1
لياندر لم يكن يحب السير في غابة سبيكنِت.
وسُمّيت بهذا الاسم المقزّز لأنها مكان مقزّز بالفعل.
كان يرتدي درعه وخوذته ويمشي وهو يرفع ترس الفارس أمامه، لأنه إن لم يفعل، شعر وكأنه وسط أشرس معركة خاضها في حياته.
كانت الأغصان تنقضّ عليه فجأة كأنها سيوف الأعداء.
وأحيانًا كان يطأ على شيء طريّ. يواسي نفسه بأنه ربما داس طرفًا من مستنقع يغلي قليلًا، ثم ينظر للأسفل ليكتشف أن حدسه الأول أنه داس على جثة كان صحيحًا.
صحيح أنها ليست جثة بشرية كما كان سيواجه في ساحات القتال، وهذا أفضل، لكنها كانت أسوأ من جهة أخرى لأنها متعفّنة منذ زمن.
ربما كانت غزالًا… ربما وحيد قرن… وربما يجب أن يتوقف عن النظر إلى أسفل كلما داس على شيء غريب.
بعدها صار ينتبه للفخاخ الحديدية أكثر.
أي مجنون زرع كل هذه الفخاخ؟ وقع في ثلاثة منها، ولحسن الحظ كان درعه فخمًا بما يكفي ليحميه، لكنه كان يظل عالقًا حتى يجلس على مؤخرته ويفتح آلية الفخ بطرف سيفه.
أغرب مرة كانت حين اضطر للجلوس فوق دب أشهب حديث الوفاة كي يفتح فخًا.
لم يمت الدب بسببه. ولياندر لم يعرف مم مات أصلًا.
لم يكن لياندر سيعبر سبيكنِت من أجل المتعة.
كبير السحرة في رتبته أصرّ على أن يجيب نداء الاستغاثة القادم من قلعة ترافيستا.
فالمنطقة جزء من أراضي سيدهم، ورغم أن الغابة اللزجة جعلتها أسوأ بقعة في تلك الأراضي ولا أحد يحب زيارتها، فإن سادة قلعة ترافيستا يدفعون ضرائبهم بمنتهى الانضباط.
ولا أحد يرغب في أن يتوقفوا عن ذلك، حقًا. جمع الضرائب أمر بالغ الأهمية، ولم يكن غريبًا أن يخوض لياندَر وبقية الفرسان معارك بسببها.
لم يسمع أحد من القلعة منذ سنوات سوى الأموال الموسمية التي يرسلونها بمنطاد صغير.
حتى ذلك الشتاء، حين طلبوا المساعدة.
كانوا يريدون استعارة فارس واحد فقط.
اختير لياندر لأنه استوفى الشروط المذكورة في الطلب.
أعزب: تم.
دون الرابعة والعشرين: تم.
لا تنقصه أطراف ولا عيون: تم.
كان هناك المزيد، لكن لياندر لم يرَ باقي القائمة.
أخذ الساحر الظرف من الرسول، كسر الختم، قرأ الرسالة، ثم رفع رأسه نحو الفرسان حول الطاولة.
وبعدها مزّق الجزء السفلي من الرسالة ولفّه كأنبوب صغير وابتلعه كما يفعل آكل السيوف.
وتحرك تفاحة آدم في حلقه بالطريقة نفسها. ثم أشار إلى لياندر وأخبره أنّه المختار للذهاب إلى قلعة ترافيستا.
حينها فقط رأى لياندر الرسالة والشروط.
كان هناك شيء يُخفى عنه.
طبعًا.
وظنّ أن ذلك الشيء هو إجباره على اجتياز غابة سبيكنِت والكآبة الصخرية التي تخيم على كل ما حوله.
صار درعه بلون أخضر مريض حين وصل إلى الساحة التي تعلن نهاية الغابة.
بعض أجزاء الدرع كانت زلقة من اللزوجة.
