2
وُضِع جسدُ المرأة فوق السرير العريض المهيب القابع في غرفة الدوق الأكبر؛ ذاك السرير الذي بدا، رغم فخامته الظاهرة، غريبًا في غرفة يخيّل للناظر أنها أقلُّ بكثير من أن تُنسب إلى أحد كبار النبلاء، إلا أنها—على الأقل—بدت نظيفةً وجافة وسط قسوة هذا الشتاء الذي لا يرحم.
وكان جيروم، الذي تبِعَ إيفان إلى الداخل، يحدِّق دون رمشة في يديّ سيده وهما تتحركان حول جسد المرأة بخفوت حَذِر، كأنما يلامسان زجاجًا مقدسًا مهددًا بالتحطم في أي لحظة. وحين أخرج الدوق من بين طيّات ملابسه قلادةً كانت مخبّأةً بعناية عند صدره، اتسعت عينا جيروم على مصراعيهما صدمةً وذهولًا.
“أتمدّ المرأةَ حتى بنفَس القداسة من حجَر الأرواح؟”
كانت تلك القلادةُ تحمل حجرًا أزرق مشعًّا هو إرثُ آل بَالتيون العريق؛ حجرٌ ليس بزمرد ولا ياقوت، لكنه يفوق الجواهر كلها حسنًا وإشراقًا.
والسيد… سيده الذي لم يجرؤ يومًا على إظهار هذا الحجر أمام أحد، يتنازل الآن عن أعزّ أسراره بلا تردد! احتار جيروم، وغرق في بحر من الأسئلة التي لم يجد لها شاطئًا.
“ولمَ… لمَ تفعل هذا يا سيدي؟”
فأجابه الدوق بصوت بارد كثلوج الجبال التي تحيط بالقصر:
“لأنها إن لم تُعالَج الآن… فستصبح جثّةً ستضطر أنت إلى حملها بعيدًا.”
“…حسنًا، تفضل يا مولاي. سأ… سأتركك تعمل.”
تراجع جيروم بسرعة، إذ لا رغبة لديه على الإطلاق في أن تتكاثر “الجثث” ضمن قائمة مسؤولياته اليومية.
وضع إيفان القلادةَ فوق موضع قلب المرأة، وظل يحدق في الحجر بثباتٍ هادئ.
وحين أضاءت الزرقةُ الغائرة داخل الحجر بإشراقةٍ متوهجة، انعكس اللون ذاته داخل سواد عينيه، فصار كأن نفسه تشتعل من الداخل بوهجٍ غامض. ولم يمر وقت طويل حتى بدأت لمحةٌ ضئيلة من الحياة تعود إلى وجه المرأة الشاحب.
كان جيروم يراقب سيده بطرف عينه، ورغم أن السبب واضح—إنها امرأة جميلة، ولا شك—إلا أن ذلك الجمال نفسه كان مشكلة.
’ألجمالُ بهذه الخطورة… من المؤكد أنه سيجرُّ المصائب.’
كيف لامرأةٍ مجهولة أن تُعثَر في هذا الجبل القاسي وهي ملطّخة بالجراح؟ لا بد أنها كانت تهربُ من شيء… أو من أحد.
وإن كان الدوق الأكبر قد خمّن الأمر ذاته…
’لماذا إذًا…؟ ألشفقة؟’
ورغم أن سيده لا يرى النساء إلا كالحصى تحت قدميه—بل أقل قيمة ربما—إلا أن الأمر كله يبعث على القلق.
وعندما تفيق، سيطردها فورًا بلا شك… فهناك الكثير مما يجب أن يبقى مخفيًا عن الغرباء.
راقب جيروم شفتي المرأة وهما تستعيدان بعض الاحمرار، غير آمنٍ بما سيحدث لاحقًا.
“يكفي… أن تُمحى. إلى الأبد.”
“هه—!”
شهقت المرأة وهي تفيق دفعة واحدة، متعرّقةً، مضطربة الأنفاس.
كان ذلك… حلمًا؟ ذكرى؟ أم كابوسًا جاء من بئرٍ سحيقة في روحها؟
’لقد رأيت شيئًا كهذا من قبل… نعم، في الثلج… هناك حيث…’
كل شيء كان محاطًا بضباب لا يُمسك، إلا ذكرى واحدة:
ذلك الثعلب الفضي… ذلك الجمال السماوي الذي لمحته في اللحظة الأخيرة قبل أن يغيب وعيها.
’كان ككائنٍ هبط من سماءٍ أخرى…’
وما إن استحضرت صورته حتى هدأت دقات قلبها المذعورة قليلًا، وكأن لمحة من قداسة الثعلب الفضي تسكن صدرها. تنفّست بعمق، محاولة استعادة اتزانها.
كان جسدها مضمّدًا بعناية—ذراعها، ساقاها—ختامًا واضحًا على أن شخصًا ما أنقذ حياتها.
