3
اتّجهت عينا المرأة الوردية الشاحبة نحو الكرة، تتأملها بنظرةٍ يغمرها الذهول والارتباك.
ساد الغرفة هواءٌ ثقيل، كأن السقف يهبط عليهم ببطء. أما جيروم فكان متجهماً، يراقب الكرة كما لو كانت سكينًا على وشك السقوط على رقبته. فإجابة المرأة—بل بالأحرى اللون الذي ستتلون به الكرة—قد يكون الفارق بين بقاء سيف إيفان في غمده… أو أن يُسحب ويُشهر أمامها بلا رحمة.
“أنا….”
ترددت للحظات، ثم أخيرًا فتحت شفتيها المضطربتين وقالت:
“أنا حقًا لا أتذكر شيئًا… أيّ شيء. آسفة.”
ومع ترديدها لكلماتٍ تكسوها رائحة البكاء، تلونت الكرة من جديد… لكن هذه المرة بلونٍ أزرق صافٍ، واضحٍ جدًا، صادقٍ جدًا.
أطلق جيروم زفرة طويلة، كأنه كان يحبس أنفاسه منذ ساعة.
“…حسنًا.”
أمسك إيفان الكرة بيدٍ واحدة، ثم رماها إلى جيروم بلا اهتمام، وكأنه يرمي شيئًا بلا قيمة، بينما جيروم أسرع لالتقاطها بعنف خوفًا على كنزه الثمين.
لم يكلّف إيفان نفسه حتى لحظة لمراقبة ارتباك خادمه، بل أشار له ببرودٍ صامت أن يتبعه خارج الغرفة.
وحين خرجا، أغلق جيروم الباب بسرعة، ثم همس بصوتٍ صغير، قلِق، مضطرب:
“لا تقل لي… أن الشيء الذي طلبته تلك المرأة هو… حجر الروح؟”
وأشار إلى القلادة المتدلية من عنق إيفان، فهزّ الأخير رأسه بتأكيد هادئ.
“إذاً… أبقيتَها حيّة فقط… فقط لتسألها كيف تعرف بوجوده؟!”
ومرة أخرى، هزّ إيفان رأسه بلا تعبير.
عندها صفع جيروم صدره بيده، وكاد يبكي من الغيظ:
“لماذا؟! لماذا تبقيها حيّة لهذه الدرجة السخيفة من الفضول؟ كان يجب أن نتركها تموت فحسب! ماذا لو انكشف سرّ العائلة؟! وماذا لو ذهبت وقدّمت بلاغًا ضدنا؟!”
لكن إيفان تجاهل انفجاره العاطفي والأوعية التي تكاد تنفجر في جبينه، وقال ببرودٍ هادئ وهو يعقد ذراعيه أمام صدره:
“كان لها… رائحة طيبة.”
تجمّد جيروم في مكانه، ثم فغر فمه فجأة.
ماذا؟ ماذا سمعت للتو؟
لطالما ظنّ أن سيده عقلاني، بارد، لا تؤثّر فيه أي امرأة. فإذا به الآن… يتحدث عن رائحة؟
هل كان سيده الذي يفتخر بدماغٍ من الجليد… مجرد أحمق عاطفي مخفي طوال الوقت؟
“ه-هاه؟ رائحة… ماذا؟”
“المرأة. كان يفوح منها شيء ما… عطر لطيف، مألوف على نحوٍ غريب.”
“…….”
“وكأنني… التقيت بها من قبل.”
في تلك اللحظة، عاد إلى ذهنه مشهد لقائهما الأول وسط العاصفة، حين كانت على شفير الموت، وقد تلفظت بكلماتها الأخيرة:
“أ-أرجوك… ال-حجر… الروحي… أعطني…”
يا لها من امرأة وقحة.
كيف تجرؤ… كيف تجرؤ على طلب كنز عائلة نبيلة كأنها تطلب قطعة خبز؟!
حقًا، لو قُتلَت هناك لما شعر بالندم لحظة واحدة.
“أ-أرجوك….”
لكنها حين انحنت برأسها، ترتجف، وثقل الثلج يغمر كتفيها… ترددت يده للحظة.
كان قتْلها سيوفّر عليه الكثير من المتاعب.
لكن…
“صاحب السمو؟”
بينما كان إيفان غارقًا في ذكرياتٍ أربكت هدوءه للمرة الأولى، كان جيروم يرتجف بجانبه لأسبابٍ أخرى تمامًا.
“ماذا تقول يا سمو الأمير؟ مألوفة؟ هذه مجرد متشردة من العامة! وإن جاءت إلى هنا طمعًا في حجر الروح فهي خطرٌ كبير!”
“حينها… سأقتلها.”
