منها جايد قائلاً:
“ أظن أن الوقت قد حان للرحيل.”
في الواقع، لم يكن لديه ما يمنعه من البقاء.
لكن عينيه التي كانت تراقب مييل طوال الوقت رغم انشغاله، لمحتا مدى انزعاجها من حذائها.
“ آه، نعم. جلالتكِ، أعتقد أن الوقت قد تأخر. أراكِ قريبًا.”
“ مع أني حزينة، إلا أنني أتفهم.”
“ أصدق التهاني مجددًا بمناسبة ميلادكِ، يا سمو الأميرة.”
عانقت مييل روبينا بحرارة، ثم غادرت برفقة جايد.
“ هل تؤلمك قدماك؟“
سألها جايد بينما كانا يسيران نحو العربة التي كانت بانتظارهما.
ففوجئت مييل بسؤاله، متسائلة في نفسها كيف علم بذلك؟
“ لا تؤلمانني كثيرًا، لكنني أشعر ببعض الانزعاج.”
ركبا العربة، وجلس جايد أمامها مباشرة.
مد يده نحوها، فتطلعت إليه مييل بعينين مستفهمتين، فقال بصوت منخفض:
“ قدميكِ.”
“ نعم؟“
“ ناوليني إياها، سأعالجها.”
“آه … حسنًا .”
رفعت مييل قدمها بحذر.
وما إن أمسك جايد بحذائها حتى ارتجفت يده قليلًا، لكن بشكل لا يمكن ملاحظته.
بيد، أمسك بالكعب، وبالأخرى أسند كاحلها النحيل برفق.
ثم خلع الحذاء قليلًا، ليكشف عن كعب قدمها الذي بدا متهتكًا.
قطّب حاجبيه بخفة.
‘ هل كنت قاسيًا بإجبارها على ارتداء حذاء مرتفع؟‘
فجأة، انبعث ضوء أخضر من راحة يده ليغمر قدمها.
كانت تعويذة بسيطة للشفاء، لكنها كانت فعالة، إذ التأم الجرح على الفور.
ثم أعاد قدمها إلى مكانها بلطف.
“ والقدم الأخرى؟“
“ لا، هذه بخير.”
نظر جايد إليها باهتمام ثم قال:
“ أشعر وكأنني تسببت بإيذائك، وهذا يزعجني.”
حين سمعت مييل تلك العبارة، لم تستطع منع نفسها من استعادة تلك الفكرة القديمة التي راودتها.
وهي ‘ أظن… أن معلمي قد جُنّ.’
تطلعت إليه لثوانٍ قبل أن ترد بابتسامة مطمئنة:
“ لا تقلق، لم يكن هذا خطأك. كل ما في الأمر أنني لم أعتد على هذا النوع من الأحذية.”
كانت تحاول مواساته، لكنها لم تكن تجامل بل كانت تقول الحقيقة.
وبعد أن أنهت حديثها، أدارت وجهها نحو النافذة.
بينما ظل جايد يحدق فيها بصمت.
خارج العربة، أضاء القمر السماء، وأغدق نوره على شعر مييل الفضي، فبدا متلألئًا كأنه ضوء القمر ذاته.
نبض … نبض …
تسارعت ضربات قلب جايد مرة أخرى…
______________
ترجمة : سنو
فتحت جروب روايات في التيليجرام يمديكم هنيك تقرأو الروايات بدون نت🌟 ! هاي الروايه موجوده PDF بالجروب
اكتبو في البحث تبع التيلي :
snowestellee
رابط الجروب : https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 32"