رفعت رأسها ببطء، فتفاجأت بغرفةٍ واسعة رمادية الجدران، تتوهج فيها نارٌ دافئة داخل الموقد، وإلى جوار السرير جلس رجل ذو ملامح حادة كالجبل، يحمل كتابًا وكأنه كان يحرسها منذ زمن.
“ع… عذرًا… أين أنا؟ ومن تكون أنت؟”
“وأين تظنين؟ أنتِ في قلعة بالتيون.”
قالها الرجل ذو الشعر الداكن المزرق والعيون الرمادية المتحفظة، ثم أغلق الكتاب بقوة ونهض.
“أنا جيروم، المسؤول عن إدارة القصر.”
أما هو، فمن جهته، فقد كان هذا:
امرأة مجهولة اقتحمت غرفة سيده، ونامت يومين كاملين دون أن تحرك ساكنًا.
وكان صبره، بطبيعته، شحيحًا للغاية.
“لا أعلم من تكونين، ولا يهمني أن أعلم. بما أنك استعدتِ وعيك… غادري.”
واكتفى بهذا القدر من المعلومات.
“الجو قاتل بالخارج، لذا ارتدي المعطف الفروّي هناك قبل أن تخرجي وتموتي في نصف الطريق.”
حدّقت المرأة فيه بعينين واسعتين.
“أ… أغادر؟”
“نعم. إلى منزلكِ طبعًا.”
بدت عليها الحيرة جلية، ووقفت تفكر.
“منزلي… صحيح…”
كأن الأشياء تهرب منها في اللحظة التي تحاول الإمساك بها. مرّرت يدها خلال خصلات شعرها الأشقر، فانسدل على عنقها الأبيض الرقِيق كخيطٍ من الذهب، وتجمّد جيروم للحظة أمام ذلك المشهد قبل أن يشيح بوجهه.
“أنا… أود العودة، حقًا… لكن… هل تعرف أين منزلي؟”
رفع جيروم رأسه بحدة.
“هاه؟”
“أو… ربما تعرف من أكون؟”
“…”
“لأني… لا أتذكر شيئًا.”
وهكذا عاد الشكّ يشتعل في رأسه، ونظر إليها نظرةً حادة مرعبة.
عينيها الواسعتين اللتين تشبهان عيني أرنبٍ صغير فجأة بدتا له… مزعجتين حد الاستفزاز.
’يا للجرأة… كيف يفعل كل هؤلاء المهووسين بالسيد الفعل نفسه؟’
ليس لأنها جميلة… لا، بل لأنها جميلة للغاية.
لكن الانجراف خلف الجمال خيانة لا تُغتفر لو أراد أن يبقى أهلًا لقبعة بالتيون.
لا… لا بد أنها واحدة من هؤلاء الحمقى الذين يطاردون سيده.
لا بد.
حتى حين صارت ملامحه مخيفة، لم تفعل المرأة سوى أن تحدق فيه بارتباك طفولي.
“وإن كنتِ لا تتذكرين، فماذا؟ ستبقين هنا للأبد؟”
“لا، بالطبع لا، لكنني… لا أعرف إلى أين أذهب…”
رغم قسوة كلامه، لم تغضب. عبثت بأطراف أصابعها بخجل، فشعر جيروم بشيء غريب… شيء يشبه الشك المُقلق.
’مستحيل… هل يمكن أنها فعلًا… لا تتذكر؟’
خطَرَ في ذهنه—كشرارة—تذكارٌ من محل الأدوات السحرية في القرية.
’اللحظة! لديّ كاشف الكذب! لمَ لم أستخدمه منذ البداية؟ كنت على وشك أن أسقط في فخ جمالها!’
“انتظري هنا.”
خرج، ثم عاد بعد لحظات يحمل كرة زجاجية شفافة بحجم قبضة اليد.
كانت إحدى أكثر الأدوات شعبيةً في الإمبراطورية هذه الأيام، تكشف الحقيقة من الزيف بلونٍ واحد.
وكانت هواية جيروم الوحيدة—التي يفاخر بها—هي جمع مثل هذه الأدوات.
“أمسكي هذا، وأجيبي.”
ناولها الكرة بثقة، وسأل بصوتٍ كالسيف:
“أأنتِ… أحد المهووسين بسيدنا؟”
إن كذبت… ستشتعل الكرة باللون الأحمر.
“هـ؟ لا أفهم… لكن—ربما؟ حقًا ربما! لأني… لا أتذكر شيئًا. لا أعرف… آه، من هو سيدك أصلًا؟”
تحولت الكرة إلى أزرقٍ نقي.
صمت جيروم.
حدّق.
ثم رمش.
