في المكتب الهادئ كقبرٍ ميت ، لم يُسمَع سوى صوت القلم و هو يتحرّك على الورق.
بدأ الحبر الذي كان ينساب بسلاسة ليُلوِّن الخطوط الأنيقة على الورقة يتلاشى شيئًا فشيئًا ، ثم توقّف تمامًا.
في اللحظة التي مدّ فيها كايين يده إلى الدرج ليأخذ حبرًا جديدًا ، قالت فريجيا و هي تقترب بخفّة: “ها هو ، تفضّل”
تجمّد كايين للحظة ، ثم أومأ برأسه.
“… آه. شكرًا لكِ”
بعد ذلك بنصف ساعة—
توقّف كايين عن رفع فنجان القهوة.
لقد نفدت القهوة في الفنجان ، و كذلك في الإبريق.
و في تلك اللحظة تمامًا ، قالت فريجيا بصوتٍ هادئ: “لقد أعددتُ قهوةً جديدة”
“… شكرًا لكِ. سأشربها جيدًا”
“و هذا هو التقرير الذي طلبتَه”
“… أحسنتِ”
كان التقرير كاملًا ، لا غبار عليه و لو قليلًا.
انحنت فريجيا احترامًا ثم عادت إلى مكتبها بخطواتٍ ثابتة.
حدّق كايين في ظهرها لوهلةٍ و هو يبدو مضطربًا.
في كلّ مرّة يشعر فيها بأدنى انزعاج ، كانت فريجيا تظهر كالشبح و تحلّ المشكلة قبل أن يطلب منها شيئًا.
لم يكن مفهومًا كيف يمكنها متابعة كلّ حركة من حركاته ، و هي منهمكة في أعمالها الخاصة في الوقت نفسه.
عملها كان يزداد كمالًا يومًا بعد يوم.
لو استمرّت على هذا النحو ، فربّما تُدرَج قريبًا في “قاعة شرف موظّفي السكرتارية”.
لكنّ ذلك كلّه كان يتوقّف عند نهاية الدوام.
دقّ—، دقّ—، دقّ—
رنّ الجرس مُعلنًا نهاية ساعات العمل.
قالت فريجيا و هي تقف و تُحيّيه بانحناءةٍ دقيقة: “إن لم يكن هناك عمل إضافيّ ، فسأنصرف الآن”
ثم خرجت من المكتب دون أن تلتفت.
كما لو أنّها لا ترغب في أن تمضي ثانيةً واحدة إضافيّة في وجود كايين.
كان كايين يُحدّق طويلًا في الباب المغلق بصمتٍ بعد مغادرتها.
“… هاه”
فتح الدرج ، و أشعل أوّل سيجارة له في ذلك اليوم.
كان صدره يضيق و كأنّ حجرًا قد استقرّ فيه.
و في غمامة الدخان ، رأى مجددًا وجه فريجيا و هي تنظر إليه منذ أيامٍ قليلة ، بعينين متردّدتين.
«هل تـ … تُحبّني؟»
كان يحبّ طريقة عملها.
و يُعجب بعقلها الذي يُحلّل المعادلات السحرية بسرعةٍ مذهلة.
و يحبّ النظرة التي ترفعها إليه بتلك العيون المنحنية بابتسامةٍ خفيفة.
و يُحبّ صوتها المرح.
و يُحبّ ملامحها الجادّة حين تركز في العمل.
و يُحبّ إشراقة وجهها حين تكتشف أمرًا جديدًا.
و يُحبّ حياءها حين تُطرّي خديها بخجلٍ بعد مديحٍ صغير.
كلّ ذلك كان يُعجبه.
لكن ، فقط هذا.
لم يعرف أيّ اسمٍ يجب أن يُطلَق على تلك المشاعر مجتمعة ، و لم يُرِد أن يعرف.
بل على وجه الدقّة ، كان يشعر أنّه لا ينبغي له أن يعرف.
تسلّلت إلى ذهنه ذكرياتٌ قديمة ، عالقةٌ كأشواك.
“أحبّك ، أحبّك يا جلالتك. أحبّك إلى حدّ أن أهبك حياتي …”
“أنا أحبّك بهذا القدر ، فلماذا لا تنظر إليّ؟ أهو لأنّي كبرتُ؟ لأنّي لم أعد جميلة كما كنت؟ إنّه عذاب ، سأموت من الألم …”
“أحبّك ، يا جلالتك … الآن ، لن تستطيع نسياني أبدًا ، أليس كذلك؟”
شربت السمّ و هي تعلم أنّه قاتل ، ثم بدأ جسدها يتعفّن ببطء أمام عينيه.
رائحة الموت تلك عادت تُداعب أنفه الآن.
أغمض كايين عينيه ، محاولًا طرد تلك الصور المتعفّنة من ذاكرته.
‘اللعنة.’
أطفأ السيجارة بخشونة.
كانت نوبات الأرق قد عادت تشتدّ عليه مؤخرًا.
و لم تعد السيجارة تُخدّر رأسه كما في السابق.
‘أرِها ابتسامتكَ ، تحدّث معها بلطفٍ ، امدحها كثيرًا ، و اقضِ وقتًا معها وحدكما!’
نصائح آرون بدت عديمة الفائدة.
