2
حين تخلّص لياندر من صدمة السقوط في الماء، أدرك ثلاث حقائق مريحة.
الأولى أن الماء لم يكن عميقًا بما يكفي ليغرق فيه. الثانية أن الحوض لم يكن مغطى باللزوجة نفسها التي رآها في كل بركة داخل غابة سبيكنت.
الثالثة أن الشمس كانت تسخّن الماء، فصار لطيفًا للغاية.
لوّح لبلو لِغ ليخبره أنه لم يتكسر في الهبوط.
صرخ بلو لغ من فوق
“إن لم تغسل نفسك جيدًا، سأنزل وأغسلك بنفسي.”
جعلته الفكرة يشيح بصره بحثًا عن صابون وليفة. وجد كليهما وبدأ في الغسل.
ثم أدرك بحزن أن الحلزون داخل خوذته كان أنظف منه.
فقد كان يلوّث الماء النقيّ بمجرد وجوده فيه.
تنهّد وأكمل. لا بد أنهم يواجهون المشكلة نفسها مع كل زائر.
فلا طريق آخر إلى القلعة سوى غابة سبيكنت.
يوجد بحيرة وراء القلعة وجبال تليها… ماذا يوجد خلف الجبال؟ لا يعرف لياندر.
رحلاته كانت في الاتجاهات الأخرى.
متشوقًا لإنهاء مرحلة الاستحمام من رحلته، أخرج أشياء غريبة من أذنيه، نفخ أشياء خضراء من أنفه، بصق بعض العجائب، حكّ شيئًا يشبه بلاط الأسطح عن ساقه، ثم سحب كرة مخاط بلا عظام من منتصف ظهره ذلك الموضع الذي لا يستطيع أحد الوصول إليه مهما حاول.
وبعد أن صار نظيفًا جدًا، بدا وسيماً كأمير.
كانت الملابس التي أعطوه إياها أفضل من تلك التي يرتديها في البلاط الملكي. ووفى
بلو لغ بوعده، فرتّب له حلاقة وجهه وشذّب قصة شعره المرتجلة.
وإن كان يبدو كأمير لمجرد أنه صار نظيفًا، فكيف بدا بعد أن اكتملت هيئته؟
أطلق بلو لِغ شهيق اشمئزاز.
“لم أكن أعلم أنهم يصنعون بشرًا جميلين لهذه الدرجة ،مقرف. أظن أن هذا لصالحنا في النهاية. لو لم تكن فتى جميلًا، لما نجح الأمر.”
“وماذا أفعل بالضبط؟” سأل لياندر وهو يربط رباط الحذاء الذي أعطوه له.
شدّ بلو لغ رباط قناعه.
“هل رأيت شبحًا من قبل يا بُني؟”
“ظننت أني رأيت كثيرًا منهم، لكن كلما اقتربت، لم أجد شيئًا.”
“إذًا أنت رأيت الكثير من الأشباح.”
ضحك لياندر. “هكذا إذن؟”
“نعم. الأشباح مثل الغيوم،” قال بلو لغ. “تراها من بعيد، لكن حين تكون أمام وجهك تختفي كالدخان. تستطيع أن تمرّ من خلالها، وإن لم ترغب بالكلام معك فلن تعرف حتى أنها موجودة. هل خفت حين رأيتها؟”
نظر لياندر حوله باستغراب.
“أنا فارس، أقتل الناس أنا صانع أشباح. بالطبع لا.”
“ممتاز!” قال بلو لغ بفرح.
“إذن لن تواجه مشكلة في مقابلة السيدة.”
تبعه لياندر خارج غرفة الملابس.
“قل لي إنها ليست المرأة التي رأيتها مع الخراف على التل.”
“ليست هي، تلك هي الصبية. رأيتها أنا أيضًا. من عاداتها أن تختبئ بين الخراف حين تتجنب واجباتها. لكنك محق، الاثنتان متشابهتان جدًا.”
وبمجرد أن ارتاح لأنه لن يلتقي شبحًا للمرأة التي أعجبته، سأل لياندر، “متى سأستعيد درعي وسيفي؟ أريد سيفي خصوصًا، فهو ثمين.”
توقّف بلو لغ وصفع لياندر على صدره بظاهر يده.