لماذا الأزرق؟
هل تعطلت؟
أم أن سيده كان محقًا حين قال إنها مجرد لعبة أطفال؟
ومع أن حدسه عادةً كارثي، إلا أنه رفض الاعتراف بأن تنبؤه كان بلا قيمة.
لا…
إنه الخطر ذاته.
ستخرب القلعة لو بقيت.
مسح العرق البارد عن جبينه وهمس فقط:
“الآن… أخبريني باسمكِ! وهدفك! لماذا جئتِ إلى هنا؟!”
“قلتها… لا أتذكر شيئًا. لا اسمي… ولا هدفي. الشيء الوحيد الذي بقي في ذهني هو أنني قبل أن أفقد وعيي… رأيت حيوانًا فضيًا في الثلج. يشبه… يشبه ثعلبًا…”
وفور أن لفظت كلمة ثعلب فضي، خطف جيروم الكرة الزرقاء من يدها دون تفكير.
“م-ماذا؟ أيّ هراء هذا؟ لا يمكن لشيءٍ كهذا أن يوجد قرب القلعة في طقس كهذا! أ… أحم.”
وما إن تفوّه جيروم بإجابته المرتبكة حتى تغيّر لونُ الكرةِ في راحة يده، وبسرعة البرق تحوّلت إلى لونٍ قرمزيّ قاتم، فاضحٍ حدّ الفضيحة.
رمق جيروم الكرة بعينين مذعورتين، وسرعان ما خبّأها خلف ظهره كأنه يخفي جريمة.
وفي اللحظة التالية—ومن خلفه تمامًا—انطلقت نبرةٌ رجولية رخيمة، واثقة، متكاسلة بطريقة تثير القشعريرة:
“يبدو أنّ هذه اللعبة… نافعة أكثر مما توقعت.”
ما إن سمعت المرأة الصوت حتى استدارت، لتصطدم عيناها بمشهدٍ كفيلٍ بإيقاف أنفاسها قبل أن تستوعب ما يحدث.
كان هناك رجلٌ آخر—بشرة بيضاء كأنها نُحتت من رخامٍ مقدّس—يتكئ على إطار الباب ببرودٍ غير مبالٍ، يراقبها بعينين ليليتين لا تعرفان الرحمة.
تقدّم بخطواتٍ هادئة… وكل خطوةٍ كانت كأنها تُسحب بتيارٍ جليديّ من مهابةٍ لا يقوى أحد على مقاومتها.
ملامحه… يا لروعة ملامحه.
قسماتُ وجهه مصقولةٌ كما لو أنّ صانعًا خفيًا نحتها من لوحٍ من جليدٍ صافٍ، متقنٍ حدّ الإزعاج.
عيناه الحادّتان—بعُمق الليل وهدوئه—تعكسان سأمًا أزليًّا من هذا العالم.
وشعره الفضيّ الطويل ينسدل على كتفيه كوميض قمرٍ يتلاشى فوق سطح بحيرةٍ جليدية.
ولوهلةٍ كاملة… كانت المرأة تحدّق فحسب. لا كلمة، لا حركة، لا رمشة. كأن عقلها توقّف عن العمل بمجرد محاولة فهم هذا الجمال الخطر.
ثم—ويا للمفارقة—كانت هناك شامةٌ صغيرة أسفل عينه اليسرى، نقطةٌ داكنة تكاد تكون سحرًا مستقلًّا بحد ذاته، تزيده جاذبيةً لا يمكن وصفها مهما عظمت البلاغة.
ظلّت المرأة على حالها—فمٌ نصف مفتوح، عينان متّسعتان، صمتٌ مُحرج—إلى أن قطعه إيفان ببرودٍ واضح:
“ألا تفكّرين بإغلاق فمك؟”
ارتجفت، ثم أغلقت فمها على الفور، مطلقةً “هه—” صغيرةً متوترة.
تابع أمير القلعة بلهجته المعهودة:
“جيروم. أعطني تلك الكرة. أما أنتِ… فأعيدي حملها.”
عادَت الكرة الشفافة تستقرّ فوق راحتي المرأة، كأنها وزنٌ رهيب يتربّع على قلبها نفسه.
وبنبرةٍ خافتة لكنها لا تخلو من قوّةٍ مخيفة قال إيفان:
“قبل أن تفقدي وعيك… طلبتِ شيئًا.”
كانت المرأة تحدّق إليه بذهولٍ صامت، فيما جيروم بجانبها ابتلع ريقه بعنف.
فلو كانت كلمات سيده حقيقية، ولو كانت هذه الغريبة قد جاءت إلى القلعة سعياً خلف شيءٍ ما… فإنها ستكون أخطر بكثير من مجرد متعقّبة حمقاء أخرى.
ثم تقدّم منها خطوةً واحدة… لكنها كانت كفيلة بإسكات الهواء من حوله.
“ألا… تتذكرين؟”
التعليقات لهذا الفصل " 2"