متى لمس أي شيء لزج؟ كل دقيقتين تقريبًا.
أجزاء أخرى كانت مكسوّة بالطحالب كأنها مشعّرة ولا يعرف أين التقطها.
وجد كرة طحلبية كاملة في ياقة درعه.
وكان هناك شيء غريب ورخو يتدلّى من مرفقه.
هل هو قنديل بحر؟ أم سلطعون منزوع العظام؟ هزّه فسقط بصوت “سبلش” غريب، ثم زحف مبتعدًا.
راقبه لياندَر لحظة قبل أن يدرك أنه كان يشاهد كتلة مخاط حيّة تعود إلى الغابة، حيث تنتظرها كتل مخاط أخرى. خُيّل إليه أنه سمع أصوات ترحيب.
وما إن خطا خارج مدى الأشجار إلى العشب العادي، حتى فتح واقية خوذته أخيرًا.
ما رآه أمامه كان أبعد من أي خيال. ماذا كان ينظر إليه؟
أول ما لفت نظره كان الخندق. لم يكن فيه ماء، وكان واسعًا جدًا لدرجة أنه حتى لو وُجد جسر متحرك، فلن يصل إلى الطرف الآخر لأن جدران القلعة عالية للغاية. وعندما اقترب من الحافة، رأى أن الخندق مملوء بأكوام من الشظايا المعدنية. ومع ذلك، كانت هناك زهور صغيرة مبهجة تنمو بين الشفرات والحواف المسنّنة.
لم يستطع عبوره.
خلع خوذته ورماها على الأرض. وما إن لامست الأرض حتى استلقى داخله حلزون، ثم بدأ يزحف بها مبتعدًا.
راقبه لياندر كما لو كان مسحورًا. كان يجب عليه أن يسترجعها، لكنها كانت لزجة جدًا قبل أن يتدحرج الحلزون إليها، والحلزون يتحرك ببطء شديد. وإن زحف طوال النهار فلن يبتعد سوى أقدام قليلة. تركه ومضى.
عاد ليركز على القلعة.
كانت رمادية، مبنية من حجارة جميلة. يحيط بالسور الداخلي عشب أخضر، وعلى المنحدر رأى كرات بيضاء صغيرة. كانت لطيفة للغاية… هل كانت تقفز؟ أم ترقص؟ حدّق أكثر فاكتشف أنها خراف، لكنه لم يرَ خرافًا بهذه الرقة في حياته.
كانت بيضاء كلون السحاب، بوجوه سوداء صغيرة، وكان يعتنى بها من قِبل أجمل امرأة رآها في حياته بفستان أحمر.
لو لم يكن لياندر يملك بصرًا حادًا من قبل، فقد اكتسبه لتوّه.
فعندما لم يستطع تمييز الخراف بوضوح، أصبح قادرًا فجأة على رؤية المرأة بأدق التفاصيل.
كان شعرها أشقر ذهبي، يتدلّى كموجات من بريق الصباح، يعكس بياضًا سائلاً يلمع كضوء الشمس على البحر.
رأى رموشها ترتجف في الهواء، ودهش لطولها والتفافها.
أما فستانها فكان يمكن رؤيته لو كان يقف على سطح القمر. فستانها… آه، لقد فعل فيه شيئًا عجيبًا.
كان أحمر.
أحمر كلون قلبه.
أحمر كلون نبضه.
أحمر كلون النار التي تتأجّج فيه حين يقتحم المعركة.
أحمر كلون أحلامه حين يحلم أحلام الجند.
لون معركة تُحسَم بشرف، ولون دم ينساب بسهولة، ولون نصر، ولون امرأة تنتظره عند عودته، لون مجد، ولون حظ، ولون منحنيات ناعمة ودفء في الليل.
كان يشعر أنه لا بد أن يحظى بها.
هزّ رأسه بعنف. أيّ تفكير أحمق هذا؟ كانت تطعم حملاً من راحة يدها وتضحك ببراءة كطفلة صغيرة.