كيف يمكنه فعل كلّ هذا ، إن لم تكن هناك فرصةٌ واحدةٌ تتيح له ذلك؟
خلع رباط عنقه بعصبيّة ، و زفر تنهيدةً ثقيلة.
لكنّ فكرةً أخرى أكثر إزعاجًا راحت تطفو على السطح: ماذا عن ذاك المسمّى “هنري”؟
هل التقيا؟ هل تحدّثا؟
هل تَوافَقا؟
هل كانت تذهب للقائه حين تغادر كلّ مساء؟
“هاه”
مسح وجهه بيديه.
“أيّها الأحمق”
لقد بدأ يفقد صوابه فعلًا.
***
كنتُ أمشي في الممرّ أمام مكتب الدوق حين سمعتُ صوتًا يناديني.
“فريجيا!”
“آه ، لونا!”
كانت لونا قد أخذت إجازة لبضعة أيام.
لذلك ، كانت هذه أول مرة أراها بعد حادثة الخطوبة مع هنري.
“أنتِ في طريقك إلى المنزل ، أليس كذلك؟”
لحسن الحظ ، لم تبدُ غاضبة.
“نعم. لونا ، بخصوص لقاء التعارف الأخير … أنا آسفة حقًا”
لكنّ لونا لوّحت بيديها بسرعة.
“لا عليكِ! لم يكن مقدّرًا أن يكون ، على أيّ حال. في الحقيقة ، كنت قلقة أنني دفعتُكِ لذلك كثيرًا بينما لم تكوني راغبة”
“ماذا تقولين؟ أنا ممتنّة جدًّا لكِ لأنكِ فكّرتِ بي. لكنّي كنتُ فظّة في النهاية ، و هذا غير لائق”
“لا ، لا!”
هزّت رأسها.
“حتى هنري قال إنّه يفهم. لذا ، لا تشغلي بالكِ أكثر من ذلك. بالمناسبة ، متى سنذهب لاختيار الفستان؟ هل يناسبكِ يوم السبت القادم؟ الفساتين الجميلة تُباع بسرعة!”
“آه …”
توقّفتُ لوهلة مع فكرةٍ مرت بخاطري.
ظنّت لونا أنّ تردّدي رفض ، فسألت بحذر: “هل أدفعكِ كثيرًا هذه المرة أيضًا …؟”
رأيتُ في عينيها لمحة قلقٍ أعرفها جيدًا.
لونا تشبهني كثيرًا.
لقد كانت بالتأكيد طالبةً مجتهدة ، و إحدى المتفوّقات في برج السحر.
لكنها ، كما قالت ذات مرة ، نشأت تحت رقابةٍ صارمة من والدها و لم تذهب للأكاديمية ، بل درست على يد معلّمين في المنزل.
لذلك ، لم تحظَ بفرصةٍ لتكوين صداقاتٍ حقيقية.
و كانت خجولة قليلًا أيضًا ، تمامًا مثلي.
كنت أعلم جيّدًا كم كانت متوتّرة في تلك اللحظة.
ابتسمتُ و نفيتُ بسرعة.
“تدفعينني؟ أبدًا! يوم السبت ممتاز. سأساعدكِ في اختيار الفستان الأجمل الذي يليق بكِ تمامًا!”
“حقًا؟ رائع! و أنا أيضًا سأبحث بعينٍ ثاقبة عن فستانٍ يجعلُكِ تتألّقين أكثر من الجميع!”
ابتسمت لونا مطمئنة.
رفعتُ كتفي بابتسامةٍ صغيرة ، و قلتُ بخفةٍ: “آه ، لكنّي لن أشتري فستانًا هذه المرة. سنجعلها جولة لاختيار فستانكِ فقط. فأنتِ البطلة في ذلك اليوم!”
“هاه؟ لن تشتري فستانًا؟ لماذا؟”
اتّسعت عينا لونا بدهشة.
ابتسمتُ بخجلٍ و قلتُ بصراحة: “حسنًا ، هذا محرج قليلًا ، لكنّ ميزانيتي هذا الشهر ضئيلة جدًا”
تلك كانت الفكرة التي خطرت ببالي قبل قليل.
كنتُ قد اكتشفتُ مؤخرًا أنّ عمي رهن القصر و اقترض من المرابين.
و فوجئت بنسبة الفائدة الجنونية ، فبادرتُ إلى تسديد الديون ، ممّا استنزف ما تبقّى من مدّخراتي.
“لذا ، لا أظنّ أنّ بإمكاني شراء فستان هذه المرّة”
“آه …”
اتّسعت عينا لونا قليلًا.
ربّما كنتُ صريحةً أكثر من اللازم ، و قد بدا كلامي فقيرًا بعض الشيء.
لكنّي لم أرغب في الكذب على أوّل صديقةٍ حقيقية لي.
و بعد لحظة تفكير ، قالت لونا: “إذن ، ما رأيكِ بالاستئجار؟”
“هاه؟”
“في هذه الأيام ، معظم محالّ الفساتين تقدّم خدمة التأجير أيضًا! لنبحث معًا عن فستانٍ يناسبكِ تمامًا. سيكون الأمر ممتعًا!”
توقّفتُ لحظة ، ثم ابتسمتُ بفرح.
“نعم ، فكرة رائعة!”
***
في يوم السبت ، ذهبتُ مع لونا إلى الشارع المليء بمحالّ الفساتين.
التعليقات لهذا الفصل " 76"