الفصل 41
لكن، واعيةً أنّ هذا مجرّد وهم، أجبرت ليريوفي نفسها على تحويل نظرها بعيدًا عن الصورة الخادعة التي كانت تجذب عينيها.
[لحسن الحظ، استعدتِ رباطة جأشكِ مبكرًا. كدتِ تصبحين سمادًا لتلك الزهرة آكلة اللحوم.]
‘كنتُ مستعدة مسبقًا، لذا لا بأس.’
كانت كفّها، التي خدشتها عمدًا بغصن شجرة أثناء مرورها بالغابة، لا تزال تؤلمها.
عندما فكّت قبضتها، التي كانت تضغط على الجرح كما لو كانت تحفره، تدفّق الدم الأحمر على ذراعها.
نظرت ليريوفي بانزعاج إلى يديها المقيّدتين و المرفوعتين بكرمة بشكل غير مريح، ثم فتحت فمها.
عضّت الكرمة حتّى تحرّرت، وأخيرًا استطاعت الوقوف على قدميها.
بالطبع، لم يكن من السهل المشي على الأرض مع الكروم المتلوّية بلا توقّف.
قبل لحظات، كانوا يسيرون نحو مركز الغابة عندما شمّوا رائحة كريهة من مصدر مجهول.
لكن سرعان ما تبع ذلك عطرٌ ساحرٌ وحلو أغوى الجميع.
استعدت ليريوفي رباطة جأشها مبكرًا نسبيًا، لكن الأطفال الآخرين كانوا لا يزالون غارقين في كوابيسهم، و يتحوّلون إلى فريسة للزهور.
[لكن، ألم يقل الآخرون إنّهم زاروا هذه الغابة من قبل واستعدّوا لها، ومع ذلك انظري إلى حالتهم؟]
كما قال أودر، لم تكن ليريوفي الوحيدة التي غطّت أنفاسها وجرحت نفسها قبل عبور الغابة.
تذكّرت وجوهًا متوترة تحدّثت عن دخولهم الغابة سابقًا بحثًا عن مخرج، وفقدانهم رفاقهم وكادوا يموتون.
‘هم لا يزالون صغارًا. كنتُ كذلك سابقًا.’
كان من الصعب جدًا التخلّص من القيود بنفسك.
“أختي.”
كانت الزهرة العملاقة لا تزال تفتح بتلاتها وتغلقها، و تنفث عطرًا ساحرًا يشلّ الأنف.
“أنـ-أنقذوني… بوو.”
“أختي، استيقظي.”
حاولت ليريوفي إيقاظ أختها، التي كانت فاقدة للوعي وتعاني من كابوس، لكنّها توقّفت فجأة عندما شعرت بإحساس مخيف.
ما الذي رأته للتوّ في زاوية رؤيتها؟
عندما حولت نظرها لترى بوضوح ما جذب انتباهها، رأت كائنًا اسود واقفًا كعمودٍ في وسط الزهور المتفتّحة.
في البداية، ظنّت أنّه ظلٌّ منبثقٌ من الأرض الملوّثة.
لكن الشكل الذي كان واقفًا بلا حراك، كدمية مثقوبة الرأس بحبل، لم يكن سوى جايد.
هل كان سيكون أفضل لو كان يتمتم مثل الآخرين؟
لكن الجوّ المحيط به كان هادئًا بشكل خانق.
كان ذلك مشؤومًا ومخيفًا للغاية.
بالتأكيد، كانت ليريوفي تكره جايد بشدّة منذ البداية.
لكن، كما لو كانت ترى مئات الديدان تتجمّع وتتلوّى، لم تستطع تفسير هذا الاشمئزاز العميق الذي ينبع من أعماقها في هذه اللحظة.
[ما هذا؟ يبدو كجثّةٍ حيّة تتحرّك.]
كما همس أودر، لم يكن هناك أدنى أثر لحياة بشريّة في الفتى أمامها.
في تلك اللحظة، تحرّكت زهرة بصمت فوق رأس جايد، فاتحة بتلاتها كفم وحش.
ثم…
-بلع!
اختفى جايد من رؤية ليريوفي.
-بوم!
لكن في اللحظة التالية، انفجرت كرة نارية هائلة، تلتفّ حول بتلات الزهرة وتنفجر للخارج.
حينها ظهر جايد.
ظنّت ليريوفي أنّ عينيه الرماديّتين، الشبيهتين ببقع الزهرة، تحدّقان بها.
لكن هدف نظرته لم يكن ليريوفي.
تحرّك جايد بخطوات غير طبيعيّة، كما لو كان يُسيطر عليه بحبال.
عند النظر عن قرب، بدا أنّ ساقه اليسرى، التي أصيبت عند سقوطه في تجمّع الزهور، كانت ملتوية بشكل غريب و أنكشف عظمه.
ومع ذلك، تحرّك بساقه المترنّحة بلا إحساس بالألم.
-سويش، سويش.