كان يختلق عنها ما يشاء، وهذا يجب أن يتوقف.
لكن على الأقل، استُدعي إلى القلعة، وقد تسنح له فرصة للقائها وهو أمر يستحق الانتظار.
فكثيرًا ما صادف امرأة تثير اهتمامه بينما كان في مسير عسكري، فلا يستطيع سوى متابعتها بعينيه.
أما الآن، فهو ذاهب إلى هناك، وقد يصادفها في أي لحظة.
رسمت الفكرة بسمة على وجهه، قبل أن يتذكر الخندق المليء بشفرات المناشير الصدئة.
كيف سيعبر؟
كان لا يزال يفكر حين ارتفع جسم أبيض من خلف الجدران.
راقبه باهتمام، رغم بطئه. سرعان ما اتضح أنه منطاد. لم يرَ الكثير منها في حياته، لكن هذا كان ضخمًا جدًا. بل أصبح أضخم حين غيّر اتجاهه نحوه.
في البداية ظنّ أن المنطاد يحمل له رسالة معلقة بخيط، لكن مع اقترابه أدرك أن الجسم أكبر بكثير من ذلك.
حدّق بدهشة. كان هناك منطادي صغير يقف في سلة صغيرة تحت البالون الهائل، وحبل سميك يتدلّى منه، ينتهي بقرص.
“تحياتي!” نادى المنطادي.
“مرحبًا”، رد لياندر.
“طريقة تنقّل مدهشة.”
كان المنطادي أغرب شخص يراه لياندر.
من بعيد بدا كأنه جنّي صغير، لكن عند الاقتراب اتضح أن ملامحه مخفية تمامًا.
كان يرتدي زيًا من نفس مادة البالون، فيبدو كأنه امتداد له، صوت يتحدث بالنيابة عنه. لم تظهر عيناه ولا فمه، بل تكلم من خلف قناع قماشي.
“أنا لياندَر تشارثلُك، الفارس الموفد من غلاسماير لمساعدتكم.”
“نعم، نعم. لا تبدو من النوع الذي نراه هنا غالبًا”
قال المنطادي. “أنا بلو لِغ، وسأحملك إلى القلعة.”
ضحك لياندَر؛ فقد كانت المزحة أفضل بكثير من الغابة اللزجة والخندق المعدني أمامه.
“مع أني يجب أن أقول”، واصل بلو لِغ، “إن وزنك يقلقني قليلًا. نستخدم هذا المنطاد عادة لحمل الأطفال أو الشبان الذين فاتهم الكثير من الوجبات. حسنًا…”
تنهد. “فلنجرب. ضع قدميك على القرص وتمسّك بالحبل وسأرى إن كان باستطاعي رفعكما.”
رمقه لياندر بنظرة غريبة. لم يخبره أحد من قبل بأنه ثقيل. لا أحد يهين فرسان المملكة. لكن بلو لغ كان في موقع فريد يستطيع الطيران بعيدًا وتركه بين الغابة وخندق المناشير.
تجاهل لياندر الإهانة، التقط خوذته، وأخرج الحلزون منها قائلًا “آسف يا صاحبي”
ثم وضعها تحت ذراعه. وقف على القرص وأمسك الحبل.
بذل المنطادي جهدًا واضحًا، ثم استسلم.
“أنت ثقيل جدًا. هل يمكنك ترك شيء خلفك؟”
ترك لياندر الحبل، انحنى، أعاد الحلزون إلى الخوذة بصوت “سلوب” غريب، وضعها على الأرض، ثم أمسك الحبل مجددًا.
“جرّب الآن!”
ضحك المنطادي. “عليك أن تترك أكثر من خوذتك.”
منزعجًا، بدأ لياندر يفتّش نفسه.
رمى قربة الماء كانت فارغة، وحزمته كل أدوات التخييم مبتلة باللزوجة، ومنشفة عنقه تحميه من احتكاك الدرع.