قالها إيفان ببرودٍ مخيف، كأن الأمر لا يساوي حتى الارتباك.
تجمد جيروم حرفيًا.
كيف يستطيع سيده قول هذا بكل هدوء… بينما يتركها تعيش في القلعة؟!
“لا يمكنني طرد فتاةٍ فاقدة للذاكرة، في عاصفة كهذه، هكذا ببساطة. وفوق ذلك، بفضل كرة الحقيقة خاصتك… إنها لا تكذب.”
“هه… قول الحقيقة لا يعني أن نتركها تعيش بيننا!”
“على كل حال، جهّز إحدى غرف الضيوف ورتّبها جيدًا. ستبقى هنا إلى أن تستعيد شيئًا من ذاكرتها. إنها… مسكينة.”
“أنا لا أراها مسكينة إطلاقًا. ولا قليلًا!”
“هممم… هكذا تقول؟”
وسقط نظره على الكرة التي احمرت في يد جيروم احمرارًا فاضحًا… مما جعل سيده يبتسم ابتسامة صغيرة ساخرة.
بعد الاستراحة القصيرة… داخل القلعة
“ش-شكراً حقًا… عندما أتذكر أين بيتي، سأعود فورًا.”
خرجت المرأة من الحمّام نظيفة، لامعة، وجهها يشرق أكثر مما كان عليه، حتى بدا كأن الضوء يعكس نفسه منها.
ثم انحنت أمام جيروم بامتنان مبالغ فيه.
يكفينا لامع واحد فقط في هذه القلعة… وهذا ليس مفاوضًا عليه.
تذمر جيروم داخليًا وهو يفكر في سيده، لكن المرأة—التي لم تفهم سبب انقباضة حاجبيه—انتفضت خائفة وضمّت يديها معًا.
“طالما سأبقى هنا… رجاءً دعني أتولى التنظيف، والغسيل، وأي عمل منزلي! لن أكون عبئًا أبدًا، أبدًا يا سيد جيروم!”
كانت تشبه… كلبًا صغيرًا مهجورًا يحاول جاهدًا ألا يُرمى مرة أخرى.
يا إلهي.
جرحٌ في قلب جيروم—ذلك الضعف الأزلي أمام كل ما هو بائس أو لامع—جعله يشيح بوجهه ويتمتم:
“توقفي. لا تناديني بسيد. يزعجني.”
“هاه؟”
“ناديني جيروم فقط. دون ألقاب.”
“آه! ن-نعم! جيروم!”
“وإذا تذكرت اسمكِ… فأخبريني.”
“نعم!”
ابتسمت لها ابتسامة واسعة، فازدادت إشراقة وجهها لدرجةٍ أزعجت جيروم نفسه.
ابتسامة كهذه… سلاح خطير بدون أي دفاع.
ومع ذلك بذل جهدًا ليبدو غير مبالٍ، لكن المرأة قبضت قبضيتيها بحماس وسألت:
“إذًا… بماذا أبدأ؟”
“بماذا ت… كم—؟ انتظري. قدمكِ… شفيت؟”
رمش جيروم بعينيه حين لاحظ اختفاء الجرح من كاحلها تقريبًا.
“آه! نعم! يبدو أن إصابتي لم تكن سيئة كما ظننا!”
ابتسمت بارتياح، لكن جيروم مال برأسه في حيرة.
غريب… حجر الروح الشتوي لا يملك قدرة علاج كاملة. يعيد الطاقة بعض الشيء، لكن… ليس بهذه السرعة.
ثم تذكر…
المرهم الذي دهنه على قدمها.
ذلك الدواء الذي قال صاحب متجر السحر إنه “يشفي أي شيء… من كسور عظم إلى قلبٍ مكسور”.
ربما… لم يكن يكذب.
وحين هدأت شكوكه، فكّر جيروم:
إن كانت جيدة لهذه الدرجة… فلتبدأ العمل إذًا.
أعطاها بعض الملابس البسيطة لخادمات القلعة، فاختارت من بينها زيّ الخادمة بلا تردد—وهو ما أثار في نفسه إحساسًا غريبًا بين السخرية والشفقة.
كانت الملابس أكبر قليلًا من مقاسها، لكنها لم تكن عائقًا للحركة أو العمل.
ورغم أنّ الأمر بدا طبيعيًا… إلّا أنّه أثار لدى جيروم شعورًا غريبًا، شعورًا يشبه عدم التوازن.
فالفتاة كانت جميلة… جميلة حدّ أن يبطل أيّ زيّ بساطته مهما كان شديد التواضع.
وجهٌ صغير، وأنف مستقيم، وعينان كبيرتان مستديرتان بلونٍ ورديّ يشبه بتلات الربيع.