كان صوت سحب قدميه، ممزوجًا بالعرق البارد، يتدحرج على ظهر ليريوفي كالثلج.
اتّجه جايد نحو الزهرة الأكبر والأكثر فخامة، المليئة بالبقع الرماديّة المقزّزة.
فتحت الزهرة بتلاتها، كما لو كانت تتوق إلى فريسة قريبة.
لكن، بسبب كرة النار التي ظهرت فوق رأس جايد، لم تجرؤ على ابتلاعه، وبدلاً من ذلك راقبت الوضع بحذر.
لم يبدُ جايد مباليًا بالكروم الزرقاء التي تجمّعت حوله، وانحنى بشكل غير طبيعيّ وبدأ بحفر الأرض.
كلّما خدشت يده الشاحبة التربة الرماديّة، اتّسعت الحفرة، كاشفةً جذور الزهرة التي بدت متعفّنة.
عند النظر عن قرب، كانت مليئة بالحشرات السوداء المتلوّية.
عندما أصبحت الحفرة كبيرة بما يكفي لجسم بشريّ، غاص جايد برأسه فيها.
“…”
تساقطت قطرة عرق باردة من ذقن ليريوفي و تحرّكت بهدوءٍ، كابحةً أنفاسها.
كان المشهد المرعب الذي رأته للتوّ يجعل جلدها يقشعرّ ودمها يتجمّد.
[ليريوفي، تحرّكي بهدوء. أشعر بطاقة شريرة منه. ربّما هو بالفعل…]
لم تحتج ليريوفي لسماع المزيد من كلام أودر لتعرف.
مظهر جايد هذا لم يكن مظهر إنسان طبيعيّ.
لا، ربّما لم يعد يُعتبر إنسانًا على الإطلاق.
قطعت ليريوفي الكرمة التي كانت تلتفّ حول جسد كاليونا بقوّة.
لحسن الحظ، بفضل الأشخاص الذين كانوا يهلوسون ويتمتمون حولها، لم تجذب حركاتها انتباه أحد.
“سأجري أسرع. أرجوكِ، لا تتركِني…”
كادت ليريوفي تأخذ أختها وتغادر، لكنّها توقّفت فجأة عند ميلينا.
كانت لا تزال تبكي وتهلوس، وقد ابتلعتها الزهرة نصفها.
[ماذا تفعلين؟ إذا كنتِ جاهزة، هيا بنا.]
تجعّد جبين ليريوفي.
بصراحة، كانت تعتقد أنّ ميلينا مزعجة. لكن، من ناحية أخرى، لقد ساعدتها عدّة مرّات…
عضّت ليريوفي شفتيها، مستاءة من تردّدها.
قبل أسبوع واحد فقط، كانت ستترك الجميع هنا دون تردّد.
لكن الآن، شعرت أنّ تجاهل ميلينا والمغادرة أصعب قليلاً ممّا كان عليه من قبل.
‘لحظةً فقط.’
في النهاية، اختارت ليريوفي، بحماقة، إضاعة بعض الوقت لإنقاذ ميلينا.
“استيقظي.”
-صفع!
بعد أن سحبت ميلينا من بتلات الزهرة بكلّ قوتها وصفعها مرّتين، نظرت إليها عيون خضراء فاتحة من تحت جفنيها.
“ها، هاه؟ أمي؟”
“من أمّكِ؟ انتبهي وانظري حولكِ.”
كما قالت ليريوفي، استدارت ميلينا بحيرة، ثم خرج من فمها صوت “هيك!” بعد لحظة.
“ما-ما-ما هذا المكان؟”
“انهظي واتبعيني. إذا أردتِ الهروب، علينا الخروج الآن.”
“هاه؟ لحظة، بقيّة الأطفال في خطر…!”
بمجرّد أن استعدت رباطة جأشها، نهضت ميلينا متعثّرة وهرعت إلى أقرب طفل.
“علينا مساعدتهم بسرعة! لا-لا يمكننا ترك أحد…”
بدأت تمزّق الكروم السميكة التي كانت تلتفّ حول أجساد الأطفال بيديها.
“إنّها ناتالي، منافستكِ. هل ستأخذينها معكِ؟”
“ذ-ذلك لا يهمّ الآن. هيك، هيك. لا يهمّ…”
كانت ميلينا مشغولة بإنقاذ الأطفال الذين يُسحبون إلى بتلات الزهور، وكأنّها نسيت ليريوفي خلفها.
أغلقت ليريوفي شفتيها، التي انفرجتا قليلاً، دون كلام.
استدارت بهدوء وحملت كاليونا على ظهرها.
[ألن تأخذي ميلينا؟ بعد أن أنقذتيها؟]
‘لا داعي. إنّه اختيارها.’
أدارت ليريوفي ظهرها لكلّ المشهد خلفها وبدأت تمشي للهروب من تجمّع الزهور.
التعليقات لهذا الفصل " 41"