ثم توقّف. نظر إلى الأرض المليئة بممتلكاته ثم إلى البالون المنتفخ فوقه، وأدرك أنه مضطر لتضحيات أكبر. رمى ترسه وكان يرى أن هذا أكبر ما يمكن أن يُطلب من رجل وجرب مجددًا.
“ما زلت ثقيلًا”، قال المنطادي مرتجفًا وهو يتشبث بسَلّته البيضاء.
هل كان خائفًا منه؟ لياندر لن يؤذيه. فكل هذا ليس ذنب المنطادي، لكن صبره بدأ ينفد.
نزع درعه قطعة قطعة، منتبهًا لكل آثار الفخاخ فيه. حاول وهو يرتدي السلاسل المعدنية فقط.
“ثقيل.”
“حسنًا…” سحب لياندر السلاسل فوق رأسه. وفور أن خلعها شعر أنه شبه عارٍ. تحتها لم يكن يرتدي سوى قميص داخلي كان أبيض يومًا ما، والآن ملطخ بالعرق والدم ,ليس دمه… على الأغلب, وباللزوجة الخضراء التي تتسرب إلى كل شيء في المستنقع الذي يسميه بعض الحمقى غابة.
وكان يرتدي سروالًا خشنًا من قماش يُستعمل عادة لتصفية الجبن، لذلك كان واسع النسيج لكنه قوي. بلا تمزقات، لكن شبه شفاف. وكان سرواله الداخلي ظاهرًا تمامًا، ومتسخًا جدًا. وكأن كل جوانبه السيئة مكشوفة.
همّ بأن يركب المنطاد بهذا الشكل، حين وقعت عيناه على سيفه. لا يريد تركه. نزع الغمد فقط وجرب من جديد.
“ثقيل.”
“اللع…”
كاد يشتم، لكنه كتم نفسه. أعاد غمد السيف إلى الرزمة، ولاحظ أن الحلزون في أسفل الكومة، ثم جرّب مرة أخرى.
“ما زلت ثقيلًا.”
ألقى لياندر حذاءيه. قميصه. سرواله. أخرج شفرة حلق فترك لحيته تتساقط على العشب. ثم قصّ ذيل شعره. ووقف بملابسه الداخلية المتسخة قائلًا
“هذه آخر محاولة. إن كنت ما زلت ثقيلًا، فلن أستطيع الذهاب. لن أقطع أنفي وأقدّمه للّحاوز.”
“معقول”، قال بلو لغ، رافعًا القناع ليظهر وجهًا أكثر لينًا. “جرّب الآن.”
وقف لياندر على القرص، فارتفع المنطاد بصعوبة، لكن ارتفع.
وببطء شديد، كالحلزون، عبروا الخندق. لم ينظر لياندر للأسفل.
ركّز على العشب داخل الجدران. أكثر ما كان يخشاه أن تراه صاحبة الفستان الأحمر وهو بهذه الحالة المزرية. كان مغطى بالأوساخ… ولسبب يجهله، كانت كتلة مخاط حيّة أخرى تتدلى من مرفقه الثاني. هزّها بضيق، وثبّت نظره على التلال الخضراء. لم تكن هناك الفتاة.
وبعد أن تجاوزوا السور، وجّههم بلو لغ فوق حوض ماء كبير.
“ما هذا؟” صاح لياندر.
“مكان الهبوط.”
فهم لياندر فورًا.
“انتظر! هل كنت ثقيلًا حقًا، أم أنك أجبرتني على خلع كل شيء لتجبرني على حمّام بارد؟”
“لن تعرف أبدًا”، قال المنطادي مع ابتسامة وغمزة. ثم قصّ الحبل.
سقط لياندر في الماء صارخًا وهو لا يعرف السباحة.
Chapters
Comments
- 1 - فارس الوحل منذ 5 ساعات
- 0 - ملاحظة منذ 5 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 1"