بشرةٌ بيضاء تنافس بياض جلد إيفان نفسه، مع وجنتين وشفاهٍ بلون الورود حين تتفتح تحت أشعة الفجر.
وإن كانت تساوي إيفان في صفاء بشرته… فإن شعرها الذهبي الناعم كان يشبه الشمس حين تنسكب على ثلجٍ صافي، بينما يشبه شعر إيفان الضوء الذي يرتدّ عن الثلج ذاته.
وبينما كان جيروم يشيح بوجهه ليهرب من هذا البريق المزعج، أشار إلى المكتب وقال بضيق:
“يبدو أنّي كنتُ غبيًا لأتوقّع من فتاة لا تتذكّر حتى اسمها أن تفهم ما أقصده.”
اقتربت الفتاة من المكتب بترددٍ صغير، بينما تابع جيروم:
“أنتِ لا تعرفين حتى أين أنتِ. عندما أخبرناكِ أن هذا المكان هو قصر بالتيون، لم تفهمي ماذا يعني ذلك أصلًا. لا تعرفين موقعه، ولا تاريخه، ولا أي شيء عن العالم من حولك، صحيح؟”
أومأت بحرجٍ شديد.
“كنتُ سأجعلك تبدئين بالتنظيف، لكن يبدو أنّ هذا مستحيل. اجلسي هنا أوّلًا.”
سحب لها الكرسي بإهمالٍ خفيف وجلست.
ثم فتح أمامها لفافة ورقٍ كبيرة…
فانطلقت الخريطة تتفتّح أمامها بصوتٍ يشبه رفرفة جناح طائر ضخم.
“هنا. هل ترين هذا القارّة الضخمة؟”
“نعم.”
“هذه تُسمّى أرض الحاكم. يُقال إن حاكم النور، «أماسيا»، خلقها مع أربعة أرواحٍ عظمى تسيطر على الفصول الأربعة: الربيع، الصيف، الخريف والشتاء.”
“أرض… الحاكم؟”
بدأ جيروم يشرح لها كما لو كان يشرح لرضيعٍ لم ينطق بعد.
“هذه المملكة الكبيرة التي تحتل معظم الأرض تُسمّى «إمبراطورية أماجينتا». إنّها مزدهرة وجميلة، يحرسها أرواح الفصول.”
هزّت الفتاة رأسها بحماسٍ طفولي، فكلّ ما تسمعه كان جديدًا تمامًا عليها.
غير أنّ إصبع جيروم ترك دائرة الإمبراطورية… وتحرّك نحو أقصى طرف الخريطة.
“لكننا لسنا هناك. نحن هنا… في هذا الركن المظلم. هل ترينه؟”
“غابة الظلال؟”
“لا. بجانبها. في أراضي بالتيون.”
“آه! وجدتها!”
صفّقت بيديها بخفّة كمن اكتشف كنزًا صغيرًا.
“نحن الآن في هذا المكان. الأرض الوحيدة في الإمبراطورية التي تعيش شتاءً أبديًا… قاسيةً، صامتةً، لا ترحم.”
“آه… هكذا إذًا…”
خدشت خدّها بخجلٍ وهي تتساءل كيف يمكن لمكانٍ كهذا أن يكون من «أرض الإله».
“لا يوجد هنا سوى بضعة قرًى صغيرة عند سفوح الجبال، ولا يميّز هذا المكان إلا منجمه الجليدي. أرض فقيرة… باردة… منسية.”
“أفهم…”
“هذه كانت موطن أسلاف عائلة بالتيون، إحدى أكبر العائلات في الإمبراطورية. لكن منذ عهد الجدّ الرابع، صار للعائلة قصورٌ في العاصمة، فتُرك هذا القصر مهجورًا تقريبًا. والآن، بعد أحد عشر جيلاً… أصبح عمر هذا القصر عدّة قرون.”
“عدة… قرون؟! لا بد أن العناية به صعبة جدًا…”
“بالطبع. على كل حال—”
“نعم! نعم!”
قالتها بحماس، إذ شعرت أخيرًا أن الحديث وصل إلى القوانين التي ستحتاج إليها للبقاء.
رفع جيروم سبّابته، مشدّدًا ملامحه ليبدو أكثر رهبة:
“هناك قاعدة واحدة فقط يجب عليك الالتزام بها مهما حدث.”
شدّت الفتاة ظهرها وجلست كما لو أن حياتها تعتمد على هذا الكلام.
“ما… ما هي؟”
نزل صوته منخفضًا، صارمًا، لا يقبل الجدل:
“تحت أي ظرف…
لا تدخلي «حديقة الجليد».”
التعليقات لهذا الفصل " 3"