كانا في ممر طويل بأقواس عالية فوق رأسيهما. من جانب تطل الأعمدة على المياه المتماوجة والجبال، ومن الجانب الآخر جدران القلعة.
كان المنطادي قصيرًا، بالكاد يصل إلى عضد لياندر.
“إنها هنا،” قال. “ابقَ واقفًا حتى تخاطبك. انظر إن استطعت أن تراها. سأذهب لأجلب سيفك.”
غادر المنطادي، وبقي لياندر واقفًا على الحجارة، يبحث عن أثر دخان في مكان لا يجب أن يكون فيه.
وأخيرًا رآه. نفثة دخانية حمراء، مثل تلك التي تنتج حين ينفخ رجل بخفة في غليونه بدلًا من سحب الدخان منه. كانت عالقة أمام درج حجري.
اقترب لياندر بحذر.
“اتبعني.” جاءت الكلمات همسًا فوق النسيم.
صوتها وشكلها ذكّراه بشخص مطعون يتكلم بصعوبة ليقول آخر ما عنده. أما عبارة اتبعني تحديدًا فكانت ثقيلة، كأنه سمعها كثيرًا من جنود يحتضرون ويدعونه للحاق بهم.
لم يكن لياندر يخاف الموت ولا أي شيء آخر.
فالفارس يُدرّب على الخوف من لا شيء. ومن دون خوف، صعد أولى درجات السُّلَّم الذي يلتفّ حول نفسه صعودًا في برج أسطواني.
وفي قمته، نظر إلى الأسفل نحو العشب بين الجدارين.
فرأى الصبية صاحبة الفستان الأحمر مرة أخرى.
كانت تحمل خروفًا مولودًا حديثًا، ومع انعكاس الضوء على شعرها الذهبي المتشابك حول وجهها، شعر لياندر أن شيئًا يُنتزع منه.
لكن تذكّر أنه فارس قبل كل شيء.
“ما الذي جئت بي لأفعله؟” قال بصوت منخفض كجرس نحاسي.
“أترى تلك الفتاة؟” أصبح الدخان الأحمر أكثر وضوحًا وهو ينزلق فوق أذنه، ثم يهبط إلى صدره ليختفي.
“طبعًا أراها.”
“إنها مصدر كل المشاكل” واصلت الرائحة بلا جسد.
“أهي كذلك؟”
“أريدك أن تتخلص منها،” قالت بصوت قاطع.
كاد لياندر يضحك. بالطبع. الشبح يحاول جرّ الناس إلى العالم الآخر. كان يتوقع ذلك من أول وهلة.
تغيّر المشهد على العشب، إذ أقبل رجال كُثر نحو الصبية.
حتى الآن، لم يكن لياندر قد رأى في القلعة سوى الصبية، وبلو لغ، وغمامة الدخان الأحمر التي تُسمى السيدة.
لم يكن يعرف أن هناك سكانًا آخرين. كانوا هادئين للغاية. لكنه الآن رأى ما لا يقل عن عشرين رجلًا يهرعون نحو الصبية.
“سأرافقك إلى العشاء!”
“لا، سأحضرها بنفسي!”
“كلا، أنا!”
مسح لياندر ذقنه بيده. هل سيشهد شجارًا كاملًا من أجل امرأة واحدة؟ ضحك.
“وكيف تريدينني أن أتخلص منها؟”
“غدًا ليلًا، ستأخذها وترحل. نم جيدًا الليلة، فغدًا لن تنام.”
جاءت الكلمات إليه مثل منطاد يُسحب بعيدًا بالريح. وانطفأ الدخان الأحمر.
تدحرجت عينا لياندر ضجرًا. لا بد أن هذه لغة الأشباح. لم يسمعها من قبل. فهم لا يستطيعون الكلام إلا بالألغاز والدلالات والقليل من التهديد. تشبه تمامًا قصص الأشباح التي يسمعها حول نيران الجيش، حتى بدت المقابلة عادية تمامًا.
تثاءب، ومضى ليبحث عن العشاء الذي وعده به الرجال المتشاجرون في الساحة.
Chapters
Comments
- 2 - نفثة من الدخان الأحمر منذ 3 ساعات
- 1 - فارس الوحل منذ يومين
- 0 - ملاحظة منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 2"